"رومانسات" موسيقية بين المسلمين والمسيحيين

 فرقة أكاديميا ديل بياسيري من إشبيلية الإسبانية.
فرقة أكاديميا ديل بياسيري من إشبيلية الإسبانية.

احتفلت فرقة أكاديميا ديل بياسيري من إشبيلية في دار أوركسترا كولونيا بتلاقح الثقافتين الإسلامية والمسيحية موسيقيًا في القرنين الـ15 و16 بمشاركة مغنية تونسية هي غالية بنعلي. شتيفان فرانتسِن والأجواء لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Franzen

يعتبر عام 1492 بالنسبة لمعظمنا هو العام الذي "اكتشف فيه" كريستوفر كولومبوس أمريكا. ولكن ذلك العام بدأ في جنوب إسبانيا بنقطة تحوُّل مختلفة تمامًا: فقد سلَّم في الثاني من كانون الثاني/يناير 1492 آخرُ الملوك المسلمين في الأندلس أبو عبد الله (الصغير) مفاتيح مدينة غرناطة إلى خليفته المسيحي الملك فرديناند الخامس.

وانتهى بذلك الحكم العربي في الأندلس بعد عدة قرون. وعن هذا التحوُّل بالذات تحكي "الرومانسيات" - وهي قصص إسبانية ملحَّنة موسيقيًا.

"نحن نتصوَّر أنَّ المسيحيين والمورسكيين كانوا دائمًا يتقاتلون من أجل الأرض أو لأسباب دينية. ولكننا في ’الرومانسيات‘ نحصل على شعور بأنَّ الأمر لم يكن كذلك دائمًا، بل ظهر مزيج ثقافي مثير للاهتمام"، مثلما يوضح فهمي القهاي، وهو عازف كمان ومؤسِّس فرقة أكاديميا ديل بياسيري.

"غالبًا ما تكون ’الرومانسيات‘ المكتوبة من جانب المسيحيين حزينة. ويتم فيها في حالة سقوط غرناطة طرح هذا السؤال: لماذا يضطر الملك المورسكي إلى مغادرة البلاد؟ ويلاحظون أنهم "في المستقبل لن يكون لدينا هذا اللقاء بين الثقافات". وبالتالي فإنَّ ’الرومانسية‘ تعني القصة، ولكنها تعني أيضًا ’التفاهم‘ وَ ’الحب‘".

مثل حال سوريا قبل عام 2011

ويشير فهمي القهاي إلى وجود تشابه في ’الرومانسيات‘ مع سيرته الذاتية. فهو ابن لأب سوري وأم فلسطينية، وأمضى أوَّل أحد عشر عامًا من حياته في سوريا ونشأ في شارع يعيش فيه أشخاص من طوائف وأديان مختلفة: من الكاثوليك والأرثوذكس والمسلمين.

 

فهمي القهاي - عازف كمان. Der Gambist Fahme Alqhai; Foto: Accademia del Piacere
تبادل موسيقي في الأندلس: "نحن نتصوَّر أنَّ المسيحيين والمورسكيين كانوا دائمًا يتقاتلون من أجل الأرض أو لأسباب دينية. ولكننا في ’الرومانسيات‘ نحصل على شعور بأنَّ الأمر لم يكن كذلك دائمًا، بل لقد ظهر مزيج ثقافي مثير للاهتمام"، مثلما يوضح فهمي القهاي، وهو عازف كمان ومؤسِّس فرقة أكاديميا ديل بياسيري.

 

وحول ذلك يقول إنَّ الناس كانوا يلتقون ببعضهم في الشارع وكانوا يتسوَّقون من محلات جيرانهم ذوي الديانات المختلفة.

وهو مقتنع بأنَّ: "الحرب تقع دائمًا عندما يطالب الحكَّام الناس بالانتقال من مكان إلى آخر، أو بأنَّ عليهم اعتناق دين معيَّن. يجب علينا أن نتذكَّر دائمًا أنَّ الاختلافات بين الأديان لم تكن قَطّ مشكلة الناس البسطاء".

ويعرض برنامج "رومانسيات" بالإضافة إلى هذا الموضوع غير الموسيقي أيضًا روابط مثيرة بين الأصوات نشأت بشكل طبيعي تمامًا عندما كان يعزف الموسيقيون المورسكيون والمسيحيون معًا في فِرَق البلاط الملكي الموسيقيةِ وتعلموا من بعضهم تقنيات العزف.

وهذا مُثْبت من خلال الرسوم التوضيحية في كتاب الموسيقى "أنتيجاس" الشهير للملك ألفونسو العاشر، الذي يعود إلى القرن الثالث عشر.

