"خرافة العراق الموحد...العراق صار مقسما بلا عودة"
كان هجوم "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" (داعش) على الموصل قبل نحو عامٍ مفاجئًا للكثيرين. لكنْ ألا يمكن اعتباره بطريقةٍ ما استمرارًا لانتفاضة السُّنَّة ضد هيمنة الحكومة المركزيَّة الشيعيَّة؟
فيلفريد بوختا: استغل تنظيم الدولة الإسلاميَّة الفراغ الذي نشأ على الجانب السُّني بين سنتي 2011 و 2013، وبعدما همَّش رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي أهم الساسة السُّنَّة والأحزاب السُّنِّيَّة وجرَّدها من نفوذها بشكلٍ منهجيٍ وهادف؛ إذ لم يعُد أمام المالكي أيَّة قوة موازنة بعد انسحاب الأمريكيين، وبالتالي استطاع أنْ يأمر وينهي كما يشاء. وقد استغلَّ هذا الوضع لإزاحة منافسيه السُّنَّة جانبًا ومقاضاتِهم في المحاكم باتهامات باطلة أو دفعِهم لمغادرة العراق.
وجراء استبعاد السياسيين السُّنَّة تشكَّلت حركة احتجاجيَّة في سنة 2011 في المحافظات السُّنِّيَّة ديالى وصلاح الدين ونينوى والأنبار. وكان قادة الاحتجاجات قد أطلقوا مبادرات لإجراء استفتاء شعبي غايته تحويل محافظاتهم إلى مناطق تتمتع بحكم ذاتي، وهي إمكانيَّة ينُص عليها بوضوح الدستور العراقي الصادر سنة 2005. وقد كان من شأن هذه الاستفتاءات لو تمَّ إجراؤها أنْ تحوز على موافقة غالبيَّة السُّنَّة. ولكنْ بالطبع لم يرِد المالكي ذلك، فواجه الحركة الاحتجاجيَّة بالعنف.
هل مهد المالكي الطريق أمام تنظيم الدولة الإسلاميَّة في نهاية المطاف من خلال استبعاد السُّنَّة؟
فيلفريد بوختا: لم يتبقَّ للسُّنَّة أحدٌ يملك صوتًا قويًا قادرًا على تغيير شيءٍ لصالحهم، فقد سلب قمع احتجاجات السُّنَّة البقيَّة الباقية من الأمل في التوصُّل إلى تسويةٍ مع الحكومة في بغداد التي يهيمن عليها الشيعة، ما أدى إلى التطرُّف وعسكرة الحركة الاحتجاجيَّة ودفع الكثير من السُّنَّة إلى أحضان تنظيم الدولة الإسلاميَّة، فاستغل التنظيم غضب السُّنَّة المحتقن وخطف حركة الاحتجاج ووجهها لأغراضه.
ألا يوجد سياسيون يريدون إحلال تسويةً بين الطوائف؟
فيلفريد بوختا: يهيمن المتشددون على الجانب الشيعي، مثل "المجلس الأعلى الإسلامي العراقي" الموالي لإيران، وكذلك التيار الصدري، وبالتأكيد حزب الدعوة الإسلاميَّة الذي لا يزال يهيمن عليه المالكي. هذه الجهات ليست مستعدة لتقاسم السلطة؛ وعلى الجانب السُّنِّي هناك بعض الساسة المستعدين للتكيُّف مع الظروف الجديدة، والذين تخلُّوا عن تمسكهم بإعادة النخبة القديمة إلى السلطة، لكنَّ هؤلاء لا يشكِّلون اليوم سوى أقليَّةٍ صغيرةٍ. وبغض النظر عن القائمة "العراقيَّة" بقيادة إياد علاوي، ليس هناك قوة قوميَّة علمانيَّة قادرة على الصمود أمام الطائفيين المتشددين من الجانبين. بينما من شأننا أنْ نجد بالتأكيد ناخبين لقوة كهذه.
