جيل شاب طفح به الكيل في لبنان
لبنان..."إذا لم نشارك نحن، فمن إذًا؟" - لقد بدأ أمر استثنائي في بيروت. فإدارة الحكومة السيئة للغاية وأزمة القمامة المصاحبة قبل عامين من كتابة هذا المقال ألهمت الشباب اللبناني ودفعته إلى مطالبة حكومته بالمزيد ومحاسبة قياداتها. بدأ ذلك كله مع إغلاق مطمر النفايات في منطقة الناعمة بعدما تجاوز سعته. الفصل الأول: أكوام القمامة 2015: بالرغم من علم السياسيين لسنوات بأن مطمر الناعمة سيغلق في نهاية الأمر، إلا أنهم عجزوا تمامًا عن وضع خطة مستدامة طويلة الأجل لإدارة القمامة في العاصمة اللبنانية. ومع إغلاق الناعمة وعدم وجود مكان آخر لدفن نفايات بيروت، توقفت الشركة التي تتولى جمع القمامة في بيروت عن العمل. وفي غضون ساعات تراكمت القمامة في شوارع بيروت. في غضون 24 ساعة انسدت الأرصفة، وفي غضون أيام لم تعد السيارات قادرة على السير في الشوارع المختنقة بالقمامة. هل تحركت الحكومة؟ لم يبدُ أنها تنوي التحرك مطلقًا. وفي غياب خطة بديلة عن الأفق غطت بلدية بيروت النفايات بمسحوقٍ أبيض يسمى بكربونات الكالسيوم، آملة في أن يحد ذلك من تقيحها واجتياح الفئران وسائر الآفات الشوارع.
لكن الأمر ازداد سوءًا. بدأ السكان بحرق القمامة. وسادت رائحة القمامة النفاذة المتعفنة تحت الشمس. ارتدى الناس أقنعة. إذا فتحت نافذة تدخل منزلك رائحة عطنة من القمامة والدخان. تشارك الناس صورًا ومقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لحرق القمامة في شوارعهم وأحيائهم. شعر الناس بغضبٍ عارم. أتذكر نقاشات خضتها مع عائلتي. بينما كنا جميعًا مصدومين ومنزعجين مما نراه، كان والداي وأعمامي متخوفين أيضًا من دعوات الاحتجاج واستقالة الحكومة التي قد تزعزع الاستقرار السياسي أو الاجتماعي، وهما مشكلتان طالما لاحتا في خلفية المشهد. كان قلقهم مفهومًا. فقد عايش والداي الحرب الأهلية في لبنان والتي دامت 25 عامًا، وقتل فيها 150 ألف شخص وتشتت بسببها أكثر من مليون شخص. من ناحية أخرى كنت آمل في أن تحث أزمة القمامة الناس على الحراك من أجل منظومة سياسية واقتصادية أفضل بالبلد. أذكر أني كنت أمر بالسيارة على كومة تحترق ذات ليلة. صففت السيارة على بعد 100 مترٍ، وترجلت منها فقط لألتقط صورة. وبمجرد ما فتحت الباب اجتاحتني الرائحة النفاذة للقمامة المحترقة. الفصل الثاني: الشرارات الأولى إذ بدا أن الحكومة لا تبالي بنا ونحن نغرق وسط القاذورات، بدأ الشباب بالنزول إلى الشوارع. بدأ الأمر بمسيرات وتجمعات صغيرة. لم تتعدَ عشرات الأشخاص. حملوا لافتات ومكبرات صوت. هتفوا بشعارات ضد الحكومة ودعوا من يشاهدونهم من الشرفات إلى النزول ومشاركتهم المسيرة. فاستجابوا لهم.
