الصحافة في ليبيا ما بعد القذافي: الديمقراطيات الحقيقية ألغت "وزارات الإعلام"
شهدت ليبيا خلال ثورة السابع عشر من فبراير طفرة إعلامية غير مسبوقة، فظهرت الصحف المطبوعة في كل نقطة من ليبيا، وولدت المحطات الإذاعية والتلفزيونية على اختلاف توجهاتها واهتماماتها. وعقب إعلان التحرير في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2011 بدأ المشهد الإعلامي في ليبيا يشهد تحولات فعلية، فبرزت المؤسسات التي يقف وراءها رجال الأعمال الذين انخرطوا بدورهم في الشأن السياسي من مواقع مختلفة.
في صورة المشهد
وبعد أشهر من الطفرة الإعلامية التي أصبحت معها الصحف المطبوعة تعد بمئات العناوين، شهدت الساحة الإعلامية نوعا من الاستقرار في مستوى العناوين التي حافظت على انتظام صدورها. ويقول أحمد صاحب محل لبيع الصحف، إن عدد الصحف التي كانت تصلنا بالمئات أصبحت بالعشرات، وهي صحف متنوعة ومن مختلف المناطق الليبية، تعبر في أغلبها عن مشاغل المناطق التي تصدر منها، إضافة إلى مناقشتها قضايا الشأن العام.
أمّا في المجال السمعي البصري فنجد كثيرا من القنوات التلفزيونية الفضائية، منها محطات تعنى بالشأن السياسي وكل منها تحسب على تيار سياسي بعينه، إمّا بطبيعة الخطاب الذي تروج له أو من خلال تمويلها ومن يقف وراءها. فالإسلاميون لهم قنواتهم وكذلك الليبراليون، وسارع دعاة التيار الفيدرالي إلى إنشاء قنواتهم التلفزيونية للوصول إلى الجمهور الواسع. الإعلام في ليبيا جزء من اللعبة السياسية وأداة الصراع بين الفرقاء السياسيين، ووسيلة للتعبئة والتجييش لدى بعضهم.
بين العمومي والرسمي
رغم أن المجلس الانتقالي الذي أعلن عن وجوده من بنغازي في الخامس من مارس/ آذار 2011 أكد أنه جاء ليساند الثورة ويدعمها من أجل تحقيق مطلب الليبيين في الحرّية، وظل هذا هو الخطاب الذي تعلنه الحكومات المتعاقبة عقب سقوط القذافي، إلا أن هذه الحكومات تصرّ على تسمية وزير للإعلام، والحال أن التجارب الراسخة في الديمقراطية ألغت وزارات الإعلام وعوضت عنها بهيئات تعديلية مستقلة تختلف تركيبتها ونظام عملها من دولة إلى أخرى بحسب التركيبة السياسية.
تمسُّك السلطات الحاكمة في طرابلس بوزارة للإعلام إشارة قوية أن الإعلام لابد أن يكون متحكم فيه، خاصة وأن الدولة لها مؤسسات توفر الدعم للمؤسسات الخاصة إضافة إلى إدارة المؤسسات المملوكة للدولة، فالمنح والهبات والدعم يكون بحجم الولاء والطاعة.
لذلك ما زال الإعلاميون في ليبيا يصنفون المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة على أنها إعلام حكومي وهو ما يتعارض مع مبدأ الديمقراطية المنشودة، فهذه المؤسسات الإعلامية مملوكة للدولة وليست ملكا الحكومة أو البرلمان، ولابد لها أن تقف على نفس المسافة بين كل الليبيين.
فالتنازل على التوصيف الدقيق لطبيعة المؤسسات الإعلامية العمومية وتسميتها بالرسمية أو الحكومية مؤشر على أن الإعلام في ليبيا ينتظر القائمين عليه عمل كبير لتغيير هذه المفاهيم القديمة وتعديلها بحسب إيقاع الحياة في البلد.
ويمكن لليبيين الاستفادة من تجربة جيرانهم في تونس الذين سارعوا إلى إصدار قوانين تنسجم مع الروح الثورية التي أنهت حكم زين العابدين بن علي، ومحاولة الاستفادة من التجارب التي سبقتها في التحول السياسي، فأسسوا هيئة تعديلية للقطاع السمعي البصري التي بدأت العمل رغم الصعوبات التي واجهتها في صراعها مع الحكومة التي كانت تقودها حركة النهضة الإسلامية.
