النخب التونسية الجديدة أمام اختبار النضج الديمقراطي
الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها في تونس في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر ونهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 تشكِّل ذروة عملية التحوُّل المتواصلة منذ أكثر من ثلاثة أعوام في هذا البلد. وتعتبر تونس البلد الوحيد الذي تمكن فيه مراقبة عملية تحولٍ نحو الديمقراطية بعد نحو أربعة أعوامٍ على الانتفاضات التي انطلقت شرارتها من جنوب البلاد، بيد أنَّ المؤسسات الجديدة في تونس تقف أمام تحديات كبيرة.
منارة المنطقة
يشكِّل الاحتفال بإقرار الدستور الجديد في بداية العام 2014، والذي يعتبر عمومًا أكثر الدساتير تقدمًا في المنطقة، الخطوة الأولى على الطريق الوعر نحو الديمقراطية. وقد اتسمت جهود عملية التحوُّل التونسية منذ البداية بشمولها مختلف الفئات والمجموعات السياسية والاجتماعية، ففي الأسابيع والأشهر الأولى بعد سقوط نظام بن علي، سعت الجهات الفاعلة حتى قبل انتخابات المجلس الوطني التأسيسي إلى التوصُّل إلى أوسع مشاركة ممكنة. كما استطاعت الجهات السياسية الفاعلة سويةً مقاومة إغراء إجراء انتخاباتٍ برلمانيةٍ أو انتخاباتٍ رئاسيةٍ سريعة. وتوجَّب في البداية التوافق في إطار المجلس الوطني التأسيسي على قواعد اللعبة في النظام السياسي.
يُعتبرُ الفصل بين عملية وضع الدستور والقرارات المتعلقة بالمناصب السياسية من أهم ما تختلف به عملية التحوُّل التونسية عن دول الجوار مثل مصر وليبيا، ومع ذلك لم يفلح التلاميذ النجباء في تونس -إلا بشكلٍ جزئي- في الفصل الزمني والموضوعي بين وضع الدستور وتعيين قيادة سياسية جديدة.
إنَّ خوض الحملات الانتخابية للمجلس الوطني التأسيسي بشكلٍ يشبه الحملات الانتخابية لبرلمانٍ جديدٍ أدى في نهاية المطاف إلى تسييس صياغة الدستور. ونظرًا لضيق الوقت كان لا بدَّ من تمديد فترة عمل المجلس عدة مرات بعدما كان قد تشكَّل في الأصل لفترة عامٍ واحد. وعلى مدى ثلاثة أعوامٍ تولَّى المجلس الوطني التأسيسي بالتدريج مهام برلمانيةً كلاسيكيةً مثل سن القوانين ومراقبة أداء الحكومة.
وبعد عدة أزمات نجمت عن اغتيال نائبين بارزين من الطيف السياسي اليساري على أيدي متطرفين إسلامويين، تم الاتفاق في المجلس الوطني التأسيسي على تشكيل حكومةِ كفاءاتٍ للتحضير للانتخابات. واستطاع المجلس الوطني التأسيسي نفسه التوافق على الدستور الجديد بعد ضغوطٍ متزايدةٍ مارسها المجتمع المدني وبعد وساطةٍ قامت بها النقاباتُ في إطار الحوار الوطني. وكان اللافت في التعامل مع العنف السياسي الذي مارسه متطرفون أنَّ جميع المنظمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني تشاركت في الدعوة إلى نبذ العنف، الأمر الذي أوقف التصعيد في ظل وضعٍ سياسيٍ متوتر.
إنَّ الاستبدال الوشيك للمجلس الوطني التأسيسي ببرلمانٍ منتخبٍ وفقَ الدستور الجديد والانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 ستُشكِّل بداية المرحلة التالية في عملية التحوُّل التونسية. وتُعتبرُ تونس بسبب التطورات التي حصلت فيها حتى الآن بمثابة منارة بين بلدان المنطقة التي أعيد في بعضها ترسيخ أنظمة الحكم الفردي (مصر، الجزائر، البحرين، الأردن) أو لا يزال بعضها الآخر يعاني من حرب أهلية (ليبيا، اليمن، سوريا). ولا يمكن إيفاء هذا التطور التقدير الكافي رغم كل التطورات الحسَّاسة الضرورية التي ترافق عملية التحوُّل.
