مشروع "مينا" الأوروبي مرسى لفنون عربية
قبل نحو سنتين.. وأثناء تواصله مع العديد من المهتمين بالفن، سُئل الباحث الإيطالي إنريكو دي انجيليس، كونه على علاقة بالوسط الثقافي العربي، عن إمكانية اقتناء فن قادم من منطقة الشرق الأوسط، لفنانين يعيشون هناك، أو حتى ممن يعيشون في أوروبا، وقتها أحس إنريكو بأهمية وجود منصة متخصصة بتسهيل وصول الأعمال الفنية من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أوروبا، وبالمقابل هناك العديد من التساؤلات من فنانين بالشرق الأوسط أو بأوروبا يتساءلون حول سبب عدم وصول نتاجهم للجمهور بأوروبا، ما دفع إنريكو للتواصل مع الفنانة السورية زينة العبد الله، وعرض عليها فكرة مشروع إنشاء مثل هذه المنصة، التي بدورها رحبت بالفكرة.. وبدأ الاثنان رحلتهما.
بتمويلٍ صغير من مؤسسة الدعم الإعلامي العالمي IMS أو International Media Support بدأت زينة وإنريكو التحضيرات لمنصة "مينا" التي تعني "ميناء" بالعربية، أو MENA التي تشير إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بطريقة كتابتها الإنكليزية.
بدأ الصديقان العمل على موقع المنصة نفسها، والترتيبات القانونية، وتصميم العقود مع الفنانين، وتنظيم الأمور الضريبية، التي أخذت وقتاً طويلًا بالتحضير، كما تشرح زينة لـ"مهاجرنيوز"، وتقول: "استغرق الأمر نحو سنة ونصف، فدخول السوق الألمانية لم يكن أمرًا سهلًا، كذلك استغرقنا وقتًا للتواصل مع الفنانين، وإقناعهم بمشروعنا والعمل معنا، حتى أصبح لدينا اليوم 9 فنانين موجودين على المنصة، وعندما أردنا الانطلاق كان علينا البحث عن تمويل آخر، لتغطية تكاليف الانطلاق والعرض الأولي، فقمنا بالتقديم على تمويل من مؤسسة غير ربحية أخرى وحصلنا على منحة زمالة، ليصبح حلمنا حقيقة وافتتحت المنصة يوم 16 حزيران/يونيو 2023 في برلين".
لماذا "مينا" مختلفة؟
تقدم المنصة معارض افتراضية دائمة للمهتمين، بالإضافة لفعاليات تنقل هذه الأعمال إلى الأرض، سواء بعرض الأعمال الأصلية في صالات برلين المختلفة، أو نسخ مطبوعة عنها، بحسب ما يرغب كل فنان، أو لصعوبة نقل الأعمال الأصلية أحيانًا، لكن أبرز ما تقدمه المنصة بحسب زينة هو "أن تقييم العمل فنيًا يأتي من العمل نفسه، لا من خلفية الفنان ولا توجهه السياسي أو درجة تعليمه الأكاديمي، بل مجرد عمل يتكلم عن نفسه".
وتضيف زينة لـ"مهاجرنيوز": "عندما وصلت إلى ألمانيا كان من المتوقع مني أن أعرِّف عن نفسي كسورية تعاني، وتُوُقِّع مني تقديم أعمال تتعلق بالثورة أو المعاناة، وتم حصري بصفة لاجئة، لذلك نحن نحاول العمل مع الفنانين بغض النظر عن خلفيتهم أو توجههم السياسي، كما لا نفرض على أحد ذكر خلفيته أو جنسيته، ما يهمنا هو العمل الفني فقط". وتتابع: "نحن في "مينا" نعلم أن فكرة الـTrend، قد تجعلنا نحصل على تمويل أكبر، وأن ربط موضوعات معارضنا وفنانينا بما يحصل سياسيًا سيمكننا من الحصول على تمويل بطريقة أسهل، لكننا نحاول تلافي هذه النقطة الموجودة بالسوق الأوروبية أحيانًا كثيرة".
