"وثائقنا تكشف إرهاب نظام الأسد"
قنطرة: سقط ديكتاتور سوريا بشار الأسد قبل عام، ما الذي تشعر به في هذه الذكرى؟
حسن الحريري: ما زلت أشعر بالنشوة. يمكننا الآن السير في الشوارع بلا خوف. لم يفاجئني سقوط الأسد، كان من الواضح أن الرجل وصل إلى نهايته، كانت لديه فرص كثيرة ليحكم بلده بشكل أفضل، ولم يستفد منها.
كان عليك إخفاء هويتك في تلك الفترة، أما الآن فأنت تُجري مقابلات للصحفيين الأجانب باسمك الكامل، كيف يبدو ذلك؟
أشعر بالسعادة؛ لأنه بإمكاني الآن التحدث علنًا عن عملي. يمكننا كسوريين أخيرًا أن نعيش القيم التي خرجنا من أجلها إبان الثورة: الحرية والكرامة وحرية الرأي. أصبح بإمكاننا الانخراط سياسيًا؛ وهو أمر كان مستحيلاً في ظلّ النظام السابق.
جمعتَ خلال الحرب مع فريقك أكثر من مليون وثيقة تثبت الجرائم التي ارتكبها الأسد ومسؤولوه، وقد خاطرت بحياتك في سبيل ذلك، لماذا؟
كنت دائمًا ناقدًا لعائلة الأسد، سواء لحافظ أو لابنه بشار. كلاهما قمع الشعب، وفي دولة مراقبة كهذه كان النقد العلني مستحيلاً، لذلك عشت عدة سنوات في الكويت، ولما اندلعت الثورة عام 2011 عُدت فورًا إلى سوريا، وحضرت جنازات أناس، كثير منهم كنت أعرفهم شخصيًا، قُتلوا برصاص النظام خلال الاحتجاجات السلمية، عندها أدركت سريعًا أن علينا توثيق كل شيء لإثبات الجرائم لاحقًا.
متى بدأتم بجمع الأدلة؟
في اللحظة التي تحوّلت فيها الثورة إلى صراع مسلح؛ ازداد النظام وحشية تجاه المتظاهرين، وبعدها انشق شبّان عن الجيش، وشكّلوا الجيش السوري الحر وقاتلوا ضد النظام، حتى سيطرت قوى المعارضة على أولى المناطق نهاية عام 2012. في نفس العام، شاركتُ في تأسيس لجنة العدالة والمساءلة الدولية "CIJA"، وشكّلت فريقًا من 17 امرأة ورجلًا. درّبنا أنفسنا على أساليب مثل كيفية حفظ الأدلة بشكل صحيح، وكان مهمًا أن نبدأ العمل خلال الحرب، كي لا نفقد موادّ إثبات هامة.
أين عثرتم على الوثائق؟
وجدناها بشكل أساسي في المناطق التي سيطر عليها المتمردون، هناك كنا نُفتّش المباني التي تركها النظام والجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات. بعد جمعها، كنا نقسّم الوثائق ونخفيها في أماكن مختلفة، لتجنب المخاطرة بضياعها دفعة واحدة، لو اندلعت معارك هنا أو هناك. نقلنا بعضها إلى مناطق نائية، وسلّمنا جزءًا إلى بدو يعيشون في الخيام، وكنّا واثقين أنّ النظام لن يبحث هناك.
ذاكرة الخوف التي تصنع طاغيتها
تتغير دمشق على السطح، لكن صراع السلطة والعنف اليومي يظل كما هو، ومن تهليل على الإنترنت إلى شوارع مشتعلة، يُطرح السؤال: هل تغيّر شيء حقًا في سوريا، أم أننا نشهد إعادة إنتاج التاريخ ذاته؟
الترميم النقدي
كيف هرّبتم الوثائق عبر حواجز النظام؟
كان علينا أن نبتكر حيلة جديدة في كل مرة، أحيانًا كنا ننضم إلى موكب جنازة ونتخفّى بين المشيّعين الذين يرتدون اللون الأسود، إذ عادة لا يتم إيقافهم، أو نتظاهر بأننا ننقل أثاثًا، ونلصق الوثائق أسفل القطع داخل الشاحنة، وفي مرحلة ما، قررنا إخراج المستندات من سوريا بالكامل.
كيف فعلتم ذلك؟
ربما أستطيع الحديث عن التفاصيل بعد بضع سنوات، ما يمكنني قوله هو أنّ الأمر كان بالغ الخطورة، والكثير داخل سوريا وخارجها شاركوا به، فقد تولّى مختصون في أوروبا حفظ الوثائق وتحليلها.
