بيروت "تتصدع" - منازل يأكلها الزمن والدولة غائبة
حين تمر في أحياء بيروت وتقطع شارعاً يفصل أحد الأحياء عن مجاوره، تلاحظ تناقضاً صارخاً، وهو بالتأكيد ليس التناقض الوحيد في عاصمة لبنان: بضعة أمتار قليلة تفصل بين منازل فخمة لطبقة راقية عن العشوائيات.
يكفي أن تتجول في مناطق بيروت الشعبية لترى شكلاً مختلفاً من المباني. مبنى يتكئ على آخر، عدد الطوابق يختلف بحسب قدرة صاحبه المادية ومزاجه ورغبته في رفع عدد طوابق مبناه.
تتجول في شارع فترى تفاوت المساكن بين منزل مكون من طابق إلى برج مكون من أكثر من عشرة طوابق، أحدها يلاصق الآخر، وبعضها متداخل، هذا مرتفع والآخر أقصر منه طولاً، مبانٍ قديمة متهالكة وحتى "الحديثة" منها مشيدة بطريقة غريبة، طراز البناء غير واضح المعالم ووجه المبنى يختلف بحسب رغبة صاحبه، الشرفات كبيرة وصغيرة والألوان والأشكال بلا نمط موحد.
دق المسمار الأخير في نعش مباني بيروت القديمة
بيروت القديمة تموت موتًا بطيئًا. في العاصمة اللبنانية نجا التراث المعماري من الكثير: من حربين عالميتين ومن حرب أهلية استمرت خمسة عشر عامًا وحرب عام 2006، ومن مئات من السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية وأعمال عنف لا حصر لها. ولكنْ ثمة تهديد آخر لتراث بيروت المعماري وهو: التطوير العقاري، مثلما يطلع الصحفي شنكيز وارزي موقع قنطرة.
"مبنى مهدد بالانهيار"
قبل أسبوعين انتشر على مواقع التواصل فيديو يظهر انهيار مبنى في الشويفات جنوب بيروت، ظن سكان المبنى أن هزة أرضية قد ضربت بيروت، خرجوا من المبنى وبعد دقائق انهار وتحول إلى ركام من الإسمنت والحديد والحجر والغبار.
وقبل أسبوع هرعت وسائل الإعلام إلى منزل في "البسطا الفوقا"، سمعوا أن جزءا من مبنى قد انهار هو الآخر، والمبنى مهدد بالانهيار بأكمله وسكانه قد هربوا منه خوفاً على حياتهم.
ذهبتُ إلى هناك أسأل الناس عن هذا المبنى الذي انهار جزء منه. المكان ليس بعيداً عن قلب العاصمة، البسطا أحد أحياء بيروت الشعبية، شارع طويل يمتد في برج أبي حيدر، يطلق عليه سكان بيروت "شارع طهران". سألت صاحب محل لبيع المواد البلاستيكية عن المبنى هذا. وصف لي الطريق إلى هناك، دخلت شارعاً متفرعاً من الجادة الطويلة، صعب علي التعرف على المبنى المهدد بالانهيار، ففي الشارع مبانٍ كثيرة تجعلني أتساءل: كيف لها أن تصمد وتبقى منتصبة حتى الساعة، وكأنها كلها مرشحة للانهيار.
اضطررت إلى أن أسال شاباً آخر كان واقفاً عند نهاية الشارع، فقال: هناك المبنى الذي يقال إنه على وشك الانهيار، لكننا سمعنا أن الأمر غير صحيح. شكرته وودعته بعد أن لاحظت نظرات صاحب المحل، كان ينظر لي بريبة بعد أن تفحصني بعينين جاحظتين.
المبنى مكون من 12 طابقاً، في الطابق الأرضي محلات للبقالة، سألت صاحب أحدها عن قصة المبنى؟ فقال: "قبل أيام جاءت وسائل الإعلام إلى هنا، كان هناك مهندس من البلدية يفحص وضع المبنى وأخذ الإجراءات المتبعة ورحل ونحن في انتظار التقرير النهائي".
سكان المبنى بحسب صاحب محل البقالة لم يغادروه، وحين سألته ما السبب عن وراء القصة، قال إن شرخاً حدث في حمام أحد الشقق تسبب بكل هذه "الزوبعة"، بحسب قوله. لكن الوكالة الوطنية للإعلام نقلت أن المبنى قد أخلى من سكانه، في انتظار تقرير من البلدية.
أين الدولة؟
مسؤولون لبنانيون يتحدثون عن أكثر من 16200 مبنى آيل للسقوط في لبنان أكثر من ثلثي العدد في محافظة بيروت. بعضها مهدد بسبب القِدَم والآخر بسبب سوء التخطيط، هذه المباني كثير منها من دون تراخيص بناء أو شيدت من دون التزام بخطة البناء.
النائب في البرلمان اللبناني والمهندس إبراهيم منيمنة، في حوار مع دي دبليو عربية قال إن هناك عدة أسباب لانهيار المباني منها "عدم وجود ثقافة صيانة للمباني".