سواء كانت هذه المجموعة تنوي التحريض على حركة شعبية أم لا، ثمة أمر واحد لا شك فيه هنا؛ لم تعد المسألة أزمة قمامة وحسب. كان الكيل قد طفح بعد سنوات من سوء الإدارة والفساد والتقاعس. وسرعان ما تجمع حشد أكبر في ساحة الشهداء بوسط مدينة بيروت. كانت هناك موسيقى، وعبّر الناس عن مظالمهم. ربطوا أزمة القمامة بالفساد الاقتصادي وغياب الشفافية فيما يتعلق بالإنفاق العام. وبينما بدأ شباب النشطاء في لفت انتباه الإعلام على نطاق محدود، زاد عدد المشاركين في التجمعات أكثر فأكثر. عندما تحدثت إلى والديّ وكبار السن من الأقرباء وحتى كبار السن من المتفرجين بالقرب من أماكن الاحتجاجات، أعربوا كلهم عن مخاوف متشابهة. كانوا يسألون عادة: "ماذا سيحدث إذا أدى ذلك إلى عدم استقرار ومشاكل أكبر؟" كان من الواضح أن الحرب الأهلية عالقة في أذهانهم، وكانت قد وضعت المسيحي في عداء مع المسلم، واليساري مع القومي، إلخ. لكن أزمة القمامة كانت مختلفة على كل الأوجه الممكنة. فأكوام القمامة المتعفنة لم تطل طائفة واحدة دون غيرها من بين 18 طائفة دينية في لبنان. بل طالت الجميع. ولقد طفح كيل الشباب والشابات الذين لم يعيشوا وقت الحرب. لم يعودوا قادرين على السكوت والتحمل كما يفعل أباؤهم بلا كلل. "ماذا سيحدث إذا أدى ذلك إلى عدم استقرار ومشاكل أكبر؟"
شاركت في العديد من الاحتجاجات في لبنان على مدار سنوات تخص طيفًا واسعًا من المشاكل والقضايا: الطائفية، ومعارضة مد الفترة البرلمانية بما يخالف القانون، وحملات المطالبة بقانون للعنف المنزلي، وحقوق مجتمع الميم، وغيرها. لكن هذه كانت مختلفة.كانت هذه أول قضية منذ عدة سنوات يمكن أن يتفق عليها هذا البلد، المنقسم طائفيًا وسياسيًا، بأكمله. لم تكن مسألة تخص المسيحيين أو المسلمين، لم تكن مسألة دينية ولا علمانية. كانت مسألة فساد وفشل زعمائنا، وهو أمر يستطيع كل اللبنانيين الاتفاق عليه. كان غضبًا متفجرًا وموجهًا ضد حكومة من الواضح أنها لا تعبأ بمواطنيها. شعرت بأن القمامة لم تكن المشكلة الوحيدة، بل كانت فقط على رأس القائمة. كانت القشة الأخيرة. الفصل الثالث: انفتح الهويس في لبنان، عندما تفض الشرطة مظاهرة بالقوة أو إذا غضت الحكومة الطرف لفترة كافية، تموت الحركة. لكن هذه كانت مختلفة. عندما هاجمت الشرطة المتظاهرين بمدافع المياه والطلقات المطاطية والاعتقال الجماعي في محاولة منها لمنع التظاهر، زادت أعداد الناس وكبرت الحشود. وعندما أطلقت الشرطة عبوات الغاز المسيل للدموع، رد المتظاهرون برميها عليها. وفي اليوم التالي عاد الناس بأعداد أكبر بالطبع. احتدمت المعركة. "الشعب يريد إسقاط النظام" كنت أسأل كثيرًا من المتظاهرين إن كانوا يخشون عنف الشرطة أو الاعتقال، وكانوا يجيبونني بأن وجودهم في الشوارع ضروري. كانت الإجابة الشائعة: "إذا لم نشارك نحن، فمن إذًا؟"كانت وسائل الإعلام المحلية والدولية حاضرة، وكانت بيروت مركز الحدث. انضمت عائلات من جميع الخلفيات إلى المتظاهرين الشباب. هتفوا: "الشعب يريد إسقاط النظام".
كان هذا جيلًا لم يفقد الأمل كما فقده الجيل السابق. فمعايشة 15 عامًا من الحرب كفيلة بتدمير الروح. وإن أغلب المتظاهرين كان من أشخاص مستعدين للنضال من اجل حياة أفضل، ومستعدين لتولي زمام الأمور. في الوقت الذي كان فيه الاستقرار أولوية آباءنا، خوفًا من تكرر الحرب الأهلية، كان هذا الجيل الجديد يرى الأمر رؤيةً مختلفة. بعض كبار السن لم ينزل إلى الشوارع في النهاية، لكن كثير منهم اختار دعم الاحتجاجات من بعيد. أحيانًا كانوا يقولون للناس وهم يمرون إنهم سعداء بما يفعلونه أو يحيونهم من بعيد. ومع ذلك ظل كثيرون يراقبون المشهد وعلى وجوههم نظرة خالية من المشاعر، غير قادرين على حسم موقفهم. كانت المظاهرات ككرة ثلج تزداد سرعة وكثافة حثيثًا. جاء الرد على تصريحات المسؤولين والزعماء السياسيين بمظاهرات أكبر ودعوات أعلى صوتًا مطالبة باستقالة الحكومة.مع أن طفولتي لم تشوهها الحرب، إلا أني أتفهم تخوف عائلتي من التصعيد، لكني بصفتي صحفي يحاول تغطية المظاهرات وجدت صعوبة بالغة في كبح حماسي. الفصل الرابع: التصعيد كانت الشرطة لا ترحم؛ أطلقوا الطلقات المطاطية من مسافات قريبة وسببوا العديد من الإصابات. ضربوا المتظاهرين وهم يحاولون الهرب. هاجموا الصحفيين وأي شخص حاول مساعدة العالقين وسط الفوضى. محمد .قصير، طالب جامعي تفصل بينه وبين حصوله على شهادة الهندسة بضعة أشهر قليلة، أصيب في مؤخرة رأسه وراح في غيبوبة. ومع أن قصير بقي على قيد الحياة، إلا أن حياته لن تعود كما كانت بتاتًا. أذكر حسرة قلب والديّ وآباء أصدقائي بسبب هذه الحادثة. رجوا مني ومن آخرين ممن كانوا يغطون المظاهرات أو يتظاهرون ألا تنتهي بنا الحال مثله، وأن نلزم البيت، قائلين إن الأمر لا يستحق المجازفة. صارت المواجهات بين المتظاهرين الشباب وشرطة مكافحة الشغب أمرًا اعتياديًا كانت سيارات إسعاف الصليب الأحمر اللبناني تنطلق مسرعة إلى أقرب مستشفى كل بضع دقائق كلما تصاعدت الاشتباكات. استمرت الاحتجاجات طوال اليوم وطوال الليل. في الليل كانت أعمال الشغب تحتد. لكن الاحتجاجات لم تنتهِ إلا عندما ترك الناس الشوارع خوفًا على سلامتهم، أو في عربة إسعاف، أو سيارة شرطة. صارت المواجهات بين المتظاهرين الشباب وشرطة مكافحة الشغب أمرًا اعتياديًا. الفصل الخامس: التحول تدمر وسط المدينة ببيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية. أعيد بناؤه لكن بلا روح. صار منطقة باهظة خالية من أي شيء سوى البنوك والمكاتب وواجهات منمقة تغطي مبانيَ خاوية. أين كان الناس؟ أعادت الاحتجاجات الحياة إلى وسط مدينة بيروت. ولفترة قصيرة امتلأ وسط البلد بالشباب والكبار. تحدثوا. ضحكوا. التقطوا صورًا بالجوال مع أصدقائهم، ورشوا الغرافيتي، ونفسوا عن سخطهم، واشتبكوا مع الشرطة.