الإعلام والسياسة
ظل نظام القذافي متحكما في وسائل الإعلام "العمومية" والخاصة حتى سقوطه، ويفترض الواقع الجديد عقب سقوط النظام الشمولي وإعلان التحرير أن يتحرر الإعلام من قبضة السلطة والسياسة بشكل أوسع، لكن الواقع الليبي يكشف عن هوس أهل السياسة بتشديد القبضة على الإعلام واستغلاله كذراع أساسية ذات فاعلية كبرى في تشكيل الرأي العام واستمالة الجمهور بحسب قوة الجهاز الإعلامي وقدرته على جذب المشاهد والمستمع والقارئ.
التعددية الإعلامية التي تعيشها ليبيا اليوم، لا تعكس حلما طالما راود مناضلي ليبيا أيام الديكتاتورية، فهي ليست تعددية مهنية وإنما هي مؤسسات تتبع بشكل أو بآخر أحزاب أو تيارات فكرية وإيديولوجية تسعى إلى الفوز بالسلطة في تسابق محموم يضرب عرض الحائط بحق الشعب الذي دفع أكثر من ستة آلاف شهيد وأكثر من ثمانمئة مفقود فضلا عن آلاف الجرحى في إعلام حرّ وديمقراطي مسؤول يبني بلدا خارجا لتوه من أتون حرب دمرت كل شيء حتى الحلم، وتركة ثقيلة أوقفت عجلة الزمن في ربوع ليبيا حتى انتبه أبناؤها إلى أنهم تأخروا عن الأمم المتقدمة بعقود.
صراع الثقافات
يضمّ المجتمع الليبي مكونات ثقافية متعددة منها الأمازيغ والطوارق والتبو تنتشر على مساحات شاسعة تتركز خاصة في الجبل الغربي والجنوب، وهي مكونات ترى نفسها قد ظلمت زمن العقيد القذافي وتخشى على ثقافاتها ولغاتها من التلف والضياع، فبادرت بفتح المدارس وإطلاق مؤسسات إعلامية صغرى منها إذاعات مسموعة وقنوات فضائية وصحف مطبوعة، ومنها صحف تصدر نشرة بالعربية وأخرى باللغة الأصلية لإثبات الذات.
وتخوض هذه المكونات الثقافية معركة حقيقية مع المؤتمر الوطني العام (البرلمان) لنيل حقوقها كاملة على أساس المواطنة دون تمييز أو فوارق بينهم وبين سائر الليبيين. واشتكى عديد من قيادات التبو والطوارق على وجه الخصوص من دور الإعلام الذي لا يهتم بقضيتهم التي يعتبرونها قضية أساسية، وبدونها لا يمكن للمجتمع الليبي أن يبني وطنا سليما ومتجانسا.
الحرية لا تصنع إعلاما
انفتاح باب الحريات غير المسبوق لم يمكّن ليبيا من التأسيس لتجربة إعلامية مهنية تعددية قادرة على الدفع بقاطرة البناء إلى الأمام، وتغيير نمط تفكير المواطن الذي قبع طوال عقود تحت طائلة حكم سلطوي.
لذا كان لزاما على الحكام الجدد المبادرة بهيكلة الإعلام العمومي بطريقة تجعل منه مؤسسات مهنية بالحدّ الأدنى ومنحها الإمكانيات الضرورية حتى تكون في صدارة المشهد، فتكسب ثقة المواطن الليبي وتسهم في بناء البلد شيئا فشيئا، وتحارب الإشاعة والإعلام الموجه الذي برع في صناعة الاستقطاب الحاد الذي يمزق المجتمع الليبي مثله مثل الرصاص الذي يشق ليالي بنغازي وطرابلس ليزهق الأرواح، ولم يسلم الإعلاميون من وقائع الاغتيال والاستهداف واقتحام المؤسسات.
غياب برامج الإصلاح
رغم الأخبار التي تتصدر وسائل الإعلام من حين إلى آخر لتقول إن السلطات الحاكمة في طرابلس (المؤتمر الوطني العام والحكومة والمؤسسات التابعة لهما) تسعى إلى إيجاد سبل تعاون مع المؤسسات الإعلامية الكبرى الرائدة في العالم لدعم برامج التدريب الإعلامي، فضلا عن طرح تصورات لإعادة الهيكلة، إلا أن الواقع الإعلامي لا يكشف عن أداء مهني يطمئن، سوى أقلام وأصوات قليلة تحترم المهنة، وتجربة أعلنت عن نفسها منذ نحو سنة وهي تتقدم بخطى وئيدة لتؤسس لإعلام مهني يقدس الخبر وينقل عن المصادر الأصلية ويعرض لمختلف وجهات النظر بمهنية لافتة، وهي تجربة مؤسسة العين للصحافة والإعلام خططت لإطلاق راديو "أجواء أف أم"، ونجحت هذه المؤسسة الفتية في أن تتحول إلى مصدر تأخذ عنه أغلب المؤسسات الإعلامية المحلية وبعض المؤسسات والوكالات الأجنبية كل ما يتعلق بالشأن الليبي رغم أنها مازالت تنشر موادها الصحفية المكتوبة والمسموعة على صفحة فيسبوك "أجواء لبلاد".
