قصة مدينة درنة الليبية المهمشة ضريبةً لثوريتها

عائشة فقدت خمسة ما أفراد عائلتها في كارثة درنة - ليبيا.
عائشة فقدت خمسة ما أفراد عائلتها في كارثة درنة - ليبيا.

قبل كارثة إعصار دانيال المدمرة اشتهرت مدينة درنة المنكوبة بكونها مركزا للفكر الثوري في عهد القذافي ثم حفتر، وبوجود إسلاميين منهم متشددون، فضلا عن موقعها الساحلي الخلاب. استعلام كاثرين شير.

الكاتبة ، الكاتب: Cathrin Schaer

على مر العصور ظل تاريخ مدينة درنة الساحلية شرق ليبيا مزيجاً من الخوف والوقار. منذ تأسيسها أواخر القرن الخامس عشر على أنقاض مستعمرة يونانية قديمة اشتهرت بكونها مركزاً للعالمية والفكر والفن والثقافة.

وقبل الكارثة، بلغ عدد سكان المدينة حوالي 100 ألف نسمة. وتتميز بإطلالة على البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن غابات خضراء نادرة في بلاد تغطيها الصحاري القاحلة.

وعقب كارثة إعصار دانيال قال خبراء إن سمعة المدينة التاريخية وموقعها الساحلي المتميز كانا من العوامل الحاسمة التي ساهمت في إلحاق أضرار كبيرة ووقوع خسائر بشرية مرتفعة بالمدينة.

مدينة الثوار

في عام 2011 وخلال موجة الربيع العربي، اصطف سكان درنة إلى جانب الثورة الليبية ضد حكم معمر القذافي الذي دام لأكثر من 42 عاماً.

 

احتجاجات على نظام القذافي عام 2011 بمدينة درنة في شرق ليبيا. Libyans shout anti-Gaddafi slogans during a demonstration in the eastern Libyan town of Derna, in 2011 (image: GIANLUIGI GUERCIA/AFP)
احتجاجات على نظام القذافي عام 2011 بمدينة درنة في شرق ليبيا: في عام 2011 وخلال موجة الربيع العربي اصطف سكان درنة إلى جانب الثورة الليبية ضد حكم معمر القذافي الذي دام لأكثر من 42 عاماً. وخلال حكمه، كان القذافي يولي الاهتمام الأكبر بغرب البلاد وتعزيز قوته حول العاصمة طرابلس على النقيض من شرق البلاد حيث تعرضت مدن مثل درنة وبنغازي لعقود من التهميش والإقصاء الاقتصادي.

 

وخلال حكمه، كان القذافي يولي الاهتمام الأكبر بغرب البلاد وتعزيز قوته حول العاصمة طرابلس على النقيض من شرق البلاد حيث تعرضت مدن مثل درنة وبنغازي لعقود من التهميش والإقصاء الاقتصادي.

ويعزو المؤرخون ذلك بشكل جزئي إلى ما عُرف عن سكان درنة من معارضتهم لنظام القذافي منذ سبعينيات القرن الماضي. وساهمت شخصيات من المدينة فضلت أشكالاً من التشدد الإسلامي في تشكيل سمعة المدينة الثورية لتكون المدينة مناهضة للقذافي منذ بداية حكمه. ولم يقف الديكتاتور السابق صامتاً إزاء ذلك؛ إذ رد بسياسة باطشة وترك البُنى التحية في المدينة متداعية دون عناية واهتمام.

وخلال تسعينيات القرن الماضي، انضم عدد من سكان درنة إلى "الجماعة الليبية المقاتلة" LIFG المناهضة للقذافي، ما دفع السلطات آنذاك إلى شن حملة قمع وحشية أتت على الأخضر واليابس في المدينة. وشن النظام حملات مطاردة استهدفت كافة منازل المدينة بحثاً عن أعضاء "الجماعة الليبية المقاتلة".

ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل فرض نظام القذافي سياسة العقاب الجماعي من خلال هدم المنازل وقطع المياه والكهرباء عن المدينة، فيما كان الكثير من ضحايا "مذبحة سجن أبو سليم" عام 1996 من درنة.

وفي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية قبل أيام، قال هاني شنيب، رئيس "المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الليبية"، إن مدينة درنة "تدهورت تدريجياً: لا مدارس، والمستشفيات حالتها سيئة للغاية، والبنية التحتية مهملة".

