فشل ذريع للدولة اللبنانية بعد انفجار مرفأ بيروت

جاء الانفجار الهائل الذي وقع بمرفأ بيروت وهز كالزلزال كل العاصمة وضواحيها -وسقط فيه عشرات القتلى وآلاف الجرح وسُمِع حتى في جزيرة قبرص المجاورة- في وقت يشهد لبنان فيه أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه.
جاء الانفجار الهائل الذي وقع بمرفأ بيروت وهز كالزلزال كل العاصمة وضواحيها -وسقط فيه عشرات القتلى وآلاف الجرح وسُمِع حتى في جزيرة قبرص المجاورة- في وقت يشهد لبنان فيه أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه.

في زيارته إلى لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون -في ظل الفراغ المؤسساتي اللبناني- الظهور بمظهر المنقذ لكن ليس جميع اللبنانيين المحتشدين في الشوارع استقبلوه بطريقة ودية، غير أن معظمهم تقريبا أطلقوا صيحات استهجان على ميشال عون رئيس بلدهم. ففي وقت يشهد لبنان فيه أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه كشفت كارثة انفجار بيروت الذي عم عاصمة لبنان عن مدى فشل الدولة اللبنانية، ويلقي اللبنانيون بلائمة هذا الفشل على النظام الفاسد غير الكُفء في بلادهم. تعليق كريم الجوهري لموقع قنطرة.

الكاتب، الكاتبة : كريم الجوهري

كان مشهدًا لافتًا للنظر عندما مر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمنطقة الجميزة المتضررة في قلب العاصمة اللبنانية بالقرب من الميناء، خلال زيارته القصيرة إلى بيروت (آب / أغسطس 2020)، محاطًا بحشود غفيرة من اللبنانيين. وإن مثلت زيارته هذه كابوسًا لحراسه الشخصيين، الذين ظهروا منهمكين في مراقبة التلامس المباشر لرئيسهم بالحشود البشرية في وسط بيروت، إلا أنها كانت بدورها كابوسًا لمضيفه الذي رافقه خلال الزيارة، أي الرئيس اللبناني ميشال عون، لأن سكان المنطقة استحضروا الشعار الأبرز لثورات الربيع العربي من عام 2011 فهتفوا مرددين: "الشعب يريد إسقاط النظام".

وقد سلطت هذه الزيارة الضوء على السياسة اللبنانية الفاشلة بعد الانفجار. فقد كان الضيف الفرنسي من تحدث إلى الجموع البشرية المحتشدة في شوارع بيروت. "أرى في وجوهكم مشاعر حزنكم وألمكم، ولهذا السبب جئت"، قالها الرئيس الفرنسي للناس وهو يصافحهم في إحدى الشوارع التي كان لا يزال الحطام يغطيها، كما ظهرت المحلات التجارية في الخلفية بلا زجاج نوافذ.

وحتى تاريخ هذه الزيارة، لم يجرؤ أي من السياسيين اللبنانيين على النزول إلى الشارع؛ ولديهم أسباب وجيهة تحول دون قيامهم بذلك، فهم عينهم من يمثلون النظام الفاسد غير الكفء الذي يلومه اللبنانيون على كارثة الانفجار.

ماكرون يدعو إلى إصلاحات

وقد أوضح ماكرون، موجهًا انتقادًا على مسامع مضيفه الرئيس اللبناني، بأن القارب اللبناني سيغرق حال لم يتم الشروع بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية جادة، قائلًا: "ما نحتاج إليه هنا هو التغيير السياسي. ينبغي أن يكون الانفجار بداية لعهد جديد".

 

 

وقد حاول ماكرون في ظل هذا الفراغ المؤسساتي اللبناني أن يسجل نقاط لصالحه والظهور بمظهر المنقذ، لكن ليس جميع اللبنانيين المحتشدين استقبلوه بطريقة ودية، إلا أن معظمهم تقريبًا أطلقوا صيحات الاستهجان على ميشال عون رئيس بلدهم.

ففي حين لم يكن لدى عون ما يقدمه للجموع المحتشدة -بالتزامن مع اعتبار السلطات اللبنانية الجهة المسؤولة عن الإهمال في تخزين المواد الكيميائية، الأمر الذي أدى إلى هذه الكارثة- جلبت فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، ورئيسها ماكرون، في المقابل، شحنات من المساعدات وبعض عبارات المواساة على الأقل. ومحاولة رئيس دولة أجنبية التألق أمام الإعلام في بلد -لا يملك رئيسه إلا الكز على أسنانه نتيجة شعوره بالضغط- يظهر حجم الارتياب الكبير الذي يشعر به المواطن اللبناني تجاه مؤسسات الدولة في بلده.