تحدثوا عن الإمكانيات في ذلك الصيف. ناقشوا ما يمكن أن يصبح لبنان عليه. عندما أقامت الشرطة حائطًا من الخرسانة، رسم الفنانون جداريات معارضة للحكومة في غضون دقائق. تجمع الناس عند الحائط ليستكملوا حديثهم، مستظلين به. تحول وسط مدينة بيروت في وقت قصير إلى ما كان عليه قبل الحرب وما ينبغي له أن يكون مجددًا: مكان يجتمع فيه الناس من أنحاء العاصمة والبلد. أصبح مساحة عامة. حتى صغار الباعة ممن يبيعون مياه مثلجة استقروا في المنطقة. كانت هذه الحركة الشعبية الديمقراطية التي لم يحظَ بها لبنان منذ سنوات. الفصل السادس: ماذا تبقى؟ ماذا بعد؟ بعد نحو عامين أزيلت القمامة من الشوارع. هُدم معظم الحواجز وإن بقيت بعض رسوم الغرافيتي موجودة. تراجعت الاحتجاجات لكن دون ظهور حلٍ ذي معنى في الأفق. ما زالت بيروت تفتقر إلى خطة مستدامة لإدارة النفايات. فقد اكتفت الحكومة بفتح مكبات نفاية جديدة بلا أي دراسات بيئية أو تخطيط، متظاهرة بأن كل شيء على ما يرام. هل ذهبت أكبر حركة احتجاجية مستقلة في تاريخ لبنان هباءً؟ ما زال الأمر غير محسوم.
هذا ما تبين حتى الآن: الناس أكثر انخراطًا في المسائل المحلية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالمساحات العامة المتضائلة في لبنان. ترشحت قائمتان مستقلتان لمنصب بلدية بيروت في انتخابات 2016 المحلية، وخسرتا.
إن جيل والديّ منهك لكن جيل الشباب غاضب عموم الشعب يتابع القضايا السياسية ويتناولها بطريقة مختلفة عما سبق. إن جيل والديّ منهك. لكن جيل الشباب غاضب. يعرف أن زعماء لبنان قد خذلوه. هذا الجيل أمامه العديد من السنوات، ولا يرغب في التهاون مع المشاكل الراهنة التي تقبلها الجيل الأكبر سنًا. لمَ نعجز عن وضع خطة لإدارة النفايات مثل سائر البلاد؟ لماذا لا يمكننا الحصول على خدمة مياه وكهرباء مستقرة مثل سائر البلاد؟ الإنترنت في لبنان شديد البطء لدرجة قد تصعب بسببها مشاهدة هذا التقرير على الإنترنت في المناطق الريفية. هل من المفترض أن نقبل بذلك؟ ماذا بعد إذًا؟ لا أعلم. أي شيء قد يحدث. هل يصبح قادة الحركة الاحتجاجية بالأمس المسؤولين السياسيين غدًا؟ هل سننتخب أفرادًا فعالة تفكيرها تقدمي في الانتخابات البرلمانية التالية، أم سنستمر في كنس مشاكلنا تحت السجاد؟ هل ستأتي حركة شعبية أخرى مثل التي جاءت في صيف 2015؟ هذا ما أعرفه: لبنان يشهد جيلًا صاعدًا يأبى الصمت البليد، وهذا ما يعطيني أملًا. كريم شهيب ترجمة: أميرة المصريحقوق النشر: معهد غوته / "رؤية" 2018 ar.Qantara.de كريم شهيب صحفي لبناني ومحلل سياسي، يدرس حاليًا لشهادة الماجستير في الاقتصاد السياسي بالشرق الأوسط في جامعة الملك في لندن. نشرت أعماله في عدة منصات منها ميدل إيست آي والجزيرة وريفيوجيز ديبلي.