تجاوز الحدود المصطنعة في زمن ضعف التضامن العربي
رغم الإنجازات التي حققتها الثورة التونسية في مجال الحريات، وعملية التحول الديمقراطي، فإن الإنجاز الأهم الذي كان الشعب التونسي ينتظره ولا يزال، والمتمثل في تحول الدولة الوطنية من موقع خاضع للسيادة الرأسمالية المعولمة إلى موقع متمرد عليها، يبدو بعيد المنال،لأن النخب الحاكمة حاليا ليس على جدول أعمالها إنجاز ثورة تاريخية قادرة على الانعتاق من السيطرة الأمريكية–الأوروبية، من خلال بلورة نموذج جديد للتنمية المستدامة بوصفه الطريق الأمثل الذي يجب على تونس أن تتبناه من أجل بناء اقتصاد السوق الاجتماعي، أو العولمة العادلة التي تخدم مصالح الطبقات الشعبية الفقيرة، وتعمل على ترقية الاقتصاد التونسي وتأهيله، وتثبيته بصورة ناضجة على مسار العولمة.
فقد كشفت العملية الإرهابية في مدينة سوسة الواقعة في الساحل الشرقي التونسي في 26 يونيو/ حزيران 2015، هشاشة الاقتصاد التونسي القائم على السياحة، حيث كان للاعتداء الإرهابي وقع الصاعقة على القطاع السياحي، وأن الإرهابيين خططوا لضرب الاقتصاد وهم يعون تماماً أن إصابة الاقتصاد في مقتل تمر عبر قاطرة السياحة وهي قاطرة معطلة أصلاً. وتراجعت إيرادات السياحة التونسية خلال الربع الأول من العام الجاري بنسبة 6.8 بالمائة، بمقارنة سنوية، متأثرة بتراجع عدد الوافدين الأجانب خاصة بعد الاعتداء الإرهابي على متحف باردو في 18 مارس/ آذار 2015.
رهان تونس على السياحة
وكانت السلطات التونسية تتوقع تراجع الإيرادات السياحية بشكل قياسي خلال الموسم الحالي بنحو 15 بالمائة على أقلّ تقدير، لاسيَّما بعد إلغاء آلاف الحجوزات ومغادرة آلاف السياح الأجانب لتونس عقب الاعتداء الإرهابي الأخير. وكانت الحكومة التونسية تراهن قبل الاعتداءين الإرهابيين على المنشآت السياحية مثل متحف باردو وفندق ريو امبريال بسوسة، على نجاح الموسم السياحي الحالي، لتعويض جزء من الخسائر التي تكبدتها خلال المواسم الماضية. ويمثل قطاع السياحة نحو 7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويشغل حوالي 400 ألف شخص، ويوفر ما يصل إلى 20 بالمائة من إيرادات العملات الأجنبية، كما يوفر أعدادا كبيرة أخرى من فرص العمل المؤقت خلال الصيف.
وعبر الجزائريون عن تضامنهم مع الشعب التونسي على إثر العمليتين الإرهابيتين اللتين تعرضت لهما البلاد خلال هذه السنة، ووعدت الحكومة الجزائرية بقدوم أكثر من مليوني سائح جزائري إلى تونس في هذا الصيف، للحجز في فنادقها، ومعظمهم في سوسة والمنستير ونابل والحمامات وجربة وتونس العاصمة. وبقدوم هذا العدد الكبير من السياح الجزائريين، فإنهم ينقذون الموسم السياحي التونسي. وبهذا الموقف التضامني، يكون المواطنون الجزائريون قد تجاوزوا «الحدود المصطنعة» بين الدولتين التونسية والجزائرية التي رسمها الاستعمار الفرنسي، رغم مرور أكثر من نصف قرن من الاستقلال للبلدين، وتنوع النظامين، واختلاف المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهزيمة«القومية العربية»، وضعف «التضامن العربي».
استشراس ظاهرة الفوارق الطبقية
وكانت الدول المركزية الثلاث (تونس، الجزائر، والمغرب) تعتقد أن حل المشكلة الاقتصادية يتطلب النظر شمالاً نحو أوروبا، حيث إن 70 % من الصادرات تذهب إلى أوروبا، و60 % من الواردات تأتي من أوروبا. كما تقوم السياحة بالدرجة الأولى على الفرنسيين والإيطاليين والإسبان، وبدرجة ثانية على سائر الأوروبيين، وثالثة ورابعة على العرب الخليجيين. ورغم أن البلدان المغاربية منخرطة في سياسات الإصلاح الهيكلي، وقامت بخطوات كبيرة لتحرير وارداتها من الأسواق العالمية، وحققت خطوات مهمة على صعيد التجانس الضريبي والجمركي بما يسهم في تعزيز المبادلات المغاربية، فإن حرية تنقل السلع، ومرور المواطنين المغاربيين عبر الحدود ظلت محدودة. وهذا الوضع بحد ذاته يتناقض مع اتجاه بناء الاتحاد المغاربي الذي أنشئ في 17 فبراير/ شباط 1989، ومع الاندماج في نظام العولمة الرأسمالية الليبرالية.