وحقيقة ألاّ أحد في لبنان يثق بالدولة، تستند إلى سنوات من الخبرة المتراكمة لدى الشعب اللبناني. فقد انصب جل اهتمام النخبة السياسية وكبار المسؤولين على مدار السنين المنصرمة ببساطة على ملء جيوبهم، وانهالوا على البلد قبل أزمة كورونا سرقًة لدرجة جعلت اقتصاده يجثو على ركبتيه.

 

............................

طالع أيضا

لبنان الجريح - هذه ليست بيروت

رائحة بيروت - نفحة العشق ومتن الفكر وصوت فيروز

لهذا تأزم لبنان وانزلق إلى فوضى اقتصادية

تنافس بين تركيا وفرنسا على "كعكة المغرب العربي"

............................

 

ولا يثق المواطن اللبناني بجهاز الدولة برمته، فلا يصدّق، على سبيل المثال، أن السلطات تقوم بالتحقيق فعلًا عن سبب الانفجار. وما إن مرت بضعة أيام على وقوع الكارثة، حتى ظهرت دعوات إلى إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة. وذلك كله أيضًا نتيجة سنوات طوال من انعدام الشفافية والتستر على أخطاء الحكومة؛ ويعرف اللبنانيون أن الأجهزة الحكومية في بلدهم نادرًا ما تخضع للمساءلة.

المجتمع المدني لا يمكن أن يحل محل الدولة

لهذا السبب يطالب اللبنانيون أيضًا بعدم تمرير أموال المساعدات الدولية عبر الأجهزة الحكومية اللبنانية، إذ يخشون هنا أيضًا أن تتم سرقتهم مجددًا. وفي الوقت نفسه، ونظرًا لحجم الكارثة الكبير، فهم يحتاجون الآن إلى دولة قادرة أكثر من أي وقت مضى، وهنا مربط الفرس وأصل المعضلة، إذ يعرف اللبنانيون أن المشاكل التي يعانون منها لا يمكن أن تحلها النخبة الفاسدة والنظام الطائفي العامل على إثراء العشائر المتنفذة، فهذه النخب ببساطة هي من خلق هذا الوضع لتستفيد منه.

ومع ذلك، لا يمكن للجان الأحياء ومنظمات المجتمع المدني، التي تساعد في إزالة الانقاض وإيصال الإمدادات، أن تحل محل الدولة للضلوع بالمهمة الضخمة المتمثلة في مساعدة بيروت للوقوف على قدميها مجددًا.

وهذا يثبت مرة أخرى أن الفشل ضارب شاقوليًا وأفقيًا (في كافة المستويات). إذ لا يوجد في لبنان إدارة مركزية للأزمات، كما لا توجد حتى قوائم موحدة لأسماء المفقودين. إنه الفشل الذريع للدولة اللبنانية كما خَبِرَهُ اللبنانيون منذ زمن طويل؛ ويتحول هذا الفشل في ظل الكارثة إلى عامل مدمر.

 

 

فقد تُرك المنكوبون خلال الأيام التي أعقبت الانفجار لوحدهم يتدبرون أمورهم بأنفسهم. وكان من المفجع سماع قصصهم، من قبيل معرفة الكيفية التي انتقلوا بها من مستشفى إلى آخر للعثور على أحبائهم؛ أو اضطرار بعضهم للانتظار على هامش المنطقة المدمرة في الميناء، على أمل السماح لهم بالبحث عن المفقودين بأنفسهم تحت الأنقاض.

حتى ولو عزم المنكوبون على مساعدة أنفسهم بأنفسهم، فإن الطريق لتحقيق ذلك ليست مفروشة بالورود. فقد دمرت الكارثة منازل ما يصل إلى 300 ألف شخص، وألحقت بها أضرارًا جسيمة. ولم يتم تقديم مساعدات حكومية لهم حتى الآن. وبهذا يتعين على المنكوبين الاعتماد على أصولهم الخاصة لإصلاح أساسيات منازلهم في المقام الأول على الأقل.

غير أن الأمر بدوره ليس بهذه البساطة، فرغم امتلاك معظم اللبنانيين حسابات بنكية بالدولار الأميركي، يُسمح للمودع بسحب مبلغ محدود فقط من حسابه، يتم تحويله من الدولار إلى الليرة اللبنانية حصرًا، وبسعر صرف ضعيف. إذ تدفع البنوك مبلغ 3500 ليرة لبنانية مقابل الدولار الواحد، في حين تصل قيمته في السوق السوداء إلى أكثر من ضعف هذا المبلغ. وإن أراد اللبناني دفع مصاريف ورشات التصليح، فستتم محاسبته بموجب سعر صرف الدولار في السوق السوداء.

 

كريم الجوهري

ترجمة: حسام الحسون

حقوق النشر: موقع قنطرة 2020

ar.Qantara.de

 

[embed:render:embedded:node:41133]