وقد أدَّى هذا التأثير المورسكي في جنوب إسبانيا -وحتى بعد سقوط غرناطة- إلى جعل المؤلفات الموسيقية هنا مختلفة خلال عصر النهضة السامي اختلافًا ملحوظًا عن موسيقى شمال إسبانيا ومختلفة أكثر عن موسيقى شمال جبال البرانس في ذلك العصر.

"كثير من القطع الموسيقية من هذه الحقبة لها إيقاع خماسي مشتق من الإيقاعات العشرية العربية الأندلسية، بينما كان الناس في الشمال يميلون أكثر إلى الإيقاع الثلاثي والرباعي. لقد تم تلحين موشَّح ’لما بدأ‘ الذي يعتبر من أشهر الموشَّحات الأندلسية في إيقاع عشري. على سبيل المثال: اللحن المعروف ’دي، بيرا مورا‘ (Di, perra mora) -للملحن بيدرو غيريرو من القرن السادس عشر- يدمج هذا الإيقاع"، مثلما يشرح فهمي القهاي.

وتمتاز هذه الموسيقى أيضًا باستخدامها النمط الموسيقي الفريجي [نوع من السلم الموسيقي إلى جانب السلم الكبير والصغير]، وهذا شيء نادر جدًا في فرنسا وإنكلترا وعلى الأرجح أنَّه يعود أيضًا إلى تأثير العرب.

الفلامنكو: "زهرة نشأت من اللقاء بين الثقافتين المسيحية والعربية"

وبعد سقوط غرناطة بدأ عصر الاكتشافات الذي أثرى المزيج الموسيقي في الثقافة الإسبانية بتأثيرات من أفريقيا جنوب الصحراء وتأثيرات محلية من القارة الأمريكية التي كانت في تلك الفترة منطقة جديدة بالنسبة لأوروبا.

وأثراها طبعًا بموسيقى الفلامنكو، التي دمجتها فرقة أكاديميا ديل بياسيري بشكل بارز في برنامجها مع عازف الغيتار داني دي مورون بوصفها بحسب تعبير فهمي القهاي: "أجمل زهرة نشأت من اللقاء بين الثقافتين المسيحية والعربية".

وبحسب فهمي القهاي فإنَّ ارتباط الأندلس بهذا الماضي الغني ما يزال يظهر حتى يومنا هذا في موسيقى الفلامنكو، وذلك لأنَّه مثال نموذجي على كيفية مزج الفولكلور الموجود محليًا مع موسيقى الغجر الجيتانوس المهاجرين إلى جنوب إسبانيا ليشكِّل لغة نغمية فريدة.

ولكن ما هو الصوت القادر على جمع كلِّ هذه الجوانب المختلفة معًا بشكل مقنع؟ وهنا يأتي دور المغنية التونسية المقيمة في بلجيكا غالية بنعلي، التي يعرفها فهمي القهاي منذ خمسة عشر عامًا.

 

 

"غالية بنعلي ليست مجرَّد إنسانة دافئة القلب ومنفتحة بل لديها أيضًا كفنانة إمكانات هائلة"، مثلما يقول فهمي القهاي ويضيف أنَّ: "لديها معرفة عميقة بهذه الجسور بين الثقافات، كما أنَّها جلبت معها أفكارها الخاصة - مثلًا شعر معاصر لشاعر فلسطيني هرب إلى بروكسل. وهذا يعني أنَّ لدينا حركات نزوح ولجوء مختلفة في البرنامج: حركات اللجوء الحالية إلى جانب لجوء المورسكيين الذين اضطروا في الماضي إلى مغادرة إسبانيا".

تشكِّل غالية بنعلي مع المغنية كويتيريا مونيوز -صاحبة الصوت النَّدي (سوبرانو) في فرقة أكاديميا ديل بياسيري- قمة صوتية مزدوجة يُكمِّل بعضها بعضًا في جرسها الموسيقي وتعبيرها.

يقول فهمي القهاي: "لم يتم تدوين ستين في المائة من هذا البرنامج. وبهذا يمكننا تكييف أنفسنا مع الممارسة الموسيقية في ذلك العصر. لقد كانت النقطة الحاسمة بالنسبة لي هي العمل مع موسيقيين يمكنهم الارتجال. وغالية وكويتريا هما الأنسب  لهذا العمل".

 

 

شتيفان فرانتسِن

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

 

قدَّمت فرقة أكاديميا ديل بياسيري مع المغنية غالية بنعلي برنامجها الموسيقي "رومانسيات"، في دار أوركسترا كولونيا، مهرجان فليكس، يوم السبت التاسع عشر من آب/أغسطس 2023، الساعة الثامنة مساءً.