خيار التصويت العقابي!
منذ الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش، الذي قرَّع فيه الملك مباشرة وأمام الشعب رئيس حكومته المنتخب، ابتلع عبد الإله بنكيران لسانه، وأدخل سيفه في غمده ولم نعد نقرأ عن قصف "مدفعيته الثقيلة"، كما يحلو لنوع من الصحافة المقربة منه أن تٌمجِّد تصريحاته.
هذه المرة، بنكيران، خانه ذكائه الفطري، والرصاصة الأخيرة التي سددها إلى الهدف بعيداً عن ظلال التماسيح والعفاريت التي أتقن التصويب نحوها، سرعان ما ارتدت صوبه وأخرست لسانه.
لقد تعود بنكيران في كل مرة يجد نفسه محشوراً في الزاوية أن يتوجه إلى السلطة بخطاب يذكرها بدوره في حمايتها من رياح "الربيع العربي"، ويُنبهها إلى أن تلك الرياح مازالت لم تسكن، ويتوجه إلى الشعب بخطاب يخطب وده ويَعترف له بأن وجوده في الحكومة مدين به لرياح ذات "الربيع العربي" الذي عارضه ووقف ضد شعاراته هو وحزبه.
أما عندما يكون بنكيران في موقع قوة، خاصة عندما تٌطلقُ يداه ليتخذ قرارات لا شعبية تجعله في مواجهة مباشرة مع الشارع والشعب، يٌصور نفس "الربيع" "خريفا"، ويحذر من شره المقيت الذي حفظ الله منه المغرب بفضل اعتراضه هو وحزبه عليه وعدم مناصرتهما له.
لكن هذه المرة تختلف عن سابقاتها. لقد وضع بنكيران نفسه، ومن المؤكد أنه لم يكن يَبغي ذلك، في مواجهة مباشرة مع الملك. ألم يردد في أكثر من مناسبة بأنه لم يأتي للتصادم مع الملك؟ وبأن من يريد أن يدفعه إلى فعل ذلك كان عليه أن يختار رئيسا آخر للحكومة غيره؟ فما كان يخشاه بنكيران أوقع نفسه بنفسه فيه، والصدام الذي طالما تجنبه وتفاداه بل وقدم التنازلات من اجل أن لا يحدث وقع في نهاية ولايته، والمفارقة أنه وهو من أوقع نفسه فيها.
رضى القصر قبل ثقة الشعب
طيلة السنوات الخمس الماضية، ظل بنكيران حريصا على شيئين اثنين: كسب ثقة القصر، والاستمرار في الحكومة، ولا شئ آخر غير ذلك. ومن أجل هذين الهدفين كان مستعدا لتقديم كل التنازلات، واتخاذ كل القرارات، وابتلاع كل الإهانات، وتطبيق أسوأ السياسات، وقمع وإسكات كل المعارضات بما فيها حتى تلك التي حاولت أن ترفع صوتها من داخل حزبه.
وإذا كان بنكيران قد نجح في أمر ما فهو بالفعل نجح في شيئين: نجح في التطبيع مع الفساد، وساهم في التمكين للاستبداد في مزيد من التصرف في خيرات البلاد والتحكم في رقاب العباد. فلم نسمع أو نقرأ أو نرى يوما بنكيران محتجا أو منتفضا إلا عندما كان يريد أن يفرض ما يٌملى عليه من فوق على بسطاء هذا الشعب. وحتى خطاباته، عندما كان يلبس جبة المعارض داخل مقرات حزبه وأمام أتباعه نهاية كل أسبوع، كانت أقرب إلى "المظلمة" منها إلى خطاب "المعارضة"، تطغى عليها نبرة التشكي ومناجاة الضعيف.
اليوم يجد بنكيران، مرة أخرى نفسه، محشورا في نفس الزاوية، ومن الطبيعي أن يكشر عن أنيابه "إما أنا أو الطوفان"، يقولها لأهل الفوق. و"معا ضد الفساد والاستبداد"، يتودد بها إلى الشعب، الذي نسي أنه يٌمثله، لاستدرار أصواته. لكن كيف يمكن الثقة في من خانته الشجاعة وهو رئيس منتخب للحكومة أن ينتصر للبسطاء الذين يخطب اليوم ودهم من أجل أصواتهم؟ من يضمن أنه لن يعود غدا إلى التسيد على الضعفاء ومجاملة الأقوياء والتمسح بأعتاب الأوصياء؟
لماذا سيصوت المواطن لإعادة تثبيت بنكيران ليذكره صباح مساء بأنه هو واهب "الاستقرار"، و"حامي الديار"، وسينسى من صوت له من أبناء الشعب الفقراء ويتزلف من جديد إلى من حاربه بالأمس ويحاربه اليوم وسيحاربه غدا يخطب ود بعضهم، ويتحالف مع البعض الآخر، ويتنازل ويقدم الهدايا والعطايا لمن لا يستطيع الوقوف في وجههم، ويتوسل ويستعطف رضى من يعتبر أن مقامه لا يرقى إلى مقامهم...
