عيش سوريين في خوف دائم من الترحيل

لاجئون سوريون في لبنان عائدون إلى سوريا.
لاجئون سوريون في لبنان عائدون إلى سوريا.

فرّ نحو مليونين من السوريين إلى لبنان منذ بداية الحرب ولكن مع انهيار اقتصاد لبنان ازدادت حياتهم صعوبة. وفي عام 2023 زادت عمليات الترحيل. أندريا باكهاوس اقتفت آثارهم في لبنان لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Andrea Backhaus

قبل أن يعود خالد إلى الجحيم مباشرة كان يتجول على دراجته النارية. ومثل كل يوم كان يقودها في أنحاء الحي لتوصيل الكعك. وزّع الكمية كلها وكان متوجهاً إلى المنزل. ولم يصل إلى هناك قط.

خالد من مدينة حلب السورية. حين اندلعت الحرب في سوريا في عام 2012، فرّ مع زوجته وأولاده السبعة إلى لبنان. وفي مخيم قريب من بلدة بر إلياس في سهل البقاع، أسّس حياة جديدة. وجد عملاً وبنى منزلاً متواضعاً لعائلته، كوخاً مصنوعاً من قماش مشمع ضخم. ومن الكوخ باستطاعة خالد رؤية الجبال التي تقع سوريا خلفها. إنها تبعد بضع كيلومترات فحسب عن الحدود. يقول خالد: "لم يكن الأمر سهلاً في لبنان قَطّ لكننا شعرنا بالأمان إلى حدٍّ ما". إلى أن جاء يوم الجمعة ذلك في شهر نيسان/أبريل 2023.

خالد في الخمسين من عمره. يرتدي بنطال جينز، وقميصاً فاتحاً وسترة بيج. وخالد ليس اسمه الحقيقي. لحمايته وحماية أسرته، لن نذكر اسمه الحقيقي ولن نعرض صوراً له. يتلعثم حين يتحدث عن كيفية اعتقال الجيش اللبناني له وإحضاره إلى سوريا، وعن كيفية اضطراره للفرار من هناك والعودة إلى لبنان. يقول خالد: "كانت تجربة مؤلمة".

النقل إلى الحدود السورية في شاحنة عسكرية

في السنوات الأخيرة، رحّلت السلطات اللبنانية بشكل متكرّر لاجئين سوريين. لكن منذ بضعة شهور، بدأت بترحيل السوريين بشكل جماعي. يعتقل الجنود الناس عند نقاط التفتيش أو في مداهمات على أحياء المدينة والمخيمات، ويأخذونهم إلى الحدود السورية. وهناك يسلّمون اللاجئين إلى قوات الأمن السورية.

ومن الصعب تحديد عدد الأشخاص بالضبط الذين أعيدوا إلى سوريا هذا العام 2023 حتى الآن. إذ يزعم تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش أنه في الفترة الممتدة بين نيسان/أبريل وأيار/مايو 2023 فحسب، رحّل الجيش اللبناني آلاف السوريين، بما في ذلك أطفال، إلى سوريا. وعلى الرغم من أنّ عمليات الترحيل لا تتم الآن بنفس الوتيرة التي كانت عليها في وقت سابق من هذا العام 2023 يعيش الكثير من السوريين هنا في خوف دائم من أنهم قد يتشاركون مصير أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم ذاته.

 

مخيم غير رسمي للاجئين السوريين في وادي البقاع (سهل البقاع). Informelles Zeltlager syrischer Geflüchteter in der Bekaa-Ebene; Foto: Andrea Backhaus
يعيش الكثير من اللاجئين السوريين في لبنان في مخيمات غير رسمية، مثل هذا القريب من بلدة بر إلياس في سهل البقاع. بدأ خالد هنا حياة جديدة، بنى منزلاً متواضعاً ويعمل ليعيل أسرته. يقول: "لم يكن الأمر سهلاً في لبنان على الإطلاق. لكننا شعرنا بالأمان إلى حدٍّ ما".

 

ويعرف خالد ما الذي يعنيه الترحيل إلى سوريا. جرى إيقافه عند نقطة تفتيش. احتجزه جنود لبنانيون هناك لعدة ساعات، مع عدد متزايد من سوريين آخرين. ومن ثم اقتادوا خالد والآخرين في شاحنة عسكرية إلى الحدود السورية. يقول خالد: "لم يخبرونا لماذا يحتجزوننا وإلى أين يأخذوننا". ونُقِلوا مباشرة إلى جزء من الحدود السورية حيث استقبلتهم مجموعة صغيرة من الرجال.