ومع كلِّ ذلك تُعتبرُ هذه الانتخابات وتشكيل الحكومة الذي سيتبعها، بمثابة اختبارِ إجهادٍ لعملية التحوُّل التونسية وللنخب السياسية المشاركة. فلا بد للبنية المؤسسية شبه الرئاسية التي قامت من أنْ تثبت جدارتها. والمنتظر في هذا السياق من الجهات السياسية الفاعلة على وجه الخصوص أنْ تُحدِّدَ مساحة حيِّزها وأنْ تحافظ على الثقافة السياسية الشاملة التي تحققت خلال عملية وضع الدستور.
قدوم فترات عاصفة
وعلى الرغم من النجاحات التي حققتها تونس لا يزال هناك العديد من المشاكل الجوهرية التي لم تعالج بعد. إنَّ القضايا الاجتماعية الاقتصادية التي يرى فيها الكثيرون الدافع الرئيس للاحتجاجات التي اندلعت في عام 2011 قد تم تأجيل البحث فيها بسبب عملية وضع الدستور. كما أنَّ الانكماش الشديد في إيرادات السياحة وتراجع استعداد الأطراف الدولية الفاعلة للاستثمار خلال عملية التحوُّل، بالتزامن مع انخفاض حجم التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي بسبب الأزمة، قد أدّى إلى ازدياد نسبة البطالة بين الشباب. وتشير الأرقام الرسمية الراهنة إلى أنَّ نسبة العاطلين عن العمل تقارب 40% بين من هم دون سن 25 عامًا. إذًا يفتقر الجيل الشاب إلى آفاق مستقبلية، لكن ليس ارتفاع معدّل البطالة وحده ما يجعل من البطالة القائمة لدى الجيل الشاب مشكلةً اجتماعيةً عامةً، حيث تكفي نظرةٌ واحدةٌ إلى التركيبة السكانية لإدراك أنَّ نسبة 40% من البطالة بين الشباب في تونس تشمل جزءًا أكبر من مجموع السكان مقارنةً بنسبة 50% من الشباب العاطلين عن العمل في إسبانيا أو اليونان.
حتى أنَّ ارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية ونمو السياحة لن يُمَكِّنا من حلِّ هذه المشكلة البنيوية. والحل يتطلب بالضرورة جهود إصلاحٍ لصالح الوافِدين الجدد إلى سوق العمل. وللأسف ما زال هؤلاء يفتقدون لجماعة ضغط كبيرة تخدم مصالحهم على الرغم من مشاركتهم ودورهم الحاسم خلال الاحتجاجات في سنة 2011.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال مسألة التوزيع المركزية بين المركز والأطراف أو بين الساحل والمناطق الداخلية مسألة عالقة لم توضَّح بعد، وفي ظل استمرار الكيان المؤسساتي الكلاسيكي المنظم بشكلٍ مركزي، يبقى الانتظار لرؤية ما إذا كانت المناطق المهمَّشة في الداخل ستحصل فعلاً على حصة أكبر في المحيط السياسي الجديد، فالاحتجاجات في كانون الأول/ ديسمبر 2010 لم تنطلق بلا سبب من المناطق الداخلية المهملة اقتصاديًا، قبل أنْ تجد طريقها إلى العاصمة.
إنَّ كيفية التعامل مع خط الصراع المركزي الذي تمَّ وضعه في الدستور دون إيضاحه بشكلٍ نهائي، والمتمثل في حماية الدين من الكفر وأسلوب دمجه مع مبدأ العلمانية وبالأخص مع مبدأي حرية التعبير وحرية الصحافة سيكون أمرًا حاسمًا. وسيكون ثمة دورٌ حاسمٌ في هذا الموضوع للمحكمة الدستورية التي أنشئت حديثًا عبْرَ تفسيرها للنص الدستوري.