فأمام إخفاق استراتيجيات التنمية للدول المغاربية، التي لم ترقَ إلـى مستوى الطموحات والآمال السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي علقت عليها الجماهير الشعبية في مرحلة ما بعد الاستقلال، وأمام استشراس ظاهرة الفوارق الطبقية في معظم البلدان المغاربية، فقد آن الأوان لكل من تونس والجزائر أن تطورا مشاريع التنمية على طرفي الحدود بين البلدين، بوصفها مناطق فقيرة، وحاضنة للجماعات الإرهابية. فالقاطن على خط الحدود التونسية– الجزائرية يدرك أن هذه الحدود قامت في كثير من الأحيان على فصل وتقسيم مناطق ذات خصائص جغرافية واحدة ونسيج اجتماعي متشابك، ومغاير في أحيان كثيرة لما هو موجود في العاصمتين التونسية والجزائرية.
من الملاحظ أن الدولتين التونسية والجزائرية شديدتا المركزية حول العاصمتين تونس والجزائر، بل إنهما تسميان باسم هاتين العاصمتين. وكان الإفراط في المركزية في السياسة والتنمية أيضا أدى إلى جعل المحافظات الداخلية، ولاسيَّما الحدودية في البلدين كليهما «أطرافاً» هامشية وضعيفة التنمية، وبالتالي حاضنة للحركات الإرهابية. كما أن النسيج الاجتماعي في هذه المحافظات الحدودية جعلها عصية على الخضوع لسياسات الدولتين المركزيتين. وهكذا كلما اقتصرت التنمية على العاصمة، والمدن الساحلية، في كل من تونس والجزائر، ازدهرت أنواع التهريب المختلفة في المحافظات الحدودية، والتهريب حاضنة أساسية للإرهاب.
أزمات اقتصادية خانقة وإخفاق تنموي حقيقي
إن تونس والجزائر اللتين تواجهان خطر الإرهاب المستوطن، وأزمات اقتصادية خانقة، وإخفاق تنموي حقيقي بالنسبة للمحافظات الداخلية وعلى الحدود بين البلدين، تحتاجان إلى استراتيجية إقليمية متكاملة للتنمية، تقوم على طرح بناء سوق مشتركة بين البلدين أو أي نوع آخر من التعاون، لاسيَّما في مجال حرية تنقل رؤوس الأموال، وحرية إقامة المشاريع الاستثمارية. وبما أن الجزائر تمتلك أكثر من 200 مليار دولار متأتية من عائدات النفط والغاز، فإنه بإمكانها أن تصرف هذه الأموال لإقامة مشاريع التنمية وتحقيق العدالة الاجتماعية داخل الجزائر لمعالجة الفوارق التنموية بين مناطق البلد الواحد بشكل حاسم، وإقامة مشاريع تنموية في المحافظات التونسية–الجزائرية المشتركة، تزيل الفوارق الإقليمية بين تونس العاصمة والمدن الداخلية والحدودية، وتحد من الهجرة المتجددة من الأرياف التونسية باتجاه تونس وسوسة وصفاقس، وانتشار الأحياء غير النظامية، التي أصبحت مرتعا للجماعات الإرهابية.
فمن يرغب في حل مشكل البطالة في كل من تونس والجزائر، وبالتالي حل مشاكل العاصمتين المكتظتين بالسكان، فعليه أن يتبنى استراتيجية إقليمية للتنمية، بوصفها الاستراتيجية الحقيقية المطلوبة في عصر العولمة الليبرالية، القادرة على إقامة بنى تحتية متطورة تربط بين العواصم والمدن الداخلية والحدودية بعضها ببعض، وتفسح في المجال لولادة أقطاب تنموية أساسية في كل من تونس والجزائر خارج نطاق العاصمتين، كما هي الحال عليه في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يتطلب تغييرا جذريا في نمط إدارة الدولة والمجتمع، بين المركز والأقاليم، أي نحو تحقيق اللامركزية السياسية والإدارية، أي تطوير الديمقراطية التشاركية عبر خلق المجالس المحلية في المحافظات الداخلية والحدودية لكي تتمتع بسلطات حقيقية، والانفتاح المحتوم للحدود بين البلدين يتيح حرية تنقل السلع ورأس المال والمواطنين.
توفيق المديني