الغناء سلوة اليمنيين في زمن الحرب

المغنية اليمنية الفتية ماريا قحطان.
المغنية اليمنية الفتية ماريا قحطان.

طوال سنين فقد اليمنيون الكثير من مظاهر الاحتفاء والسرور بسبب الحرب. لكن عقيدة الحياة تنتصر دوماً فـ"رغم الظروف القاسية ورغم المِحَن" يحاولون تحدي كل ذلك وخلق مظاهر فرح بالغناء. استعلام صفية مهدي.

الكاتبة ، الكاتب: صفية مهدي

بسبب الحرب والأوضاع الاقتصادية والمعيشية فقد اليمنيون الكثير من مظاهر الاحتفاء والأخبار السارة، بيد أن الأغنية بقيت وبرزت كأحد أهم مظاهر رسم المسرات في حياة اليمنيين وإحدى أهم وسائل مقاومة اليأس، حيث يمكن للفتاة المطربة الصاعدة، ماريا قحطان، أن تصنع الأفراح ويلتف حولها الجمهور أينما ذهبت على امتداد البلاد، جنباً إلى جنبٍ، مع حضور مضطردٍ يسجله المطربون اليمنيون الجدد على الصعيدين المحلي والإقليمي، في محاولة لتجاوز التحديات وبالاستفادة من التراث اليمني الثري  في هذا المجال.

بدأت ماريا قحطان (14 عاماً)، بالظهور العام من خلال أحد البرامج التلفزيونية للمبدعين في سنة 2018، لكن ماريا -الموهبة التي توافر لها العامل الأهم في مجتمع محافظ كاليمن وهو التشجيع والدعم اللامحدودان من الأسرة (الأب والأم)- استطاعت أن تخلق حضوراً يكاد لا يستثني أي بيت يمني إن لم يكن على مستوى المنطقة والخليج. أحيت العديد من الاحتفالات الغنائية والجماهيرية في اليمن والسعودية، ومؤخراً طافت ثلاث مدن رئيسية هي عدن والمهرة وسيئون في حضرموت، وأينما ذهبت يُظهِر التفاعل المجتمعي قدرة الإبداع والصوت الفني على تجاوز الحواجز التي تصنعها الحروب والأزمات السياسية.

 

 

في حديثها لِـ دي دبليو تقول ماريا قحطان "سر نجاحي هو توفيق الله سبحانه وتعالى ودعاء الوالد والوالدة ترافقني أينما ذهبت"، والأسرة "دائما تشجعني وتقف بجنبي" وكذلك "طاقم العمل له جهود كبيرة من تسجيل وتصوير وكل شيء".

تحركت الفنانة الصاعدة في مدينة سيئون بموكب ترافقه سيارات الشرطة، كما لو أنه موكب رئاسي، لكنه للشابة صاحبة الصوت الساحر الأكثر حضوراً في مسامع الصغار اليمنيين، وتضيف: "أكون سعيدة جداً عندما أزور المدن وأرى جمهوري كبير وأكون أكثر سعادة لما أرى أطفال في الجمهور يعني لتقارب السن بيني وبينهم"، وكذلك فإن "الجمهور دائما يكون الرصيد الحقيقي لأي فنان".

الشاعر والكاتب اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني. Dichter Mohamed Al-Shebani Singen und Musik im Jemen - Freude trotz Krieg
حضور التنوع الموسيقي اليمني بقوة في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي: يقول الشاعر والكاتب اليمني محمد عبد الوهاب الشيباني إنه يمكن لأي متابع أن يرى كيف أن التنوع الموسيقي والغنائي في اليمن صار حاضراً وبقوة في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي وأن مهتمين كثراً بدأوا بإتاحة محتويات (أراشيفهم) الموسيقية النادرة للمتابعين.

طفرة غنائية وخصوصية يمنية

لا يمكن فصل الحضور الذي تسجله الأغنية اليمنية عن نظيراتها العربية في بلدان أخرى وعن المساحة التي أتاحتها شبكات التواصل الاجتماعي، للمطربين الشباب والهواة بعرض أعمالهم والتواصل مع الجمهور.

ومع ذلك فإن الغناء اليمني يمتلك خصوصية تستند على مخزون ضخم من التراث الفني في بلد تعددت فيه ألوان الغناء بين الصنعاني واللحجي والحضرمي وغيرها، وشهد ولادة عدد من أبرز نجوم اللحن والغناء على مستوى بلدان الخليج العربية بشكل خاص، مثل أبوبكر سالم، محمد مرشد ناجي، وحتى بالنسبة لفنانين كبار في السعودية، مثل محمد عبده، فإنهم يتفاخرون بتأثير التراث اليمني عليهم في بداياتهم وأعمالهم الفنية بمراحل مختلفة.