وهذا ما يؤكد عليه الصحفي عمار المأمون، الذي يتعاون مع المنصة لكتابة النصوص المرفقة مع الأعمال الفنية ويقول لـ"مهاجرنيوز": "مينا كغيره من المشاريع يقوم على أساس إدخال الفنان من صناعة وتجارة الفن" في أوروبا، الصورة التقليدية للفنان المنعزل في مرسمه لم تعد موجودة، هناك "نظام" قائم من العلاقات، والأهم الجماليات التي تحكم السوق الفنّي، وفي حالة المهاجرين، هناك دائماً محاولات لحشرهم ضمن خانة محددة، ينظر فيها إلى الفنان كـ"عينة" لا صاحب جهد جماليّ بانتظار التقدير، وهذا ما تحاول مينا تجاوزه، الهدف تقديم الفنان بوصفه صاحب عمل فنّي، لا فرد نتاج هويات سياسية "مهاجر، لاجئ،...إلخ".
بينما يعتبر الفنان عبد الزراق شبلوط، أنه كفنان سوري مقيم في برلين، يحصل على اميتازات كما أي فنان آخر يقيم بالمدينة التي تعتبر مؤخرًا نقطة التقاء ثقافية بأوروبا، لكن دور مشاريع كمنصة مينا، التي يعرض أعماله عبرها، مفتوح لأي فنان بشكل عام، لأنها تقدم جزءاً مهماً ألا وهو التسويق.
ويتابع شبلوط لـ"مهاجرنيوز": "معظم الفنانين لا يعرفون كيفية تسويق أعمالهم وبيعها، فالفنان يركز على ألوانه وأدواته، ويتمنى دائمًا وجود من يقوم بهذه الجزئية عنه، ويتمنى وجود شخص متفرغ لبيع لوحاته، لذلك منصة مثل مينا تفهم الفنان العربي الموجود ببرلين، تعرف ظروفه، وتعرف ما الذي قد لا ترغب به الصالات الأخرى، "مينا لديها هذه الروح الجميلة بالدعم، يشعرون أن هناك موهوبين، وهم يحاولون الأخذ بأيديهم لكي ينالوا فرصتهم لإيصال فنهم لأكبر قدر ممكن من العالم، واقتناء أعمالهم، ببساطة هم صلة وصل بين الفنان ومقتني لوحته".
ماذا تقدم المنصة؟
أحد أبرز الدوافع التي خلقت هذه المنصة، كان إيجاد مكان خارج من قبل فنانين وموجه لخدمة فنانين آخرين، فلا أحد يفهم معاناة الفنان سوى فنان آخر، كما تشرح زينة لـ"مهاجرنيوز" وتقول: "أنا تعرضت لمشاكل كثيرة بإحدى محاولاتي للعرض مع إحدى الغاليريات، لم يقبلوا أن يعرضوا لي لأنني لا أملك شهادة فنون جميلة، غاليريات أخرى تطلب نسب عالية من الأرباح تصل لـ60%، عدا عن التعامل التجاري اللاإنساني مع الفنان على أنه سلعة ومنتجه سلعه، لذلك عملنا لتلافي ذلك، والفنانون الذين يعملون معنا مرحب بهم بغض النظر عن المواضيع التي يعملون عليها طالما أنها أعمال قيمة".
وتتابع زينة: "نحن في مينا عائلة، وهذا ما نصر عليه، لذلك كان التواصل مع الفنانين أسهل، وهذا ما كنت أحاول التركيز عليه من أول المشروع، وعملنا لبناء علاقة أسرية مع الفنانين، الذين كانوا متفهمين جدًا، خاصةً أن الانطلاق أخذ وقتًا طويلًا، وبهذه الفترة كان الفنانون بحالة انتظار".
تضم المنصة اليوم 9 فنانين من عدة دول منهم من يقيمون بأوروبا ومنهم من يقيمون بالشرق الأوسط، من بين الفنانين أكثر من اسم معروف بالوسط الثقافي، ولديه خبرة مهنية أكبر، لكن المنصة مفتوحة للجميع، وتؤكد على دعم المواهب الشابة، ووجود هؤلاء مع بعضهم يساعد بدفع المشروع ودفع الفنانين أيضًا.