لماذا سيصوت المواطن لتجديد الثقة في بنكيران ووزراء حزبه وحكومته؟ وزراء نكرات اسمهم عمارة والعمراني، ووزراء متعجرفين وفاشلين اسمهم لحبيب الشوباني ومحمد نجيب بوليف؟ أو في وزراء سيذكرهم المغاربة بقفشاتهم وزلات لسانهم وغباء تصريحاتهم أكثر مما سيذكرونهم بأعمالهم إن وجدت، اسمهم محمد الوفا ولحسن الداودي؟ أو في وزراء سلموا رقابهم لمدراء وزاراتهم ووضعوا الثقة التي وضعها الشعب فيهم في الأجهزة التي سمحوا لها أن تفصل لهم القوانين على مقاسها وحسب رغباتها ونزواتها.. اسمهم مصطفى الرميد ومصطفى الخلفي وعزيز رباح..
لماذا سيصوت المواطن ليجد نفسه أمام نفس أحزاب "الكارتون" ووزرائها الفاشلين والانتهازيين أصحاب الفضائح والكوارث والمصائب. أحزاب ظلت تتواجد في كل الحكومات التي تعاقبت على تدبير الشأن العام للمغرب منذ فجر "الاستقلال". أحزاب عبارة عن دكاكين حزبية اسمها "الحركة الشعبية"، و"التجمع الوطني للأحرار"، و"التقدم والاشتراكية" تٌفصل الحقائب الوزارية على مقاس رغبات وأذواق زوجات أمنائها العامين وتؤثثها بالأصهار والعشيقات ومن يدفع أكثر..
تنازل عن "إسقاط الفساد والاستبداد"
لماذا سيصوت المواطن على حكومة نصف أعضائها ينتمون إلى حكومة أخرى، قال بنكيران نفسه، إنه لا يعرف من أين تأتيها تعليماتها ولا يعرف من يٌملي عليها قراراتها!
هناك من يقول بأن ذهاب بنكيران أو عدم تصدر حزبه للانتخابات المقبلة سيكون خسارة للتجربة الديمقراطية المغربية، وسيعطل الانتقال الديمقراطي المغربي المعطل أصلا، لكن ما الذي قدمه بنكيران وحزبه للتجربة الديمقراطية في المغرب طيلة السنوات الخمس الماضية؟ بالعكس فوجود الحزب في المعارضة رغم محدودية آدائه فيها كان أفيد للعباد وانفع للبلاد، ولا يعني هذا أنه لو عاد غدا إلى مقاعده في المعارضة سيستعيد بكارته المفقودة، لأن سنوات تسييره للشأن العام ستكون حٌجة ضده إذا ما أراد استعارة خطاب المعارضة من جديد. بل وهناك من يرى أن السلطة نفسها لا تريد أن تدفع بـ "العدالة والتنمية" إلى صفوف المعارضة بعد انتخابات أكتوبر، أولا، لأن وجوده في الحكومة مازال يخدم الكثير من مصالحها "الاستراتيجية" لتمرير مزيد من قراراتها اللا شعبية، وأيضا لدفعه إلى ممارسة المزيد من الرقابة الذاتية والضبط والتحكم في الأصوات المزعجة داخل صفوفه، وأخيرا لإنهاكه، لأن السلطة تستنزف صاحبها، قبل إعلان نهاية صلاحيته كما فعلت مع حزب "الاتحاد الاشتراكي" .
لقد نجحت استراتيجية السلطة حتى اليوم، في تركيز كل النقاش داخل وخارج حزب "العدالة والتنمية" حول شخصية أمينه العام وكرسيه في رآسة الحكومة، وأعتقد أن هذا هو الموضوع الذي ستركز عليه الحملة الانتخابية التي بدأت من الآن للتغطية على ما هو أهم، أي الإصلاحات الحقيقية التي طالبت بها حركة 20 فبراير، والتي لخصتها في شعارها المركزي "إسقاط الفساد والاستبداد".
وحتى إذا ما حاولنا الاقتناع برأي المدافعين عن بقاء بنكيران في منصبه إذا تصدر حزبه الانتخابات المقبلة، انتصارا لـ "المنهجية الديمقراطية" التي سنها دستور 2011، فإلى أي حد سيصمد بنكيران نفسه للانتصار لنفسه؟ فغدا عندما سيختار القصر شخصا آخر غيره اسمه عزيز الرباح أو سعد الدين العثماني وربما مصطفى الرميد، سيخرج علينا بنكيران بتأويلاته ومنطقه الذي يحلل به الحرام متى شاء ويحرم به الحلال متى ائتمر بذلك. وقد استبق بنكيران نتائج الانتخابات وقرار الملك، وأعلن بأنه سيعود إلى بيته إذا ما اختار الملك أحدا آخر غيره من داخل حزبه، في حالة تصدره لانتخابات أكتوبر، لقيادة الحكومة المقبلة. وإذا كان بنكيران قد أعلن بأنه غير مستعد لـ "المحاربة" من أجل البقاء في منصبه، فكيف يمكن أن يٌقنع الآخرين بـ "المحاربة" عوضا عنه لإعادة تثبيته في منصبه؟ !
