"التعاطف مع الفلسطينيين جريمة في إسرائيل"
يبدو مع "عملية الجرف الصامد" التي أطلقها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة أنَّ العنف ضدّ المدنيين في غزة قد بلغ ذروته المؤقَّتة. فهل تعتقد أنَّ هذا الانطباع صحيح؟
يهودا شاؤول: سوف نحتاج من أجل الإجابة على هذا السؤال إلى المزيد من الدراسات والأبحاث. ولكن في الواقع تم في هذه العملية استخدام استراتيجيات جديدة، كانت لا تزال غير واردة على هذا النحو قبل بضعة أعوام. سأذكر لكم مثالاً: روى لنا أحد الجنود الذين شاركوا في عملية "الرصاص المصبوب" في عام 2009 وقد أدلى بشهادته أمام منظمة "كسر الصمت"، هذه القصة التي حدثت في الأيَّام الأولى من تلك العملية:
في أثناء أدائه مهمته لاحظ وجود شخصين أو ثلاثة أشخاص فلسطينيين خرجوا من منزل يبعد عنه نحو 200 متر. وبعد فترة قصيرة عادوا إلى هذا المنزل. وعن طريق جهاز اللاسلكي نقل بدوره تفاصيل تحركاتهم إلى القيادة. وردًا على ذلك استدعت القيادةُ طائرةً عسكريةً مقاتلةً لكي تقصف هذا المنزل. انصدم هذا الجندي بذلك واحتج على هذا العمل. وقال إنَّ هؤلاء الرجال كانوا غير مسلحين ولا يشكّلون أي تهديد مباشر للجيش. وكان ردّ العاملين في جهاز "الشاباك"، أي جهاز الاستخبارات الداخلية الإسرائيلية، أنَّ صاحب هذا المنزل هو عضو ناشط في حركة حماس ولهذا السبب كان لا بدّ من قصفه.
لقد تم تدمير هذا المنزل تدميرًا تامًا أحاله إلى ركام وخراب، على الرغم من وجود نساء وأطفال كانوا يُقيمون في داخله. في الواقع إنَّ مثل هذه الحوادث كانت قليلة ومتفرقة أثناء "عملية الرصاص المصبوب". لكن في "عملية الجرف الصامد" 2014 باتت هذه الحوادث استراتيجية عامة، حيث يتم قصف المنازل وتدميرها، على الرغم من أنَّ الجيش الإسرائيلي يعرف أنَّ في داخلها عائلات.
كيف تُفسِّرون هذا التحوُّل العنيف في قيادة الحروب؟
يهودا شاؤول: مع جيش الدفاع الإسرائيلي تتدهور الأوضاع من عملية عسكرية إلى عملية أخرى. وبالنسبة لنا كدولة تعتبر الهاوية الأخلاقية التي وصلنا إليها منذ بدء العملية العسكرية السابقة هي نقطة الانطلاق للعملية التالية. وعلى هذا النحو يستمر الوضع. ومع "عملية الجرف الصامد" يستمر الجيش الإسرائيلي من حيث انتهت في عام 2009 "عملية الرصاص المصبوب" ضدّ حركة حماس، غير أنَّ الأساليب التي بات يتم استخدامها تعتبر وبكلّ بساطة أساليب جنونية.
إذ يقوم الجيش بإلقاء قنابل تحذيرية صغيرة على أسطح المباني أو يعطي السكّان فترةً قصيرةً، يجب عليهم خلالها مغادرة المنزل قبل أن يتم تدميره. ولكن حتى إذا كان الجيش على علم بأنَّ العائلات لا تزال في داخل المنزل ولم تغادره بعد، يتم قصفه على الرغم من ذلك في حالات كثيرة. وهكذا يقتل الجيش جميع أفراد العائلة.
هل تغيَّرت في الأزمة الحالية نظرة الإسرائيليين إلى الفلسطينيين؟
يهودا شاؤول: حتى نفهم الدينامية العسكرية، يجب علينا أن نُبيِّن حقيقة الاحتلال بوضوح. إنَّ من يعمل كجندي في مهمة داخل الأراضي المحتلة، لا يحتاج إلى غسل دماغ من أجل العملية التالية. فالعالم محبوك هنا بصورة سهلة للغاية: إمَّا نحن أو هم. إمَّا أسود أو أبيض. كلّ ما نفعله نحن صحيح، وكلّ ما يفعلونه هم خطأ. المجتمع الإسرائيلي يعيش في مجمله الآن في حالة سيئة للغاية. نحن نتمسَّك بهذا الاحتلال منذ أكثر من 47 عامًا. لقد فقد الناس في إسرائيل الاحساس تمامًا. ولم يعودوا قادرين على رؤية الفلسطينيين كبشر. فهم لا يبالون على الإطلاق بمعاناة الطرف الآخر. وفي يومنا هذا صار التعبير عن التعاطف يكاد يكون جريمة في إسرائيل، حتى عندما يتعلق الأمر بالنساء والأطفال.
