الشطرنج الدموي في سوريا
نجا بشار الأسد من الضربة الأمريكية، وتحقق انتصار قوى "الممانعة" على الإمبريالية! هكذا صار تدمير الأسلحة الكيميائية السورية، التي قيل إنها وجدت من أجل بناء توازن استراتيجي مع إسرائيل النووية!
مقولة "الممانعة" انتصرت اليوم، كما انتصرت في هزيمة حزيران/يونيو عام 67. يومها أفتى فلاسفة البعث أن العدوان الإسرائيلي فشل لأنه لم ينجح في إسقاط الأنظمة التقدمية! ومرت الكذبة وعاش العرب نشوة انتصارهم الكبير وسط مشاهد قنابل النابالم واللاجئين الجدد والجنود الهائمين على وجوههم حفاة، وبعدما احتلت إسرائيل سيناء والجولان والضفة وقطاع غزة.
أما معسكر المعارضة السورية، الذي أهلكنا على الشاشات بحتمية الضربة، فإنه رغم كل أمراضه، لم يصل إلى احترافية ترقى إلى احترافية الممانعين في صناعة الكذب، لذا انكفأ على نفسه، لاعنا خيانة الحليف الأمريكي الذي لم يكن يوما حليفا إلا في الأوهام.
دروس الشطرنج الأمريكي الروسي المغمس بالدماء
كان من الممكن ابتلاع هذا الخواء والقول إن لا جديد تحت سماء العرب المرصّعة بفارغ الكلام، لولا أن هذا الكلام يأتي كي يحجب الدم ويغسل جريمة سفّاح الشام وديكتاتور سوريا محولا سؤال الجريمة إلى سؤال عن الأداة وليس عن مسؤولية المجرم.
والله صار الكلام معيبا ومخجلا، كيف تتكلم وسط "عصفورية" المحللين الاستراتيجيين، الذين حولوا السياسة إلى مسخرة؟ وبدل أن نستنتج دروس الشطرنج الأمريكي الروسي المغمس بالدماء، تاه الكلام وضاع التحليل وصارت السياسة أحجية تحتاج إلى المنجمين!
تعالوا نحاول الخروج من هذا النفق المعتم من أجل أن نقرأ لعبة الشطرنج، التي وصلت إلى ذروتها المفاجئة والمدهشة في الاقتراح الأمريكي بتدمير السلاح الكيميائي السوري، الذي تحول إلى مشروع روسي، ما لبث نظام الأسد أن وافق عليه "بأريحية" مدهشة ومن دون أي تحفظات.
غياب اللاعب السوري أو العربي
لا شك أننا أمام لاعبَين ماهرَين يحسنان تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة، وهذه واحدة من تعريفات الديبلوماسة. لكن لا بد من أن نشير أولا إلى غياب اللاعب السوري أو العربي، فهذا اللاعب لم يستطع الوصول إلى مرتبة البيدق، بل كان مجرد رقعة الشطرنج. وكل محاولات وليد المعلم وبشّار الجعفري لبيدقة (أي تحويله بيدقا) معلمهما الكيماوي، باءت بالفشل.
الولايات المتحدة كانت تواجه مأزقا حقيقيا، فالخط الأحمر جرى تجاوزه في مجزرة الكيماوي الوحشية في الغوطة، وكان على باراك أوباما الذهاب إلى عمل عسكري صغير ورمزي رغما عنه وفي ظل رفض الرأي العام الأمريكي والغربي لأي مغامرة عسكرية بعد البهدلة الأمريكية في العراق.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما المتردد والحمائمي، الذي لا يريد إسقاط الأسد، (وهنا يقع جوهر الحكاية) لاقاه بوتين الصقري، ولكن العاجز عن دخول الحرب من أجل إنقاذ "زبونه السوري". هكذا التقى التردد بالعجز من أجل صوغ واحدة من أكبر الخدع الديبلوماسية في زمننا.
بزلة لسان أخرج كيري مشروع الكيماوي من كمه، فالتقطها لافروف وحولها إلى اقتراح، ولم يكن على وليد المعلم سوى أن يقرأ بصوت مرتعش وكأنه يقرأ نصه للمرة الأولى، الموافقة السورية وإلى آخره…
زلة اللسان الأمريكية كانت مسرحية، أما الاتفاق فرُسمت ملامحه في قمة بيترسبورغ في مناخ ساده التجهم بين الزعيمين الأمريكي والروسي، لكنه لم يكن تجهم الخلاف في وجهات النظر فقط، بل كان أيضا تجهم الورطة السورية التي وجد الزعيمان نفسيهما عالقين فيها.
الخطوة الأولى نحو تقنين الحالة السورية
الأمور لم تنته هنا، لكن الاتفاق الكيماوي قد يكون الخطوة الأولى نحو تقنين الحالة السورية من قبل الدولتين الكبريين، وتحويلها إلى معزل أو كرنتينا للقتل والإرهاب وإلى آخره، عبر ضبط تداعياتها ومنعها من الانتشار. أي أن قراءتي لهذا الاتفاق هو أنه ليس خطوة نحو إنهاء الحرب في سوريا، بل هو خطوة نحو تنظيمها ومحاولة محاصرة تداعياتها.
نزع الكيماوي يطمئن إسرائيل وهذا هو بيت القصيد الأمريكي، ويعطي مظلة حياة مؤقتة لنظام الأسد، وهذا ما يريده الروس، ولا يسمح بانتصار الشعب السوري على جلاديه، وهذا ما تريده الولايات المتحدة وروسيا!
لا شك أننا أمام دبلوماسية مبهرة جاءت لتغطي العجز والتردد. وتوحي بأن ما يسمى بالنظام العالمي، الذي لا يزال في طور تشكله، نجح في سحب فتيل الحرب في سياق معالجته لإحدى المشكلات الدولية المستعصية.
النظام السوري ومعه جوقة الممانعين، يرقصون طربا لانتصارهم، وهم يعلمون أن أحـــد أسباب التردد الأمريكي، ليس الخوف منهم بل الخــــوف علـيــهم من السقوط. فالإمبــــريالية الأمريكية لا تثق بقدرة أصدقائها وعمــــلائها على بناء نظام يضمن أمن إسرائيل مثلما فعل نظام الأسد خلال أربعة عقود.
كما أنها تتخوف من نفوذ التيارات الإسلامية المتطرفة في المعارضة السورية، وهو نفوذ يعود في جوهره إلى عملائها العرب، الذين وجدوا في التيارات التكفيرية وصفة جاهزة لقتل روح الثورة الديمقراطية وتحويلها إلى صراع سني شيعي مدمر.
المأزق إذاً ليس مأزق الولايات المتحدة وروسيا في لعبة الشطرنج السورية، التي جعلها بوتين نافذته للعودة إلى السياسة الدولية كشريك مضارب، بل هو مأزق الشعب السوري في مواجهة الاستبداد، الذي أثبت أن أسلحة الدمار الشامل التي يملكها ليست معدة ضد إسرائيل، بل مخصصة لإبادة الشعب السوري، وتدمير احتمالات التغيير.
نجح الاستبداد في تحويل سوريا إلى رقعة شطرنج يتبارى فيها اللاعبان الدوليان فوق أنهار الدم والدموع، وأثبت أن الجريمة لا حدود لها. لكنه لن ينجح في البقاء في السلطة، ولن يتمكن من سحق إرادة شعب التضحيات والمقاومة والصمود.
وهذا هو الرهان.
إلياس خوري
حقوق النشر: إلياس خوري 2013