وعلى الرغم من ظروف الحرب الإنسانية والأمنية والاقتصادية الصعبة التي توقفت معها الفعاليات الفنية وتفشت معها حتى القيود والنظرة المتشددة تجاه الغناء في بعض المناطق، إلا أنها فرضت نفسها وأصبح هناك للمرة الأولى ما عُرف بـ"يوم الأغنية اليمنية"، بدأ كمبادرة من نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن تقره رسميا وزارة الإعلام والثقافة في الحكومة المعترف بها دولياً منذ العام الماضي 2022. وتصادف المناسبة الأول من يوليو/تموز كل عام.

ويقول الشاعر والكاتب محمد عبد الوهاب الشيباني في حديثه لِـ دي دبليو عربية، إن مبادرة يوم الأغنية اليمنية "كانت في البداية ردة فعل تجاه التصرفات الظلامية التي قامت بها الجماعة الحوثية ومتناسلاتها بفرضها قيوداً على فناني الأعراس وحبس بعضهم وفرضها نمطاً محدداً في إحياء الأفراح، ووصل بهم الأمر إلى منع الغناء وتحريمه في بعض المدن -مثل عمران وصعدة وحجة- حيث حواضنهم الأيديولوجية والقبلية".

 

 



ومع ذلك فإن وفقاً للشيباني "هذه المبادرة  صارت مع الوقت فعلَ مقاومة مكتملاً، ضد محاولات تجريف ذاكرة اليمنيين الطربية"، إذ بدأ الكثيرون يفتشون عن فنانين مطمورين وأغانٍ منسية وترويج السماع لها"، كما أنه بعد عامين من هذه المبادرة يمكن لأي متابع أن يرى كيف أن التنوع الموسيقي والغنائي في اليمن صار حاضراً وبقوة في فضاء التواصل، وأن مهتمين كُثُراً بدأوا بإتاحة محتويات (أراشيفهم) الموسيقية النادرة للمتابعين".

فعاليات وأعمال فنية

واتخذ الحضور مسارات عدة بصدور أعمال فنية تجمع العديد من المطربين والمطربات الشباب ومهرجانات في الغالب خارج البلاد، ومع ذلك وجدت طريقها إلى مناسبات محلية، كما حصل في مدينة تعز خلال عيد الأضحى، حيث احتضنت مهرجانا جمع مطربين من مختلف أنحاء اليمن، وللمرة الأولى بحضور فنان وملحن كبير مخضرم وهو محمد محسن عطروش. وبالتزامن مع ذلك شهدت حضرموت عرساً ثقافياً هو مهرجان "البلدة" الذي تتخلله فعاليات غنائية.

 

الفنانة هاجر نعمان تحيي مهرجان نجم البلدة في المكلا pic.twitter.com/CXt0zkkrPI

— عبدالرحمن أنيس (@abdulrahmananis) July 16, 2023

 

هذا الحضور يتجسد أيضاً على صعيد أعمال فردية، حصدت ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب ومواقع أخرى، كما هو حال أغنية قدمها المطرب الشاب أيمن قصيلة، الذي اشتهرت إحدى أغانيه وتجاوزت 30 مليون مشاهدة.

"الفن علاج نفسي لكن.."

جمهور عدن في اليمن يحضر حفلات ماريا قحطان. Maria Qahtan Singen und Musik im Jemen - Freude trotz Krieg
جمهور عدن في اليمن يحضر حفلات ماريا قحطان: بدأت ماريا قحطان (14 عاماً)، بالظهور العام من خلال أحد البرامج التلفزيونية للمبدعين في العام 2018، لكن ماريا الموهبة التي توافر لها العامل الأهم في مجتمع محافظ كاليمن، وهو التشجيع والدعم اللامحدودين من الأسرة (الأب والأم)، استطاعت أن تخلق حضوراً يكاد لا يستثني أي بيت يمني إن لم يكن على مستوى المنطقة والخليج. أحيت العديد من الاحتفالات الغنائية والجماهيرية في اليمن والسعودية، ومؤخراً طافت ثلاث مدن رئيسية هي عدن والمهرة وسيئون في حضرموت، وأينما ذهبت يظهر التفاعل المجتمعي، قدرة الإبداع والصوت الفني على تجاوز الحواجز التي تصنعها الحروب والأزمات السياسية.