ما تأثير كلّ ذلك على نفسية الجنود؟
يهودا شاؤول: بطبيعة الحال، إنَّ المرء كجندي في الأراضي المحتلة يتمعَّن مليًا في أعماله وأفعاله ويفكِّر باستمرار في الصحيح والخطأ. وأحيانًا يتصوَّر فعلاً معيَّنًا ويقول لنفسه لا يمكن لأحد أبدًا أن يفعل مثل هذا الشيء. وبعد أسبوع يفعل فجأة وبالتحديد هذا الشيء الذي كان يعتبره أمرًا مستحيلاً قبل ذلك. وهكذا يتجاوز المرء ببطء ولكن بثبات جميع الخطوط الحمراء، واحدًا تلو الآخر. وفقط عندما يكون المرء قد تجاوز خمسة من هذه الخطوط، يلاحظ أنَّه قد كسر مبادئه.
على سبيل المثال: يقتحم الجندي في ب داية خدمته العسكرية بيتًا فلسطينيًا في منتصف الليل ويوقظ جميع أفراد الأسرة. يبدأ الأطفال في البكاء. يشعر المرء في قرارة نفسه بأنَّ هذا العمل ليس صحيحًا. بيد أنَّه يعتاد بعد فترة قصيرة على ذلك، لأنَّه سوف يُكرّر القيام بهذا العمل في الليل والنهار. وبالتدريج ينسى المرء أنَّ هذا الأمر يتعلق بعائلة وأنَّه عمليًا يستولي على حياتهم.
هل خضت عندما كنت جنديًا تجارب مشابهة؟
يهودا شاؤول: دعني أروي حكاية حول ذلك عن مهمتي في الأراضي المحتلة: في عام 2002 كنت أقوم مع وحدتي العسكرية بعملية في مخيم للاجئين بالقرب من مدينة رام الله. وطيلة أسبوع كنا نقوم بتفتيش منزل تلو الآخر. وفي الوقت نفسه كانت تجري بطولة كأس العالم. لقد كانت هناك مباراة مهمة تلعب فيها البرازيل، وكنا جميعنا نريد مشاهدتها. كان ضابطنا من كبار مُشجِّعي البرازيل. لذلك أوقفنا عمليات التفتيش قبل نصف ساعة من بداية المباراة وذهبنا إلى الشوارع من أجل البحث عن منزل عليه طبق للأقمار الصناعية. وجدنا منزلاً ودخلناه فجأة، وحجزنا العائلة في الطابق الأرضي، بينما شاهدنا المباراة. كان يبدو لنا القيام بمثل هذا الشيء أمرًا مقبولاً تمامًا. لم يشكِّك أي واحد منا في عملنا هذا، حيث يعتاد المرء على ذلك.
لماذا لم تعد توجد في إسرائيل احتجاجات ضدّ الحرب على غزة؟
يهودا شاؤول: المناخ العام في إسرائيل حاليًا سيِّئ جدًا، وحتى أنَّه أسوأ مما كان عليه أثناء العمليات العسكرية الماضية. لا يوجد على الإطلاق أي مجال للتشكيك في هذا العمل العسكري. وأنا لا أعني بذلك وسائل الإعلام على الإطلاق. في تل أبيب وحيفا تعرَّض العديد من المتظاهرين المناهضين للحرب للضرب من قبل العصابات، وتم نقل بعضهم إلى المستشفيات. وبدورها لم تفعل الشرطة أي شيء.
وفي الوقت نفسه كان هناك سياسيون ومسؤولون كبار، طالبوا في الصحف بإزالة أحياء ومناطق بأكملها في قطاع غزة. وكذلك اقترح أستاذ جامعي يعمل في جامعة بار إيلان في مقابلة إذاعية معه، أن تتم السيطرة على الإرهابيين من خلال اغتصاب نسائهم. وللأسف يتم في الوقت الراهن منح مساحة كبيرة للأصوات المتطرِّفة في بلدنا. وفي المقابل لا يكاد يوجد حاليًا أي منبر للأصوات النقادة.