لا يمكن لخالد تحديد هوية هؤلاء الرجال، ولكن هناك دلائل تشير إلى أنهم أعضاء من الفرقة الرابعة في الجيش السوري، وهي وحدة خاصة يسيطر عليها شقيق الرئيس السوري بشار الأسد، ويُعتقدُ أنها قتلت آلاف الأشخاص في سوريا.

يقول خالد إنه بينما كان لا يزال على الحدود، أخذه الرجال إلى مبنى وحبسوه في غرفة. يقول خالد: "كان هناك مئات الأشخاص. كانت الغرفة ممتلئة للغاية لدرجة أنه كان علينا أن نجلس القرفصاء بعضنا قُرب بعض". ويقول إن الرجال أخذوا بعض السوريين الذين اعتُقِلوا معه عند نقطة التفتيش. يواصل خالد: "لا أعرف ماذا حدث لهم. لم أرهم مجدداً قَطُّ".

عالق في دمشق

وبعد ثلاثة أيام نُقِل خالد بالحافلة إلى دمشق. ولا يعرف لماذا أُخِذ إلى هناك. فهو من حلب. أنزله السائق في مكان ما في المدينة. يقول خالد: "كنت هناك في وسط دمشق بلا أي شيء. لا مال ولا سكن ولا حتى فكرة عما ينبغي أن أفعله". كل ما كان بحوزته هاتفه المحمول. اتصل بزوجته ومن ثم اتصل بأحد معارفه في دمشق. يقول: "تمكنت من البقاء معه. بيد أنني كنت خائفاً للغاية".

يقول خالد إنه لم يكن ناشطاً سياسياً على الإطلاق. لكن نظام الأسد لا يقوم فقط بإجراءات وحشية ضد المعارضين السياسيين، إذ يعتبر النظام الأشخاص الذين فرّوا من سوريا خونة ويواجهون عقوبات صارمة. وكانت العودة إلى لبنان هي كل ما أراده خالد. وبعد أيام قليلة، نجح بذلك.

لا يريد خالد البوح بكيفية نجاحه في عبور الحدود. تقول منظمات حقوق الإنسان إن العديد من المُرحَّلين السوريين يدفعون لمهربين يخرجونهم من سوريا ويعيدونهم إلى لبنان مقابل عدة مئات من الدولارات، ويبدو أنّ أعضاء الفرقة الرابعة متورطون في الاتجار بالبشر.

 

لاجئون سوريون بالقرب من بلدة بر إلياس - وادي البقاع (سهل البقاع) - لبنان. Syrische Geflüchtete nahe der Stadt Bar Elias, Bekaa-Ebene, Libanon; Foto: Andrea Backhaus
حياة محفوفة بالمخاطر: وفقاً لأندريا باكهاوس يواجه جميع اللاجئين السوريين خطر الترحيل، ولا سيما أولئك الذين لا يملكون إقامة قانونية. وأقل من 800 ألف من أصل مليوني لاجئ سوري في لبنان مسجّلون لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

 

كان خالد محظوظاً: على الجانب اللبناني، التقطه سائق دراجة وأعاده إلى منزله. يقول خالد: "أحسّت أسرتي بالارتياح لعودتي بأمان". بيد أن هذه التجربة شكّلت نقطة تحول في حظوظه. ليس فقط لأنّه اضطر لترك دراجته النارية عند نقطة التفتيش، ولكن من دون دراجته لا يمكن لخالد بيع الكعك. يذهب الآن اثنان من أبنائه إلى العمل من أجل إعالة الأسرة. ولأنه يخشى من أن يرحّله الجيش مرة أخرى. يقول خالد: "سوريا ليست آمنة".

لم يعد السوريون يشعرون بأنهم موضع ترحيب

وكل اللاجئين السوريين معرضون لخطر الترحيل، ولا سيما أولئك الذين لا يملكون وضع إقامة قانوني، وهناك الكثير منهم. فلبنان، الذي يبلغ تعداد سكانه حوالي خمسة ملايين نسمة، استقبل ما يقارب من مليوني لاجئ سوري منذ بداية الحرب الأهلية. ولكن أقل من 800 ألف سوري هم المسجلون لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

وهناك سبب لذلك: فإلى بداية عام 2015، كان بإمكان السوريين الفارين من الحرب دخول لبنان من دون تأشيرة. جمّدت الحكومة اللبنانية آنذاك التسجيل وفرضت شروطاً صارمة لتجديد أوراق الإقامة. ومنذ ذلك الحين، لا يوجد لدى العديد من اللاجئين وثائق صالحة، مما يعني أنهم غير قادرين على التحرك بحرية ولديهم إمكانية وصول محدودة إلى الرعاية الصحية والتعليم.