ماذا تُظهر الوثائق؟
تكشف كيف كان إرهاب الدولة الذي مارسه الأسد منظَّمًا بدقة؛ فقد كان شديد البيروقراطية، يوثّق كل صغيرة وكبيرة بطريقة تشبه النازيين. تُظهر الوثائق كيف تعامل النظام بشكل ملموس مع المتظاهرين والمعارضة، ويمكن من خلالها تتبع سلسلة كاملة من الأوامر.
كانت ما تُسمّى باللجان الأمنية، التي تنسّق عمل أجهزة المخابرات والأمن، منظمة بشكل هرمي، حيث كان بشار الأسد يصدر تعليماته شخصيًا، وهو أمر حاسم. لم يقتل بيده، ولكن لا يمكن لجندي بسيط إطلاق النار دون أمر الرئيس أو مسؤوليه.
لقد ساهمت وثائقكم، قبل سقوط الأسد، في إدانة مسؤولين في النظام، سواء في ألمانيا أو السويد، حيث يمكن للمحاكم ملاحقة جرائم الحرب بغض النظر عن مكان ارتكابها أو الفاعل، ومن أبرز القضايا قضية أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في دمشق، المسؤول من بين أمور أخرى عن تعذيب آلاف الأشخاص، الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد عام 2022 من محكمة كوبلنتس الألمانية.
بعد اعتقال رسلان، تواصلت معنا السلطات القضائية الألمانية، لقد أرادوا معرفة ما إذا كانت لدينا معلومات عنه، فقدمنا لهم عشرات الوثائق، من بينها بروتوكولات استجواب وشهادات موظفين سابقين في قسمه.
لعبت وثائقنا دورًا حاسمًا في العديد من القضايا في أوروبا، وفي بعض الحالات استُدعينا أيضًا كخبراء، حيث تمكّنا من إثبات وجود شخص معين أثناء تعذيب أو قتل أحدهم، أو أنه كان في موقع يتيح له إصدار أوامر بارتكاب تلك الجرائم، ولم يعد بإمكانهم الادعاء بأنهم لم يكونوا على علم بما حدث.
أعمال مشبوهة تعطل الاستثمار
لا يزال الاقتصاد غير الرسمي يجد طريقه في سوريا، عبر أنشطة مثل الدعارة والمخدرات وتجارة الأموال غير المشروعة، مما يشكل عقبة أمام جذب الاستثمارات في مرحلة ما بعد الأسد.
هل أزعجك أن عامة السوريين لم يدركوا ما أنجزه فريقك آنذاك؟
لا، كان بعض زملائي يشتكون أحيانًا من أنهم لم يحظوا بالتقدير المستحق رغم المخاطر الكبيرة التي تعرضوا لها، أما بالنسبة لي، كان همّي الوحيد أن تحقق جهودنا أثرًا فعليًا. الآن رحل الأسد، وينبغي أن نركزّ على بناء هياكل ديمقراطية، وفي القلب منها نظام قضائي قائم على معايير دولية، حتى لا تتكرر مثل هذه الفظائع.
يتطلب ذلك أيضًا معالجة شاملة لجرائم النظام؛ إلى أيّ مدى يمكن للوثائق أن تسهم في هذا المسار؟
أصبح أرشيفنا الآن ملكًا للشعب السوري، إذ يضم أكثر من 1.3 مليون وثيقة، إلى جانب إفادات نحو 6 آلاف شاهد. قمنا برقمنة هذا الأرشيف وتحليل محتواه بحيث يمكن استخدامه في المحاكمات المستقبلية.
تواصلنا مع الحكومة الجديدة والتقينا مع ممثلين عن وزارات مختلفة بعد سقوط الأسد، كانوا في البداية متفاجئين وقالوا إنهم لم يسمعوا عنا من قبل. أوضحنا لهم أننا اضطررنا لإبقاء عملنا سريًا لأسباب أمنية، وقد أبدى وزير العدل، مظهر الويس، اهتمامًا كبيرًا بالأرشيف.
وعد الرئيس الشرع في بداية ولايته بأن يجعل العدالة الانتقالية أولوية، هل ترون بالفعل تقدّمًا؟
أطلق الشرع خطوات مهمة، وأعاد سوريا إلى الساحة الدولية، وشكّل حكومة وأجرى انتخابات برلمانية، كما أنشأ مؤسستين جديدتين مهمتين نرغب في التعاون الوثيق معهما: لجنة العدالة الانتقالية، المكلّفة قانونيًا بمعالجة جرائم النظام، ولجنة المفقودين، التي ستعمل على كشف حالات الاختفاء القسري العديدة.