وفي حديثه لِـ دي دبليو عربية يقول قصيلة إن الأغنية يمكن أن تصل شهرتها إلى الترند العربي، ومن ثم يبدأ الجمهور اليمني بإعادة النظر إليها، إذ أن انتشار نحو ثلاث أغاني يمنية جعل "الناس يهتمون بالفن"، وخاصة مع الحروب، حيث تصبح الأغاني ملاذاً يخرجهم من الأوجاع والآلام المرتبطة بالواقع.

ويشير قصيلة إلى تحول في بروز مطرب ما، إذ أنه في السابق، كانت القنوات الرسمية هي من يصنع الفنان، أما اليوم، أصبح المعيار الوحيد هو أن "تُظهِر موهبتك". ويقول إن الجمهور يتجاوز الحدود بشكل واسع جداً وإنه ممتن لـ"التجربة الجميلة الي وصلت صوتنا ولهجتنا وفننا إلى الوطن العربي والردود التي جاءتنا من إخواننا العرب". وينوه إلى أن "المشاعر والفن لا حدود لهما، حيث لغة الفن عالمية والموسيقى لغتها عالمية".

من جانبها، ترى المطربة الشابة رحاب قطابر في حديثها لـِ دويتشه فيله عربية، أن المطرب اليمني واجه صعوبات حقيقية في الوصول بمراحل سابقة، ولكن التحول حدث منذ ثلاث سنوات تقريباً.

وقد ساعد في ذلك شبكاتُ السوشال ميديا، وترى رحاب قطابر أن الجمهور اليمني بطبيعته ناقد، إذ يتناول أي أغنية بطريقة ناقدة قد تؤثر كثيراً في المطرب -أو المطربة- والذي يواجه تحديات عديدة، أبرزها العامل المادي، إذ أن تقديم عمل غنائي متميز -كما يحصل في دول عربية أخرى- يتطلب تكلفة لا تتوفر لدى المطرب اليمني، كما تقول قطابر.

وعما إذا كان يمكن للفن اليمني أن يؤدي رسالة يمكن أن تسهم في تخفيف معاناة الناس، تشدد قطابر على أن الفن في طبيعته علاج نفسي في الفئات المتضررة نفسياً من الحرب، ومع ذلك، فإن الوضع النفسي والمعيشي الصعب للناس وصل مراحل كبيرة جداً، يصعب الحديث عن معالجتها دون تظاهر العوامل الأخرى.

 

 

"لا تطور من حيث النوع"

في المقابل وعلى الرغم من الحضور والذي برز معه المطربون والمطربات والفعاليات، ما يزال الأداء يواجه نقداً، إذ يقول لِـ دويتشه فيله عربية الناقد اليمني د. قائد غيلان إن "هنالك تزايداً في عدد المغنين، لكن ليس هنالك تطور نوعي، هو في معظمه تقليد للموروث الفني وبطريقة مشوهة"، حيث "لم تشهد الساحة ملحناً مختلفاً ولا كاتبَ أغنية مميزاً، وليس هنالك حتى أصوات تدهشك، هنالك فنان يزعم أنه يجدد وهو لا يفعل شيئا غير أنه يسرع باللحن ويدخل آلات جديدة، وبدلا من أن يغني وهو قاعد ويعزف على العود، يغني وهو يتقفّز".

وبرأي غيلان "ليس هنالك من الأصوات الجديدة تستحق الإعجاب غير ماريا قحطان وفاطمة مثنى، هاتان الفنانتان تسيران بخطى ثابتة وحتما ستحققان شيئا".

 

 

ويبقى أن نلاحظ أنه كلما اشتدت قسوة الحياة على اليمنيين وضاقت بهم ظروف بلادهم، ترنموا بحزن بأغنية الفنان الراحل كرامة مرسال (كلمات الشاعر حسين المحضار) التي تقول بعض كلماتها.

"حبي لها رغم الظروف القاسية رغم المحن.. حبي لها أمي سقتنا إياه في وسـط اللَّبَن (...) أحـببتها في ثوب بالي عيف أبلاه الزمن (...) أحببتها والسل فيها والجرب مالي البدن  (...)  مَن قال محبوبتك مَن؟ قلت اليمن".

 

 

صفية مهدي ـ صنعاء

حقوق النشر: دويتشه فيله 2023

 

 

ar.Qantara.de