لكن المختلف أيضًا الذي تقدمه المنصة هو نسبة الربح، إذ تشرح زينة: "النسبة التي نقدمها للفنانين 65% للفنان و35% للمنصة، وبما أننا مشروع غير ربحي، فإن أرباحنا تستثمر لتطوير المنصة، وتحسين التسويق، وللاستمرار بالمشروع، كذلك لدينا عقود مرنة، وليست احتكارية بأي شكل من الأشكال، إذ يمكن للفنان بعد فترة بيع عمله بمفرده إذا أراد، وهو أمر غير متوفر بغالبية دور العرض، التي تتعامل بشكل تجاري بحت.
بينما يرى الصحفي عمار المأمون أن المختلف هو بكيفية تقديم المنصة للعمل الفني ويشرح: "كل عمل ذو علاقة مع تاريخ الفنّ، والسياق السياسي والثقافي المحيط به، ناهيك عن بعض المحاولات لوضع المكونات الجماليّة ضمن سياق أوسع من مجرد الانطباع أو التفسير، ما يجعل العمل الفني جزءًا من رؤية ونسيج جمالي، لا يقتصر فقط على التجربة الذاتيّة، هذا الوعي بتاريخ الفن وسوق الفن الحاليّ، هو ما تحاول مينا التركيز عليه، ليبدو المُنتج الفنّي بوصفه جزءًا من حركة تاريخيّة كاملة، لا مجرد انطباعات ذاتيّة".
بينما يرى الفنان عبدالرزاق شبلوط أن "أكثر ما يواجهه الفنان المهاجر من صعوبات هي مسألة اللغة، التي بالتالي تجعل عملية تشبيكه وتفاعله مع مؤسسات العرض صعبة، عدا عن صعوبة إيجاد صالة عرض تهتم بعملك الفني، وهي مشكلة عالمية بين الفنانين، وليس المهاجرين فقط، فأغلب الصالات الفنية هنا لديها فنانوها الخاصون، ولديها عقود معهم، وإقناع هذه الصالات بالعمل معها ليس أمرًا سهلًا، خاصةً أن مواضيعنا قد لا تتناسب مع الجو السائد بالخارج، فنحن، إذا صح التعبير، نجلب همومنا ومشاكلنا معنا ومواضيعنا قد تكون مؤلمة أو غير مرغوب فيها هنا، وغير قابلة للتسويق والبيع، لذلك قد تساهم مشاريع مثل مينا بحل جزء من هذه المشاكل".
ضعف الإمكانيات قد تعيق التطور
تحاول المنصة خلق طرق تسويقية جديدة، عبر فكرة "المتجر" لبيع منتجات كالحقائب والدفاتر والكؤوس التي تحمل الأعمال الفنية التي تعرضها المنصة، لتوسيع انتشارها، ونشر الأعمال الفنية، عبر مراكز ثقافية، وأماكن عامة، لكن المنصة لا تزال ببداية الطريق، خاصةً تسويقيًا، للوصول إلى أهدافها.
وهو ما أشار إليه شبلوط بحديثه لـ"مهاجرنيوز": "أنا سعيد جدًا بالتعامل مع القائمين على المنصة، فهم أشخاص رائعون على الصعيد الإنساني، وآمل من خلال تواجد أعمالي على المنصة أن تصل لوحاتي لأكبر قدر من المقتنين، لكني أعلم أن الفريق يحاول بشدة الوصول إلى تسويق احترافي، لكن ضمن الإمكانيات الحالية، هناك نقص بالخبرة التسويقية الاحترافية، التي يعملون لتلافيها، وأعتقد أن الأمر يعود لقلة الإمكانيات والدعم، لتوظيف مختصين بهذا النوع من التسويق".
هذا ما تؤكد عليه زينة التي ترى أن المشروع ما زال بحاجة لإمكانيات، لتنفيذ معارض على أرض الواقع بدايةً، وتخصيص مكان عرض دائم ربما، كذلك فإن التمويل ضروري لنتمكن من نقل أعمال موجودة بالشرق الأوسط، وأن نستعين بخبرات متخصصة بالتسويق أو إدارة الموقع، نحن بحاجة لدعم لنتمكن من تحقيق استدامة للمشروع ليبقى مستمرًا وقادرًا على مساعدة الفنانين، دون الرضوخ لتوجهات سياسية".
حقوق النشر: مهاجر نيوز 2023