وفي عام 2011 رصد صحافي من صحيفة الغارديان خلال تفقده درنة، الوضع الصعب داخلها، قائلاً: "الشقق والمباني والمكاتب في درنة في حالة بائسة مقارنة بباقي مدن ليبيا. وتطفو مياه الصرف الصحي في شوارع المدينة".

 

 

وعن ذلك قال أحد مسؤولي المدينة في مقابلة مع وكالة "اتحاد البث الأوروبي" EBU للأنباء إن معاناة درنة من الإهمال استمرت على مر السنين، ويضيف: "لا شيء يعمل هنا، لا سلطة محلية ولا وطنية..لا شيء.. نحن نعاني من ظلم كبير".

هل فيها مركز للتشدد؟

خلال الثورة الليبية عام 2011 واظب القذافي على تكرار مزاعم أن المظاهرات المناهضة لحكمه تقف وراءها عناصر إسلامية متطرفة وجماعات مثل القاعدة.

ويقول الخبراء إن الموقف المعارض للمدينة يرجع جزئياً إلى كونها مركزاً للمعارضة الإسلامية المتشددة وما يتمتع به سكان البلاد من أفكار ثورية.

وبعد الإطاحة بنظام القذافي عام 2011 خضعت درنة مثل باقي المدن الليبية لسيطرة ميليشيات وجماعات مسلحة، وكانت معقلاً لـ "كتيبة شهداء أبو سليم" التي أسسها عضو الجماعة الليبية المقاتلة السابق عبد الحكيم الحصادي.

وفي عام 2014 بايع منشقون من "كتيبة شهداء أبو سليم" تنظيم "الدولة الإسلامية (داعش) وسيطروا على المدينة. وحول ذلك كتب أندرو ماكجريجور -الخبير الكندي في القضايا الأمنية بالعالم الإسلامي- في تقرير صدر عام 2018 لـ "مؤسسة جيمس تاون البحثية": "اتسم (حكم داعش لدرنة) بقطع الرؤوس وغيرها من أشكال الإعدام وأعمال الإذلال العلنية".

 

إعصار دانيال أسفر عن كارثة انهيار سدين قديمين وآلاف القتلى بمدينة درنة شرق ليبيا. DW Graphic Libya Flood AR.png
سارعت منظمات المجتمع المدني إلى تقديم المساعدات للسكان في المناطق المتضررة: تقول باحثة مشاركة في تأليف كتاب بعنوان "العنف والتحول الاجتماعي في ليبيا"، أنه "حتى في الأوقات العادية، ليس من قبيل المبالغة القول بان التنسيق بين الحكومة المركزية في طرابلس والبلديات في جميع أنحاء ليبيا والمنظمات الدولية يتسم بالتعقيد على نحو كبير".

 

وعلى وقع ذلك انتفضت عناصر ضد "داعش" في درنة، ولكن لم يتم طرد مسلحي داعش من المدينة حتى عام 2016، بيد أنه بالنسبة للمدنيين لم تكن تلك نهاية الحرب.

يشار إلى أنه منذ عام 2014 تئن ليبيا تحت وطأة انقسام واقتتال داخلي وتناحر سياسي مع وجود حكومتين متعارضتين في شرق البلاد وغربها، حيث توجد حكومة الوحدة الوطنية، المدعومة من الأمم المتحدة والمعُترف بها دولياً في طرابلس غرب ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، في حين تقع حكومة أخرى مدعومة من مجلس النواب في طبرق شرق البلاد برئاسة أسامة حمد.

وتحظى الحكومتان بدعم من ميليشيات محلية وقوى إقليمية وأخرى دولية.

استمرار التهميش في عهد حفتر

تزامن الاقتتال في المدينة مع رغبة الجنرال خليفة حفتر -رجل شرق ليبيا القوي- في السيطرة على درنة التي تعرضت لحصار من قبل قواته عام 2015، لكنه لم يتمكن من السيطرة عليها إلا في عام 2018.

وأشار ماكجريجور إلى أنه رغم أن القتال في درنة كان قاسياً، إلا أن المجتمع الدولي غض الطرف عن ذلك "بسبب عدم وجود أي اعتراض على القضاء على معقل للمتشددين الإسلامويين".