ويرى النائب المتابع لقضية الإعمار في لبنان أن "المباني تتآكل ولا توجد آلية لترميمها، والترميم عملية مكلفة بطبيعة الحال. وصلنا إلى مرحلة تراجع للمباني ولا يوجد من يهتم بذلك. وفي الشتاء تظهر عيوب المباني وتنهار".
وبالفعل فمنذ أيام يظهر بين الحين والآخر خبر عن انهيار مبنى في المدينة، مساء يوم (24 شباط/ فبراير 2024) انهار جزء من قصر رئيس حكومة لبنان الأسبق شفيق الوزان في منطقة "البسطة التحتا" في بيروت من دون وقوع إصابات، وهو منزل قديم وواحد من أكثر من ألف منزل قديم متروك في بيروت.
ومعضلة الإعمار في بيروت تطال المباني التاريخية القديمة التي تعاني من الإهمال ومن المباني التي يفترض أنها ليست قديمة لكنها تنهار بسبب فوضى البناء. يشرح المهندس إبراهيم منيمنة: "لاوجود لمخططات توجيهية. والكثير من المباني يتم تشيدها بدون تراخيص. ومن يحصل على رخصة يبني طوابق زيادة غير مرخصة".
وبعكس مناطق معينة من بيروت فإن المناطق العشوائية انتقل السكان إليها وشيدوا فيها المباني والمنازل خلال الحرب الأهلية وبعدها، في ظل غياب الدولة، واليوم يقول منيمنة: "لا توجد مخططات توجيهية تسمح بفرز الأراضي ومتابعة الطلب على السكن بشكل يراعي قواعد البنية التحتية، عدم وجود ذلك يدفع الناس لأن تعمر بمشاعات وتأخذ خيارات ليس فيها مراعاة للصالح العام".
رائحة بيروت - نفحة العشق ومتن الفكر وصوت فيروز
"كم أعشق بيروت، رائحة بيروت، وسحر بيروت، برغم زحمة السير فيها، وغلائها، برغم مشاكلها التي لا تمنعني من عشقها والتذلل إليها ومراودتها عن نفسها لتفضي إلي بسر السحر فيها وأنا أسمع صهيل طرقاتها في جوف الليل وحمحمة الحنين إلى زمن معين". الكاتب الجزائري إبراهيم مشارة في وصف رائحة بيروت.
خطر تحت الأرض
بجانب الوضع الاقتصادي الهش و"غياب الدولة" وتساقط الأمطار الشديد في فصل الشتاء، هناك خطر يكمن في أعماق الأرض، فلبنان يقع على شق زلزالي نشط. والزلزال الذي ضرب تركيا قبل عام، في السادس من شباط/ فبراير من عام 2023، أثار هلعاً في لبنان أيضاً. ولذا يفترض أن تكون هناك معايير هندسية تفرض مواصفات معينة في إنشاء المباني، بحسب المهندس إبراهيم منيمنة.
ويضيف: "هناك ما يسمى مرسوم السلامة العامة للمباني الذي يتضمن مواصفات للأبنية المرتفعة بحد معين ويتطلب مواصفات خاصة. موضوع الزلازل واسع وبحاجة إلى استراتيجية وطنية، والهيئة المسؤولة، دائرة الكوارث، غائبة. ولذا فالدولة عليها أن تستدرك الكثير من الأمور".
بعد الهزة في تركيا "عادت الدولة وتذكرت أنه يفترض أن يكون هناك إحصاء واستبيان للمباني المعرضة للانهيار. وهي أمور تأخذ الكثير من الوقت ولا يمكن الارتجال فيها. الدولة غائبة بشكل شبه كلي وتتحرك في حالات الطوارئ فقط".
صاحب محل البقالة في حي البسطا الفوقا، والذي يقع محله مباشرة في الطابق الأرضي، يتساءل: "إلى أين يذهب الناس؟ لا مكان، ربما يبقون يوماً أو يومين عند أقربائهم ومن ثم يعودون". جاره يقول إن "الخبر غير صحيح، وإن ما حدث مجرد إشاعة أو ربما مؤامرة، هناك جهة مستفيدة من نشر هذه الأخبار". قال جملته وأكمل طريقه يقود بسرعة دراجته النارية.
مشترٍ آخر صرح أن كل المنازل هنا تقريباً من دون رُخَص بناء قانونية، فماذا يمكن أن تفعل الدولة وإلى أين يرحل الناس؟
أشرتُ في حواري مع الناس هناك، إلى أن بيروت تقع على شق زلزالي يمكن أن يتسبب بكارثة إن لم تكن المساكن هنا مشيدة بطرق مقاومة للزلازل. فأجابني صاحب محل البقالة وهو يضحك: "يعني ستتهدم البيوت فوق رؤوسنا ونرحل نحن وأهلنا إلى الأبد".
عباس الخشالي
حقوق النشر: دويتشه فيله 2024