سنة العراق...على خطى الأكراد في الحكم الذاتي؟
لقد عانى العراق الذي كان مهد الحضارات- وما يزال يعاني- من أكثر الصراعات المروّعة عنفاً في التاريخ الحديث والذي يتحدى أي شكل من أشكال الإنسانية المتحضرة. من الصعب أن نتصور الموت والدمار الهائل الذي لحق بالشعب العراقي من قبل قوى أجنبية والإرهاب المحلي. ومع ذلك، لا يزال بوسع البلد أن يتغلب على أهوال السنوات الـ 14 الماضية شريطة أن يعيد قادته إعادة تقييم الديناميات الإقليمية والمحلية على نحو صحيح وأن يوافقوا على السماح لجميع العراقيين، بغض النظر عن طوائفهم وتوجههم الثقافي، باختيار هياكلهم السياسية والمدنية.
منذ غزو العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في عام 2003 قتل ما يقرب من 500 ألف مدني. وبلغ منذ عام 2006 عدد الهجمات الإرهابية المسجلة 40 ألف هجوم بمعدل أكثر من 7100 حالة قتل سنويا. وأصبح هناك ما يقرب من 225 ألف لاجئ و 3.1 مليون مشرّد داخليا. وقد أدى تدمير الهياكل الأساسية والاختلال الاجتماعي والاقتصادي في البلاد إلى تفشي الجوع والمرض على نطاق واسع، ولا سيما بين عشرات الآلاف من الأطفال المعرضين للخطر والذين يعانون من سوء التغذية. كل هذا الدمار البشري والمادي وصل أوْجه بظهور "داعش" الذي خرّب البلاد، في حين يستمر الإرهاب العشوائي الداخلي بين السنة والشيعة بلا هوادة.
هذه المأساة تتكشف الآن لأن الحكومة العراقية والشعب العراقي ما زالا يقبعان في ظل الموت والدمار، يتجولان في البرية السياسية بحثا عن الطرق للمّ شمل البلاد في أعقاب هزيمة داعش النهائيّة. غير أن هذه الجهود قد تثبت بأنها ممارسة لا جدوى منها.
تتجاهل حكومة العبادي حقيقة أن الأكراد العراقيين على وشك إقامة دولتهم المستقلة بعد استفتاء منتصف أيلول 2017، وأن السنة سوف يرفضون الوضع الراهن ولن يخضعوا أبداً مرة أخرى لأهواء حكومة شيعية في بغداد.
اضطهاد السنة في العراق في ظل المالكي وداعش
بعد أن عانت الطائفة السنية من التمييز الشديد والقمع والعنف الوحشي المرتكب ضدهم، وخاصة خلال السنوات الثماني من حكم المالكي، فقد استنتجت منذ فترة طويلة إلى أن رفاههم في المستقبل يعتمد على إرادتهم وقدرتهم على حكم أنفسهم بأنفسهم. وهم مصممون بهذا الخصوص على اتباع خطى نظرائهم الأكراد من خلال إقامة حكم ذاتي كشرط مسبق لإنهاء إراقة الدماء بين السنة والشيعة.
لا تزال المذبحة بين الطائفتين السنيّة والشيعيّة والتي بدأت مباشرة بعد حرب العراق عام 2003 مستعرّة مما أدى إلى مقتل المئات كل أسبوع. ومن غير المرجح أن يخفّ هذا الوضع طالما: أ) لا تزال الحكومة العراقية والقوى الخارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة، مغرورة بوهم الحفاظ على الوحدة الجغرافية للعراق؛ ب) إيران الشيعية والسعودية السنيّة تشنّان حربا بالوكالة في العراق لتأمين مصالحهما الجيوستراتيجية لتصبحا قوى مهيمنة على المنطقة.
وفي كثير من النواحي، فإن صعود داعش وسيطرته على أرجاء واسعة من المحافظات السنيّة الثلاث يزيد من تعميق عزم السنة على الكفاح من أجل استقلالهم عن أي قوة داخلية أو خارجية. وبالإضافة إلى المعاملة السيئة الفظيعة التي تعرضوا لها في ظل حكومة المالكي، تحمل السنة العبء الأكبر من وحشية داعش وطرق حكمه المروّع.
لقد تضرّر الأطفال أكثر من غيرهم حيث كانوا يشاهدون عن كثب قسوة داعش التي لا توصف في الوقت الحاضر. تم تجنيد الأطفال لارتكاب أشنع الجرائم وأصيب مئات الآلاف بصدمات نفسية بسبب إرغامهم على مشاهدة قطع الرؤوس والمعاملة الفظيعة للمارة الأبرياء المشتبه بهم في ارتكاب مخالفات تافهة.