إلى أي مدى يتعاطف المواطنون السُّنَّة مع تنظيم الدولة الإسلاميَّة؟
فيلفريد بوختا: معظم السُّنَّة بحسب تجربتي ليسوا متعصبين دينيًا. وأعتقد أنَّ نسبة المقتنعين حقًا بتنظيم الدولة الإسلاميَّة متدنية. يرتضي السُّنَّة عبء نير تنظيم الدولة الإسلاميَّة لأنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا آخر، فتوجهات معظم السُّنَّة أقرب للوطنيَّة والعلمانيَّة. ولطالما كانت الهويَّة الطائفيَّة لدى السُّنَّة أقل تجليًا مما كانت عليه لدى الشيعة، فهم يرون أنفسهم عربًا في المقام الأول، ومن ثم مسلمين وبعد ذلك سُّنَّة، لكنَّ إقصاءهم عن السلطة أدّى إلى تقوية المكوِّن المذهبي لهويتهم الذاتيَّة.
ما هو الدور الذي يلعبه الجهاديون الأجانب داخل تنظيم الدولة الإسلاميَّة؟
فيلفريد بوختا: ليس هناك إلا القليل من المعلومات الموثوقة. أثناء إقامتي في بغداد بين سنتي 2005 و 2011 كان في تنظيم القاعدة في العراق الذي سلف تنظيم الدولة الإسلاميَّة سعوديون ومغاربة وتونسيون على وجه الخصوص وفقط قلَّة قليلة من العراقيين، بعد ذلك انضم كثيرٌ من المسؤولين والضباط السابقين في حزب البعث القومي-العلماني الذي كان يقوده صدام حسين. وهؤلاء مناورون ماكرون في لعبة السلطة، وقد فركوا أيديهم فرحًا عندما ارتكب المالكي خطأ تهميش السُّنَّة، لأنه ساعدهم بذلك دون قصد.
ما هو حجم تأثير البعثيين في تنظيم الدولة الإسلاميَّة؟
فيلفريد بوختا: لا توجد معلومات دقيقة عن طبيعة توزيع السلطة بين البعثيين المنضمِّين والجهاديين العتاة. أما مسألة تحديد الجهة المُعتمِدَة أكثر على الأخرى أو تلك التي تـُسيطِر على الأخرى – فلا يمكننا إلا التخمين بشأنها. هناك نظريَّة تقول بأنَّ البعثيين الهاربين والمتخفين قد أطلقوا لحاهم وهم يستخدمون تنظيم الدولة الإسلاميَّة مطيَّةً لتحقيق هدف صدام حسين القديم والمكوِّن الجوهري لفكر البعث في الوقت ذاته، ألا وهو توحيد العرب انطلاقًا من العراق وجمعهم في دولةٍ عربيَّةٍ كبرى. لكنْ هذه ليست أكثر من نظريَّة مؤامرة.
ما هو الدور الذي تلعبه الجهات الخارجيَّة في الاستقطاب الطائفي في العراق؟
فيلفريد بوختا: يلعب السعوديون دورًا هدَّامًا إجمالًا، وهم لا يعتمدون سياسةً ذات أفق بنَّاء. تموِّل الدولة السعوديَّة في العراق مجموعاتٍ وأحزاب متنوِّعة وراء الكواليس، منها المعتدلة ومنها السلفيَّة. ويتمُّ هذا بأسلوب الرش والتوزيع دون تمييز، بهدف التضييق على الحكومة الشيعيَّة في بغداد وبالتالي على أصدقائها الإيرانيين، بالإضافة إلى ذلك يواصل مانحون سعوديون بصفة شخصيَّة تمويل تنظيم الدولة الإسلاميَّة في العراق أو جبهة النصرة في سوريا عبر منظماتٍ إغاثيَّةٍ.
وكيف يبدو الأمر من جانب إيران؟
فيلفريد بوختا: الإيرانيون بدورهم لا يمارسون سياسةً بنَّاءةً تهدف إلى احتواء السُّنَّة المستبعدين سياسيًا. هدف إيران الأهم ألاَّ يُشكِّل العراق مجددًا تهديدًا لها كما حصل في عهد صدام حسين، وألاَّ تندلع أبدًا حربٌ عدوانيَّةٌ ضدها من الأراضي العراقيَّة. هذا هو الهدف الاستراتيجي الأعلى. ولتحقيقه تحتاج إيران إلى حكومةٍ شيعيَّةٍ مواليةٍ لها في بغداد. الحرس الثوري الإيراني المسؤول عن العراق وسوريا لا يعنيه سوى إبقاء الشيعة في الحكومات وتوسيع سلطتهم قدر الإمكان على كامل التراب الوطني.
لكن المالكي وسياسيين شيعة آخرين لم ينفذوا دائمًا ما تريده إيران.