هذه خطوات في الاتجاه الصحيح، لكن التحديات هائلة، وكل شيء يحتاج إلى وقت طويل، ويجري حاليًا إعداد قانون العدالة الانتقالية، ومن المفترض أن يعقد البرلمان الجديد أولى جلساته بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول للتصويت عليه؛ عندها فقط يمكن بدء المحاكمات.
"المُساءلة أهم من العقاب"
لا يزال السوريون يتساءلون عن سبل تحقيق العدالة والمصالحة بعد سقوط الأسد. يرى عالم الاجتماع محمد بامية، إشارات على رغبة القيادة الجديدة في التصالح مع الماضي، لكنه يحذّر من الوقوع في فخ العدالة الانتقائية.
كثير من السوريين يشعرون بالإحباط، ولديهم انطباع بأن مسار تحقيق العدالة يتحرك ببطء، ويخشون أن يفلت كثير من المسؤولين السابقين من العقاب، هل تتفهم هذه المخاوف؟
نعم، بالتأكيد. حتى الآن لم يُعتقل سوى عدد قليل من كبار المسؤولين المرتبطين بالنظام، من بينهم وزير الداخلية السابق محمد الشعار ورئيس المخابرات الجوية إبراهيم حويجة؛ هناك قاضٍ للتحقيق ووكيل نيابة يعملان بالفعل على القضايا المرفوعة ضد هؤلاء الرجال.
طُلب منا دعم السلطات في هذه القضايا وغيرها، ونودّ أن نسلّمهم وثائقنا، لكن لا توجد قاعدة بيانات يمكننا نقلها إليها. يفتقر المحققون والقضاة السوريون بشدة إلى المعدات والإمكانات. هناك دعم دولي لمشاريع تهدف إلى تعزيز الحوار داخل المجتمع المدني، لكن الدعم الملموس للمؤسسات المعنية بتنفيذ العدالة الانتقالية يكاد يكون معدومًا.
ما المطلوب لدفع عملية المحاسبة؟
هناك حاجة ماسّة إلى موارد أكبر: تمويل، والموظفين، والخبرة الدولية. تضم لجنة العدالة الانتقالية أحد عشر عضوًا فقط، بينما تحتاج في الواقع إلى آلاف الموظفين لإحداث فارق حقيقي، نتعامل مع جرائم ارتكبها نظام حكم البلاد 54 عامًا، وخاض حربًا ضد شعبه مدة 13 عامًا، لا يمكن تصور فظاعة الجرائم.
تتكرر أعمال العنف بين معارضي الأسد ومؤيديه، وأصبحت الاغتيالات واقعًا يوميًا، هل يفعل الشرع ما يكفي لتحقيق المصالحة في البلاد؟
سوريا بلد متعدد الأعراق والأديان، وقد عمّق الأسد الانقسامات بينها واستغلها لترسيخ سلطته. تجاوز هذه الإرث سيستغرق سنوات، تتعامل الحكومة بجدية كبيرة مع مسألة أخذ القانون باليد، وتسعى لإنشاء جهة لتلقي الشكاوى المجهولة؛ لأن كثيرين يخشون الإبلاغ عن تلك الانتهاكات.
إرث الأسد الباقي
لطالما استخدم نظام الأسد حماية الأقليات ذريعةً لتأليب الطوائف السورية المختلفة على بعضها البعض، فيما لا تزال الجراح العميقة التي خلّفها تتجلى في صورها العنيفة إلى اليوم، من مجازر الساحل إلى السويداء.
نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يلبي احتياجات جميع السوريين، وإلى مجتمع مدني قوي يراقب العملية السياسية. كان هناك وهم في عهد الأسد بأن الدولة تُنظم كل شيء، أما في دولة فتية بموارد محدودة، فيجب على الجميع المشاركة في مستقبلها.
أصدرت الحكومة السورية مذكرة توقيف بحق الأسد، الذي يعيش في ترف منفاه في روسيا، هل تعتقد أنه سيُحاسَب يومًا ما؟
هذه مسألة سياسية بالدرجة الأولى، وتحدث الشرع مؤخرًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول إمكانية تسليم الأسد، وإذا حصل الروس على ضمانات بشأن مصالحهم في سوريا، فإني أرى إمكانية تحقق ذلك. سيكون مهمًا بالنسبة للسوريين رؤية الأسد أمام محكمة سورية، لكن احتمال أن يُقتل قبل ذلك، لا يمكن استبعاده.
ترجمة من الألمانية: م. تايلور
قنطرة ©