وبالمقابل فإن تصدر "الأصالة والمعاصرة" الانتخابات المقبلة، وترأسه الحكومة سيكون وبالا على الجميع، وستكون العودة إلى الوراء حتمية لا ريب فيها، ولا أعتقد أن السلطة نفسها تحبذ سيناريو من هذا النوع لأنه سيعيد إذكاء نار الغضب الشعبي التي إنما خمدت ولم تنطفئ. وفي حال تحقق هذا السيناريو فإن من أهم ميزاته هو أنه سيجعل اللعبة مكشوفة وسيعري عن وجه الاستبداد والفساد الحقيقين وسيضعه في مواجهة مباشرة مع الشارع بدون وساطات ولا "بارشوكات".
لقد نجحت السلطة في وضع الناخب أمام خيارين أحلاهما مر. ما بين المنجل وقبضة المنجل، وكلاهما طوع الذراع الطويلة للسلطة. لقد كان كل الوزراء الأولون في الحكومات التي تعاقبت على تدبير الشأن العام المغربي بما فيهم رئيس الحكومة الحالية المنتهية ولايتها، بمثابة "قبضة" المنجل، أغلبهم كان حريريا ناعم الملمس وبعضهم مثل بنكيران بقي خشنا رغم كل محاولاته تطويع نفسه في قبضة سيده. أما المنجل، فمن عاشوا قساوة سنوات الجمر والرصاص فقد عانوا من حِدَّتِه وبطشِه. والمنجل كما يعرف أبناء الفلاحين له قبضة وليس له غِمد.
الناخب المغربي اليوم أمام مفترق طرق كبير ، وفي حيرة كبيرة من أمره وهو يسأل نفسه: ما العمل؟
لقد أثبتت تجارب مقاطعات الاستحقاقات السابقة لا جدواها، بل وسلبياتها الكثيرة التي راكمت لنا كل هذا الكم الهائل من الفساد والاستبداد، لأنها لم تساهم سوى في تحييد أغلبية الشعب وإتاحة الفرصة لنفس اللاعبين لتبادل نفس الأدوار واقتسام الكعكة فيما بينهم. وأمام الخيارات الثلاثة المطروحة اليوم أمام الشعب، خيار التجديد لبنكيران وفريقه الفاشل، وخيار التصويت لغريمه حزب السلطة الساعي إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما بعد لحظة 20 فبراير، وخيار التصويت "لفيدرالية اليسار" كمسلك ثالث حظوظه اليوم ضعيفة لأسباب موضوعية مرتبطة بضعف مكوناته وتشتت أصواته، وخيار المقاطعة الغير مجدية، هناك خيار خامس هو خيار التصويت العقابي. التصويت العقابي ضد أحزاب السلطة وأذنابها لأن التصويت لها هو تزكية لها، والتصويت العقابي ضد بنكيران وحزبه حتى تهتز الأرض تحت كراسيهم الوتيرة التي بات يؤمنها لهم جمهور انتخابي حديدي مٌبرمج. والتصويت العقابي ضد السلطة نفسها التي لا تسعى سوى إلى فرض إرادتها على إرادة الشعب.
هناك من سيقول بأن التصويت العقابي هو آلية من آليات العمل الديمقراطي والواقع أن ما تفتقده التجربة المغربية هو غياب الديمقراطية نفسها. لكن التصويت العقابي، في هذه الحالة، يمكن أن يكون تصويتا أبيضا حتى وإن كان التصويت الأبيض مثله مثل قرار المقاطعة، لن يغير كثيرا من قواعد اللعبة، إلا انه سيرسل أكثر من رسالة إلى أصحاب اللعبة والمستفيدين منها. تصويت أبيض للرد على خياري السلطة اللذين تريد أن تفرضهما على الشعب: إما مرشحها أو المرشح الذي لن يزعجها فوزه أو من هي متأكدة من تحجيم فوزه والتحكم فيه.
إنه خيار صعب على من لازالوا يثقون في اللعبة الانتخابية، وخيار أصعب على من ألفوا مقاطعتها ليأسهم منها، ولكن ليٌجرب هذه المرة من لازالوا يكلفون أنفسهم عناء الذهاب إلى صناديق الاقتراع فلن يخسروا أكثر مما سيخسرونه لو نجحت الخيارات الأخرى وكلها ستكون كارثية على مستقبل البلاد والعباد.
على انوزلا
حقوق النشر: موقع لكم 2016
صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).