فيلفريد بوختا: رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وكذلك زعيم الميليشيا الإمام مقتدى الصدر ليسوا سياسيين لا همَّ لهم غير موالاة إيران. وإيران لا تحتاج إلى خاضعين بالضرورة، فالأمر الحاسم بالنسبة لها، أنْ تبقى السلطة بيد عراقيين شيعة يريدون الحفاظ على علاقات وديَّة معها. ويكفي إيران أنْ يبقى الجنوب الشيعي وحقول النفط وكذلك بغداد ومحيطها تحت نفوذ الحكومة المركزيَّة. طهران راضية بالوضع الحالي.
ألا يسير الصراع في نهاية المطاف نحو تقسيم البلاد؟
فيلفريد بوختا: البلد صار أصلاً مقسمًا بلا عودة. العراق يواصل وجوده من الناحية القانونيَّة، ولكنْ على أرض الواقع هناك ثلاث دول: جذع الدولة ويشمل بغداد والجنوب؛ إقليم كردستان ذو الحكم الذاتي الذي يملك كل ما تحتاجه الدولة، حتى وإنْ لم تعلن حكومة إقليم كردستان في أربيل استقلالها رسميًا؛ والشمال والغرب باعتبارهما جزءًا من مناطق تنظيم الدولة الإسلاميَّة الجديدة العابرة للحدود. لن يكون هناك إعادة دمج لمناطق تنظيم الدولة الإسلاميَّة في الدولة العراقيَّة، حتى وإنْ ادَّعى المجتمع الدولي أنَّ العراق لا يزال قائمًا ضمن حدوده كما كانت سنة 1918. هذا الادعاء خرافة.
لكنك لا تستبعد في كتابك تعرُّض تنظيم الدولة الإسلاميَّة لانهيار داخلي أيضًا.
فيلفريد بوختا: لا أستبعد ذلك، لكني أيضًا لا أرجح كثيرًا حدوث انهيار داخلي. يعتمد نجاح تنظيم الدولة الإسلاميَّة على الأمد الطويل بمدى قدرته على توفير الخدمات الأساسيَّة العموميَّة للسكان والحفاظ على البنية التحتيَّة. إلا أنَّ تنظيم الدولة الإسلاميَّة يحافظ منذ أكثر من عام على بقاء كيان دولته الجديدة، ما يشير إلى أنَّ لديه موارد ماليَّة كافية وإداريين بعثيين ذوي خبرةٍ يدعمونه في الإدارة. أعتقد أنَّ مستويات المعيشة ستنخفض في مناطق تنظيم الدولة الإسلاميَّة، لكن لن يحدث انهيار لكيان الدولة الجديدة.
ألا يوجد توقعات إيجابيَّة تختم بها؟
فيلفريد بوختا: كلا. علينا أنْ نكون واقعيين. تخلَّى الأمريكيون عن طموحهم بأنْ يكونوا قوة حفظ النظام الحاسمة الوحيدة في العالم. لقد تعلموا من كارثة العراق أنهم لا يستطيعون أن يربحوا شيئًا هناك، لا بل لا يسعهم سوى الخسارة. وهزيمة تنظيم الدولة الإسلاميَّة غير ممكنة من خلال الغارات الجويَّة، بيد أنَّ الولايات المتحدة الأمريكيَّة ترفض رفضًا باتًا إرسال مئات الآلاف من الجنود مرة أخرى إلى العراق، وتفضل ترك القتال لقوات البشمركة الكرديَّة والميليشيات الشيعيَّة، حتى وإنْ كان ذلك بتوجيهٍ من الحرس الثوري الإيراني، فأمريكا تريد حفظ حياة جنودها وتوفير التكاليف من جانبها.
لقد قرر أوباما اعتماد توجُّهٍ استراتيجيٍ جديدٍ مفاده الابتعاد سرًا عن المملكة العربيَّة السعوديَّة، لأنها تدعم تعميم الفوضى والأهوال - سواء كان ذلك في اليمن، أو في سوريا؛ والتقرُّب الحذر من إيران، لتحريرها من شبهة الثوري الوضيع، والسماح لها بأنْ تصبح مجددًا لاعبًا مسؤولاً. عندما تبذل طهران جهودها للحفاظ على بقايا نظام الدولة القوميَّة في العراق أو سوريا، تستفيد أمريكا أكثر من ما تتضرر. هذه حساباتٌ باردةٌ لبسط النفوذ، لكنها أيضًا ذكيَّة.
ترجمة: يوسف حجازي