في الوقت ذاته تؤثّر الظروف القمعية على جميع اللاجئين. لا يوجد مخيم رسمي للاجئين، لأنّ الحكومة لا تريد بقاء اللاجئين السوريين إلى أجلٍ غير مُسمّى، مثل اللاجئين الفلسطينيين الموجودين في لبنان منذ عدة عقود. كما يعيش العديد من السوريين في مخيمات غير رسمية على طول الحدود، في مبان مهجورة أو في الشوارع. ومعظمهم الكأد يملك القدرة على إعالة نفسهم.

ويشعرون على نحو متزايد بأنهم غير مرحب بهم. وقد شهد العديد من السوريين عداءً متزايداً في الفترة الأخيرة. يقولون إنّ العديد من اللبنانيين يوضحون بكل صراحة أنهم يرغبون في التخلص من السوريين. ويضيفون أنه كلما ساءت الأمور في لبنان ساءت معاملة البلد لضيوفه.

لبنان ينهار

ولبنان في وضع سيء للغاية. انهار الاقتصاد وتراجعت قيمة العملة. الدولة مُفلسة وبالكأد يمكنها استيراد أي سلعة. هناك انقطاعات منتظمة في الكهرباء. وبالكأد يوجد وقود؛ والعديد من المحلات مُغلقة. ومع كل يوم يمرُّ، ينهار لبنان أكثر. ويتحمل مسؤولية الأزمة الطبقة السياسية التي ملأت جيوبها على مدار عقود بدلاً من الحكم بشكل صحيح.

 

 

Syrian refugees in #Lebanon face deportation on questionable grounds as campaigns are increasingly led by the Lebanese army & local-level security actors—including #Hezbollahhttps://t.co/KDy4G87U9D

— ETANA (@ETANA_Syria) October 1, 2023

 

لكن العديد من اللبنانيين ليسوا غاضبين فقط من المحسوبية المنتشرة التي أغرقت لبنان في هاوية. بل يلومون كذلك اللاجئين السوريين. وهذا النفور من السوريين ليس بالأمر الجديد: فقد احتلّت القوات السورية لبنان من عام 1976 إلى عام 2005، ويتذكر العديد من اللبنانيين تلك الفترة بقلق.

وقد اشتعلت الكراهية القديمة بسبب وجود عدد كبير جداً من اللاجئين في لبنان، والمزاج متغيّر بشكل متزايد: يُهان السوريون ويُضربون، وفي بعض المناطق يُجبرون على الالتزام بحظر تجوّل صارم. وفي مسيرات احتجاجية، دعت مجموعات متطرفة السلطات إلى طرد جميع السوريين.

كما تؤجّج النخبة السياسية والدينية الكراهية. يؤكّد رجال الدين والسياسيون أنّ اللاجئين يستنزفون الموارد والبلد. وقد منعت وزارة الداخلية السلطات المحلية من تأجير الشقق للاجئين السوريين غبر المُسّجلين.

وبالنسبة للمتضررين فإنّ للتهييج الشعبوي هذا عواقب وخيمة. إذ يعيش العديد من السوريين في ظلّ احتمال الترحيل. تنقبض معدة خالد الآن كلما شاهد نقطة تفتيش للجيش اللبناني. أما آخرون، فنادراً ما يغادرون منازلهم خوفاً من إبلاغ الجيران عنهم للسلطات. وتُظهر الأبحاث الخاصة بهذا المقال مدى اتّساع نطاق الخوف: فقلة من الناس على استعداد للحديث إلى الصحفيين؛ ألغيت العديد من المقابلات المُرتّبة في اللحظات الأخيرة.

يتعّرض العائدون للعقاب وللتعذيب

كما أنّ هذا الشعور بالضعف بين السوريين قوي بسبب تقارب الدول العربية مع الأسد. ففي أوائل هذا العام 2023 أعادت الدول العربية عضوية سوريا في جامعة الدول العربية من بعد 12 عاماً من الاستبعاد. ولا يزال الغرب متردًّداً في التعامل مع الأسد، لكن يخشى العديد من السوريين أن يتغيّر هذا الوضع.

في نهاية المطاف تريد العديد من الحكومات الغربية أيضاً التخلّص من اللاجئين السوريين، وقد يمثّل التقارب مع الأسد الخطوة الأولى. يخشى السوريون أنّ تصبح عمليات الترحيل كتلك التي تجري في لبنان سلوكاً معتاداً قريباً.