وعندما تسأل عن برامج الإصلاح المنتظرة، يخبرك من في وزارة الإعلام أنهم يعدون لبرامج ستعلن عمّا قريب، أما نقيب الصحفيين يونس فنوش فقد شكا من تجاهل السلطات الحاكمة لدورهم، فلم توفر لهم الدعم، ولا يرى في الأفق القريب ملامح جدية لإصلاح منظومة الإعلام، إلا أنه أبدى بعض التفاؤل عقب لقائه وزير الإعلام الذي وعده بالعمل من أجل تطوير قطاع الإعلام ومساعدة النقابة في إتمام مشروع ميثاق الشرف الصحفي.
من هم إعلاميو ليبيا
يمكن أن نصنف إعلاميي ليبيا اليوم إلى ثلاثة أصناف، هناك إعلاميون كانوا يمتهنون الإعلام زمن القذافي، وكان مقياس القبول بوجودهم اليوم هو مدى وفائهم للثورة ومتى انضموا إليها؟ وما مدى نظافة تاريخهم المهني قياسا بمن تمترسوا دفاعا عن نظريات الكتاب الأخضر والترويج لها بقوة؟
لكن أغلب هؤلاء لم يمارسوا قبلا صحافة مهنية في مناخ يطمح إلى أن يصبح ديمقراطيا.
أمّا الفئة الثانية فهي الجيل الجديد الذي دخل غمار الإعلام أيام الثورة، عندما كانوا ينقلون أخبار الجبهات، ومن ثمة بادر كثير منهم بفتح مؤسسات إعلامية صغرى، بمختلف محاملها، ثم أصبحوا يمتهنون هذه المهنة، ومنهم من سعى لتطوير نفسه وبحث عن فرص للتدريب ومنهم من بقي يعمل من منطلق السليقة.
أمّا الفئة الثالثة من الإعلاميين الناشطين في ليبيا اليوم فهم إعلاميون كانوا يعملون في مؤسسات إعلامية عربية وأجنبية كبرى عادوا إلى ليبيا للمساهمة في التأسيس لإعلام مهني وتعددي يسهم في بناء ديمقراطية ناشئة.
فأغلب الإعلاميين لا يمتلكون مهارات كافية ليكون أداؤهم جيّدا، لكن رغم هذا كله تبقى الأجندة الخاصة التي يدافع عنها أصحاب هذه المؤسسات الإعلامية هي المتحكم الرئيس في سياستها التحريرية، وخطابها الذي يمكن أن يكون تحريضيا، داعما للسلطة أو المعارضة أو أي تيار فكري وإيديولوجي.
الكل يستغل الإعلام وقدرته الساحرة على النفاذ إلى الجمهور للترويج لرؤيته ومهاجمة خصومه.
الإعلامي الواعظ
في غياب ضوابط مهنية دقيقة لدى أغلب المؤسسات الإعلامية في ليبيا، تكثر البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تقوم على قاعدة الخطاب المباشر الذي يمارس الوعظ والإرشاد والتوجيه وطرح رؤاه السياسية والاجتماعية وغيرها.
إلى أين ...
وسط وضع أمني منفلت واغتيالات وتفجيرات يومية أو تكاد، وخطوات في اتجاه إعلان برقة إقليما فيدراليا اتحاديا، وأزمة تجاوزت شهورا في الحقول والمنشآت النفطية، يبقى الإعلام الحلقة الأضعف كلوح تتقاذفه الأمواج الهائجة، عجينة طيعة في يد الفرقاء السياسيين، إعلام يتهم بأنه تهييجي وتهريجي، وشماعة يعلق عليها أهل السياسة إخفاقاتهم في العبور بليبيا نحو آفاق حلم بها الثائر وينتظرها الجريح حتى يضمد بها آلامه.
علي إبراهيم
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014