في الوقت نفسه، لقد تدهورت صورة إسرائيل في الغرب. فكيف يشعر المرء في إسرائيل عندما يتصوَّر ردود الفعل الناقدة لإسرائيل في جميع أنحاء العالم؟
يهودا شاؤول: صحيح أنَّ سمعة إسرائيل تتدهور الآن، ولكن لا يزال الإسرائيليون يتمسَّكون بالاحتلال. ولا يزالون يواصلون بناء المستوطنات، ويواصلون بذلك توسيع الحكم العسكري على الفلسطينيين. إسرائيل لا تتّجه إلى الخروج من المواجهة، بل على العكس من ذلك، فنحن نورّط أنفسنا أعمق وأعمق في هذه المواجهة. نحن نفعل كلّ ما في وسعنا من أجل المحافظة على الاحتلال، غير أنَّني كمواطن إسرائيلي أشعر بأنَّ التصريحات المعادية للسامية التي أدلى بها بعض المتظاهرين في أوروبا مقلقة للغاية. وهذه التصريحات لا تعتبر غير مقبولة فقط، بل تساعد أيضًا دولة إسرائيل في التمسّك مرارًا وتكرارًا بمقوله مفادها أنَّ "العالم كلّه ضدّنا".
ما هي طبيعة ردود الفعل التي تنتابك بصفتك داعية سلام ناشط في إسرائيل؟
يهودا شاؤول: أنا لست ناشطًا مناهضًا للحرب ولا داعية سلام. أنا أؤمن بأنَّ لإسرائيل الحقّ في دفاعها عن نفسها، وحتى بواجب القيام بذلك. لكنني أعارض فقط هذا العنف الذي نستخدمه. كما أنَّني ضدّ قتل البشر لأنَّهم لم يستمعوا لنداءاتنا. فهل يستطيع أحد في العالم أن يقبل بمثل هذا الشيء؟ وبطبيعة الحال ينظر الكثيرون من الإسرائيليين إلى نشطاء منظمة "كسر الصمت" على أنَّهم خونة. ولكن لو قلت لي قبل عشرة أعوام إنَّ هناك اليوم نحو ألف جندي، كسروا صمتهم حتى الآن، لكنتُ وبكلّ تأكيد سأضحك مما تقوله. يوجد اليوم نحو ألف شخص قد غيَّروا رأيهم. كما أنَّ قصصهم حول حقيقة الاحتلال متاحة الآن للرأي العام.
يعتقد بعض المراقبين السياسيين أنَّ التهديد الأكبر لأمن إسرائيل لا يكمن في حركة حماس، بل في استمرار احتلال الأراضي الفلسطينية. فكيف تنظر إلى ذلك؟
يهودا شاؤول: أنا أوافق على هذا الرأي. فالمخرج الوحيد من أجل تمكّن اليهود من تحقيق حقّهم في تقرير مصيرهم داخل إسرائيل، هو من خلال توقفهم عن حرمان الفلسطينيين من هذا الحقّ بالذات. وفي الحقيقة تمثِّل طريقة معاملة الفلسطينيين التهديد الأكبر لإسرائيل. كما أنَّها تُقوِّض شرعية دولة إسرائيل. أنا لا أؤمن بمقولة "إمَّا نحن أو هم". بل أؤمن بأنَّ الصحيح هو عكس ذلك تمامًا: إذ إنَّ أمن إسرائيل يتوقّف على وجود دولة فلسطينية ذات سيادة إلى جانبنا. ويتوقّف على الاعتراف للفلسطينيين بحقوقهم وكرامتهم. نحن نعيش حاليًا في إسرائيل معركة من أجل قلب مجتمعنا وروحه. والأسئلة الحاسمة هي: كيف نفهم أنفسنا كمجتمع؟ ما هي طبيعة البلد الذي نريد أن نعيش في داخله في المستقبل؟ وهل نقبل فعلاً بقصف جميع تلك العائلات البريئة؟
حاوره: ماريان بريمر
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014
خدم يهودا شاؤول كجندي وقائد في الجيش الإسرائيلي، وشارك في تأسيس المنظمة غير الحكومية الإسرائيلية "كسر الصمت"، وهي مبادرة أطلقها مع بعض المجنّدات والجنود الإسرائيليين السابقين، بغية لفت الانتباه إلى الظلم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. تهتم هذه المبادرة بتقديم التقارير حول أعمال العنف ضدّ الفلسطينيين والتهديدات التي يتعرّضون إليها، والوحشية المتسللة إلى أقسام من الجيش الإسرائيلي.