ويستند الجيش اللبناني في تحركاته إلى لائحة حكومية تنصُّ على إمكانية إعادة السوريين، الذين دخلوا البلاد من دون أوراق نظامية بعد نيسان/أبريل 2019، إلى سوريا، وبالقوة إن اضطرّ الأمر. بيد أنّ عمليات الترحيل تنتهك اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب ومبدأ عدم الإعادة القسرية.

وينصُّ هذا المبدأ على أنّه لا ينبغي إعادة الأشخاص إلى دول يواجهون فيها خطر التعذيب أو الاضطهاد. وتقول منظمات حقوق الإنسان إن هذا بالضبط ما يتنظر السوريين في وطنهم.

تذكر منظمة العفو الدولية في تقرير لها: "تواصل المنظمات المحلية والدولية توثيق الأعمال القاسية المُرتكبة من قبل الجيش السوري والمخابرات السورية مع العائدين السوريين، بما في ذلك الأطفال، مثل الاعتقال غير القانوني والتعسفي، والتعذيب وغيرها من ضروب المعاملة السيئة، بما في ذلك الاغتصاب والعنف الجنسي والإخفاء القسري".

ومن يتحدث مع الجالية السورية في لبنان يسمع تأكيد هذه الادعاءات. يفيد اللاجئون أنه عند وصول أقاربهم إلى سوريا، أُخِذوا إلى الخدمة العسكرية أو اعتقلتهم المخابرات، وأنهم تعرضوا للضرب والتعذيب بالصدمات الكهربائية أثناء الاعتقال. بينما يقول آخرون إنه لا يوجد أي أثر لأقاربهم إطلاقاً.

اختفى في سوريا

وهذه هي تجربة مريم التي تبلغ 18 من عمرها (ليس اسمها الحقيقي). ففي عام 2014، فرّت مريم مع والديها إلى لبنان من محافظة إدلب السورية. وفي لبنان، التقت بزوجها، وهو من إدلب أيضاً. ومنذ بضعة أشهر، ظهر فجأة أفراد من الجيش اللبناني في شقة الزوجين.

 

لاجئون سوريون بالقرب من بلدة بر إلياس - وادي البقاع (سهل البقاع) - لبنان.  Syrische Geflüchtete nahe der Stadt Bar Elias, Bekaa-Ebene, Libanon; Foto: Andrea Backhaus
تكتب أندريا باكهاوس: "وضع لبنان سيء للغاية. انهار الاقتصاد وانخفضت قيمة العملة. والدولة مفلسة وبالكأد قادرة على استيراد أي سلع. وانقطاع تيار الكهرباء متكرر. وبالكأد يوجد وقود؛ أغلقت الكثير من المتاجر أبوابها. وكل يوم يمر ينهار لبنان أكثر بقليل".

 

كانت الساعة الثالثة فجراً حين طرق الجنود باب مريم. تقول مريم: "لم أكن أعرف ما الذي يجري، بيد أنني كنت مرعوبة للغاية". فتّش الجنود ملابس مريم وأمروا زوجها بالقدوم معهم. وفقاً لمريم، أخذ الجنود جميع الرجال السوريين من المبنى السكني في تلك الليلة. واستمرّت المداهمة حتى الفجر. وقيل إن الجنود يأخذون الرجال إلى سوريا.

وحتى يومنا هذا لم ترَ مريم زوجها من جديد. تقول: "لم يُسمح له بأخذ هاتفه المحمول. منذ تلك الليلة، لم أسمع صوته". ولا تعرف مريم أين زوجها. تقول إنّها تلقّت مكالمة قصيرة بعد المداهمة بفترة وجيزة. وقال لها المتصل: "زوجك في السجن في سوريا" ومن ثم أغلق السماعة. تقول مريم: "هذا كل ما أعرفه".

وكانت حاملاً في شهرها التاسع حين اختفى زوجها. وتقول إنها تكافح من أجل تربية طفلها بمفردها. ومن دون زوجها، الذي كان يعيل الأسرة، لا تملك دخلاً.

كما تقول إنها عادت للعيش مع والديها اللذين يكافحان أيضاً من أجل البقاء على قيد الحياة. ولم تكن قادرة إلى إنتاج أي حليب بسبب التوتر، كما أنها لا تملك المال لشراء حليب الأطفال. تقول مريم: "يبكي طفلي من الجوع. لكنني لا أملك شيئاً أقدمه له". وهي تصلي ليعود زوجها في يوم ما. تقول: "ليساعدني الله على تجاوز كل هذا".

 

 

أندريا باكهاوس

ترجمة: يسرى مرعي

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de