لقد تركَّزت جهود التحوُّل السياسي حتى الآن بشكلٍ كبيرٍ على المستوى الوطني، أما على المستوى المحلي ومنذ سقوط نظام بن علي فلا تزال هناك كوادرُ من النظام القديم تجلس في دُورِ بلديات المدن وفي المجالس البلدية في المناطق الريفية أو يجلس هناك من نصَّب نفسه من اللجان الثورية منذ ما يقارب الأربعة أعوام. هؤلاء ليسوا منتخبين عادةً ومناصبهم بالتالي غير شرعية. إذًا نقل عملية التحوُّل بشكلٍ منهجيٍ إلى المستوى المحلي وترسيخه فعليًا في المناطق الريفية من التحديات الكثيرة التي على الحكومة الجديدة في تونس أن تتصدى لها.
أجهزة الأمن التي نشرَت الخوف والرعب في ظل نظام بن علي لا سيما من خلال أجهزة الاستخبارات، تم استبعادها حتى الآن من أن يُجرَى عليها تغييرات شاملة، وبالتالي فهنالك ضرورة قصوى لإصلاح القطاع الأمني وعلى وجه الخصوص إصلاح جهاز الشرطة والمؤسسات الاستخباراتية، بغية استعادة ثقة المواطنين في الدولة وأجهزتها التنفيذية. وضرورة ذلك تبدو أكثر إلحاحًا لأنَّ تونس مضطرةٌ لمواجهة مخاطر أمنيةٍ عديدة.
فوفق بياناتٍ رسميةٍ صادرة عن وزارة الداخلية التونسية ذهب على الأقل 2600 مواطنٍ تونسيٍ حتى الآن "للجهاد" في سوريا أو العراق. ويفترض أنَّ 80% من هؤلاء قد انضموا إلى داعش. ومع أنه لم يُلاحظ حتى الآن وجود تيارٍ كبيرٍ من العائدين، لكنْ لا يمكن توقع الخير لأمن تونس القومي في عودة جهاديين خبِروا الحرب وصاروا أكثر تطرفًا. وعلاوة على ذلك لا تزال تونس تتعرض لأعباءٍ كبيرةٍ بسبب تدفق اللاجئين من ليبيا ومالي ومن سوريا أيضًا. كما أنَّ تدفق الأسلحة من ليبيا ومالي يزيد الضغط على احتكار الدولة للسلطة في المناطق الحدودية.
تضع الانتخابات البرلمانية والرئاسية تونس مجددًا على المحك. ولا يمكن الحكم بشكلٍ نهائيٍ على عملية التحوُّل بعد ما يقارب أربعة أعوامٍ على سقوط نظام بن علي. كما لا تزال تونس في خضم عملية يمكن لتحدياتها أن تؤدي إلى الفشل. لكن حتى الآن يمكن منح تونس شهادةً جيدةً بخصوص عملية التحوُّل. فأصغر دولة في شمال أفريقيا لا تشكِّل منطلق حركات الربيع العربي الاحتجاجية وحسب، بل تُمثِّل أيضًا مثالًا جيدًا لعملية التحوُّل. وبذلك تبقى تونس الاستثناء المُشرق الوحيد في المنطقة حتى الآن للأسف.
إلياس صليبا
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2014
إلياس صليبا، باحث في قسم الديمقراطية والتحوُّل الديمقراطي في مركز العلوم للأبحاث الاجتماعية في برلين (WZB) ويبحث في موضوع استقرار أنظمة الحكم الفردي خلال الانتفاضات العربية في سنة 2011، وهو بالإضافة إلى ذلك زميلٌ مشاركٌ في منتدى الاتحاد الأوروبي للشرق الأوسط لدى الجمعية الألمانية للعلاقات الخارجية (DGAP).