"على الحكومة المركزية أن تدعم إنشاء كيان سني مستقل"
يعرض تحرير الموصل بداية جديدة لبناء مستقبل واعد للعراق. وفي هذا الصدد، أرى أن قوة العراق تكمن في أن الطوائف الرئيسية الثلاث أصبحت مستقلة سياسيا أولا بعضها عن بعض. ويجب على الحكومة المركزية أن تدعم إنشاء كيان سني مستقل وتعديل الدستور ليعكس التقسيمات السياسية والإقليمية الجديدة.
وعلى الصعيد الداخلي، يجب على الحكومة العراقية التصدي للفساد المستوطن الذي يستهلك ما يقرب من ثلث عائدات البلاد، وتنشئ سلطة عادلة ونزيهة وتشارك في التنمية الاقتصادية وتمتنع عن التعدي على الشؤون الداخلية والخارجية للأكراد والسنة في الوقت الذي يقوم هؤلاء بترتيب شؤون أقاليمهم بأنفسهم.
وبالنظر إلى أن الثلاث محافظات السنية ليس لديها نفط، فإن تنميتها الاقتصادية تعتمد على تأمين حصتها من الإيرادات عن طريق تمرير قانون النفط الذي طال انتظاره. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الكيان السني الجديد سوف يحتاج إلى الدعم المالي من دول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ليصبح كيانا قابلا للحياة.
يجب على الحكومة المركزية التي تقودها الشيعة في بغداد عدم احتجاز السنّة كرهائن بحرمانهم من نصيبهم المشروع وبالتالي منعهم من إقامة دولتهم، حيث سيكون ذلك بمثابة الوصفة لاستمرار إراقة الدماء والدمار اللذين لن يؤديا إلاّ لتعميق الفجوة بينهما، بما يضر بمستقبل البلد.
"خارطة طريق ستضع حدا للحرب بالوكالة بين السعودية وإيران"
إن فوائد خارطة الطريق هذه هائلة حيث أنها ستؤثر أولا بشكل مباشر على استقرار العراق في المستقبل وتضع حدا للحرب بالوكالة بين السعودية وإيران حيث ستدرك الدولتان أنهما لا تستطيعان تغيير واقع التعايش السني الشيعي، سواء في العراق نفسه أو كجيران. ومن شأن هذا الترتيب أيضا أن يخفف من التهديدات الإيرانية التي تعتبرها دول الخليج وإسرائيل مصدرا للتوتر الإقليمي والصراع العنيف.
وعلاوة على ذلك فإنها، أي خارطة الطريق، ستقلل إلى حد كبير من الأنشطة المسلحة وتعزز الأمن الإقليمي وتشرع في عملية سلام ومصالحة لإنهاء الانتقام والعقاب اللذين سينشآن حتما نظرا للعنف المروع الذي ألحقه كلّ منهما بالطرف الآخر على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية.
فقط عندما يقيم السنة كيانهم الخاص بهم وينشئون البنية التحتية لدولة مستقلة سوف يشعرون بالتمكين والثقة للعمل بشكل وثيق مع الأكراد والشيعة على قدم المساواة، الأمر الذي من شأنه تمهيد الطريق لكونفيدرالية فعالة بينهم في وقت لاحق.
"على الشعب العراقي السمو فوق الطائفيّة ورسم مصيره بنفسه"
إنّ دور الولايات المتحدة في هذه المرحلة المبكرة أمر بالغ الأهمية. يجب على الولايات المتحدة أن تدعم تأسيس كيان سني مستقل والحفاظ على القوات العسكرية المتبقية طوال الفترة الانتقالية وتدريب وتجهيز أفراد الأمن وكبح الجماعات المتطرفة وتوجيه السنة في تطوير هيكل سياسي يتفق مع معتقداتهم وثقافتهم وتطلعاتهم.
وللتأكيد يجب وضع نهاية للموت والدمار اللذين عانى منهما العراقيون خلال السنوات الـ 14 الماضية. لقد تضرّر الأطفال أكثر من غيرهم، فقد عانوا من سوء التغذية والمرض والتشرّد مع إصابتهم بجروح نفسية دائمة من شأنها أن تستمر مدى الحياة. وقد قتل عشرات الآلاف منهم وأصبح العديد منهم أيتام لا يعرفون ما حدث لهم ولماذا.
لقد حان الوقت لإنهاء المأساة العراقية. يقع جزء كبير من الشفاء والتئام الجروح وإمكانات مستقبل أفضل وأكثر إشراقاً في أيدي الشعب العراقي نفسه، إذ هم من عليهم أن يسموا فوق الطائفيّة، وهم من عليهم رسم مصيرهم بأنفسهم.
ألون بن مئير
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
أ.د. ألون بن مئير، أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط بمعهد السياسة الدولية.