حصاد الربيع العربي.....انتخابات الهوية
سياسة الهوية بهذه التبسيطية تشير إلى إحدى العلامات الكبرى التي أفرزتها عقود من الديكتاتورية، إنها الفراغ الأخلاقي. الأنظمة الانقلابية العربية سقطت عدة مرات قبل أن يجرفها تيار الثورات العربية المشتعلة، وقامت بتدمير المرجع الأخلاقي للسياسة بشكل كامل. سقطت أولا في عجزها عن حلّ المسألة الوطنية، فكان الحلان اللذان اعتمدا للصراع العربي- الإسرائيلي أشبه بالكارثة: الاستسلام على طريقة كامب ديفيد المصرية، أو الاستمرار في ممانعة التأجيل على طريقة النظام السوري. ما قاد إلى فراغ كبير حاولت قوتان إقليميتان هي إيران وتركيا أن تملآها.
وسقطت ثانيا عند سقوط جدار برلين، حيث لم تفهم أن هناك منظومة ثقافية واخلاقية قد تهاوت. فالاستبداد العربي الذي اتخذ من كوريا الشمالية نموذجا، لم يسقط فقط في التوريث، لكنه سقط نهائيا في مستنقع القبلية والجهوية والطائفية، بحيث لم تعد لغته السياسية سوى قناع شفاف يكشف بدل أن يخفي. وسقطت ثالثا عندما لم تفهم من العولمة سوى وجهها البشع، فحولت الاقتصاد إلى رهينة مافيا عائلية، تنهب وتدمر ولا تشبع.
وسقطت رابعاً عندما خلقت من حولها فراغا أخلاقيا، احتله الكذب والقمع والمحاباة والنفاق. سقطت الأنظمة بعدما نجحت في افراغ المجتمع من البنى الاجتماعية التي تصنع السياسة: الأحزاب والنقابات، من خلال احتكارها الحصري للسياسة والإعلام، بحيث صار المجتمع الأهلي غريبا عن سياسة بلاده.
سياسة الهوية
في هذا المناخ انفجرت الثورات كتعبير عن احتقان طويل لا مسارب له. كانت الثورات أشبه بالمعجزة، التي هي نتاج معقد لاستحالة استمرار الانحدار. والجدير بالملاحظة ان الثورات كانت اشبه بانفجار اجتماعي، لعبت فيه نخب جديدة دور الصاعق، لكنها لم تكن قد تبلورت كي تلعب دور أطر سياسية قادرة على قيادة الثورة نحو تحقيق اهدافها. بل يمكن القول إن هذا التبلور لم يكن ممكنا في ظل انظمة الاستبداد، وإن مرحلة انتقالية طويلة نسبيا ضرورية من اجل بناء اطر سياسية جديدة.
من هنا برزت سياسة الهوية التي نجحت في الانتخابات البرلمانية، بحيث بدت هذه السياسة وكأنها ممر إجباري انتقالي. بالطبع فإن هذا لا يفسر وحده نجاح الاسلاميين، فالاسلاميون انتصروا ايضا لأنهم شكلوا معارضة 'شرعية' للنظام في مصر، على سبيل المثال، أو لأنهم شكلوا نواة صلبة متماسكة كما في تونس. ولكن يجب ان لا ننسى النموذجين التركي والإيراني، والفراغ السياسي الذي خلفه انهيار المشروع القومي العربي من دون أن يستطيع افراز بدائل من داخله. سياسة الهوية هي ما قبل السياسة، لذا لم تجر الانتخابات على أساس برامج اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، بل تمت تحت لافتة الهوية، الاسلاميون من جهة والعلمانيون من جهة اخرى، كأن الانتماء يختزل السياسة، او كأن يافطة هوياتية محددة تمحو الفروق الاجتماعية والطبقية والسياسية.
فاز الاسلاميون من خلال قدرتهم على تطمين الهندسة المفترضة للمنطقة التي تقودها الولايات المتحدة وأوروبا، من خلال وكلاء خليجيين تارة او في شكل مباشر تارة اخرى.
وهي هندسة قوامها ما اصطلح على تسميته بالاعتدال، وأفقها طمس المسألة الوطنية، اي مسألة الصراع العربي- الاسرائيلي، وتأجيلها، لأن الخيارات السلمية المتاحة ليست ممكنة بسبب التعنت والصلافة الاسرائيليين. وستثبت الأيام أن هذه الهندسة لا تتميز سوى بالسذاجة، إذ لم تعد الايديولوجيات حتى وان استندت الى الهوية قادرة على ضبط المجتمع وبناء السلطة فيه. ضبط المجتمع سوف يخضع لتوازن داخلي، لم تعد أية ايديولوجية قادرة على تقديمه، وإيجاد حلول حقيقية لمسائل الفقر والبطالة وتوزيع الثروة على المستويين الداخلي والإقليمي.
الإسلاميون والطرق الصعب
من جهة اخرى فإن انتصار الاسلاميين ليس مفروشا بالورود، لأن مسألة معنى السلطة لا تزال غامضة، وخصوصا حين يتعلق الأمر بالجيش. فالجيوش التي حافظت على بنيتها العسكرية كالجيش المصري، ليست لاعبا سلطويا فقط، بل هي لاعب اقتصادي ولاعب دولي ايضاً. والخلاص من هيمنة العسكريتاريا لا يكون بشعارات هوياتية غائمة، بل يحتاج الى تصور لاعادة بناء الدولة المدنية كنقطة توازن في المجتمع. هذا الواقع يعني أن سياسة الهوية التي تسود اليوم هي مرحلة تفتح احتمالين:
الاحتمال الوطني الديموقراطي، وهذا يتطلب من القوى الثورية التي صنعت 'ميدان التحرير' وكل ميادين الثورات في مختلف البلاد العربية، بلورة بنية سياسية جديدة، قادرة على بناء الدولة الديموقراطية، عبر ممارسة للسياسة بمعناها الاخلاقي والنبيل، وبلورة افق لمعنى الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني من جهة، ولفكرة التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي العربي من جهة ثانية ،أو احتمال عودة الديكتاتوريات بأسماء جديدة، قد تكون فكرة التحالف بين الجيش والتيارات الإسلامية أحد أكثر أشكالها امكانية. خياران سوف يشكلان عنوان المنعطف الجديد الذي يمر به العالم العربي اليوم، وهو منعطف تاريخي كبير، سوف يحدد مصير العرب لعقود قادمة.
إلياس خوري
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011
يعد الكاتب اللبناني إلياس خوري من أهم الروائيين العرب وهو مواليد 1948 في مدينة بيروت، كتب العديد من الروايات أهمها "باب الشمس" و"الجبل الصغير" و"يالو"، كما أصدر العديد من الدراسات كان من أهمها "تجربة البحث عن أفق" و"زمن الاحتلال" وهما كتابان نقديان صدرا على التوالي في عامي 1984 و1985. إلياس خوري حاز جائزة فلسطين للرواية عن رواية باب الشمس 1998، وجائزة الرواية المترجمة عن رواية مملكة الغرباء 1996، كما ترجمت رواياته إلى الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، والسويدية، والنرويجية، والعبرية.