وحتى بعد انتهاء أعمال العنف في عام 2018 استمر تعرض درنة للإهمال من قبل سلطات شرق البلاد بسبب سمعتها كمدينة متمردة.

وعن ذلك قال طارق المجريسى -الباحث في "برنامج شمال إفريقيا والشرق الأوسط" في "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"- إن الليبيين "في حالة صدمة ويلقون باللائمة (في الكارثة) على السلطات الفاسدة التي تتصارع من أجل السلطة، فضلاً عن اختلاس الأموال المخصصة لإعادة بناء درنة بعد حرب 2018، وتجاهل التحذيرات بشأن المخاطر التي تواجه السدود".

 

حتى قبل بناء السدين في السبعينيات تعرضت مدينة درنة لفيضانات - ليبيا. Before the dams were built in the 1970s, the city regularly experienced flooding (image: ZUMA Press/IMAGO)
1963 – black and white picture looking over the sun-baked roofs of the town of Derna, on the North African coast of Libya

 

ويقول خبراء إن حفتر مازال يساوره القلق حيال إمكانية اندلاع تمرد يكون مصدره مدينة درنة. وانكشفت العلاقة المتوترة المستمرة -بين سكان درنة وقوات شرق ليبيا- عندما أرجأت السلطات في شرق البلاد الانتخابات البلدية المقررة بعد أنباء عن وقوع مواجهات بين نشطاء مؤيدين لحفتر ومعارضيهم.

وقد سمح ذلك للجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر بفرض استمرار سيطرته على مجريات الأمور في المدينة، وفقاً لما ذكره أنس القماطي، مؤسس "معهد صادق" في طرابلس. وفي مقابلة مع دي دبليو، أضاف: "جرى إلغاء الانتخابات المحلية التي كان من المقرر إجراؤها قبل عدة أسابيع في درنة، لصالح الجيش الذي سيحكم لمدة خمس سنوات أخرى".

موقع خلاب، ولكن؟

ويرى مراقبون أن موقع درنة الخلاب كان أحد الأسباب وراء الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تعرضت لها المدينة جراء إعصار دانيال.

وتقع المدينة التي تزخر بكنائس ومساجد قديمة، فوق ما يعرف "المروحة الغرينية" وهو المصطلح الذي يشير إلى تشكل مكان عند قاع سلاسل الجبال بواسطة الرواسب التي تجرفها الأنهار والجداول باتجاه البحر. ويقسم نهر -أو ما يسمى "وادي" يبقى جافاً معظم السنة- المدينة إلى نصفين.

ويقول الباحثون إن هذه الطبيعة تجعل من مدينة درنة عرضة بشكل كبير لخطر الفيضانات وهو ما تعرضت له على مر السنين؛ إذ في عام 1941 -إبان الحرب العالمية الثانية- جرفت الفيضانات الدبابات والجنود الألمان المتمركزين على مشارف درنة.

وتعرضت المدينة لفيضانات عارمة في الأعوام 1956 و1959 و1968 و1986، لكن فيضان عام 1959 كان الأسوأ على الإطلاق.

سدَّان عمرهما قرابة نصف قرن

وإزاء تعرض درنة لفيضانات بشكل منتظم أقدمت السلطات على بناء سدين هما "سد سيدي أبو منصور" و "سد درنة" بين عامي 1973 و1977 من قبل شركة Hidrotehnika-Hidroenergetika اليوغوسلافية. وقالت الشركة إن الهدف من السدين السيطرة على الفيضانات، فضلاً عن كونهما وسيلة لمنع تآكل التربة وتنظيم ري الأراضي الزراعية.

 

Mapping Libya’s catastrophic flood damage in Derna after Storm Daniel | Maps News | Al Jazeera https://t.co/utRDgiPxrc

— Oz Hassan - FHEA FRSA (@ozhassan) September 13, 2023

 

وكان آخر فيضان تعرضت له درنة عام 2011 عندما حاولت السلطات المحلية فتح السدين لتصريف المياه التي تراكمت وقتها بفعل الأمطار الغزيرة، ما أسفر عن خطر تعرض المدينة للغرق.

وعلى وقع ذلك أدرك سكان درنة أنه لا يتم إدارة السدين بطريقة صحيحة، فيما يرجح أحد سكان المدينة أن آخر مرة خضعت سدود درنة للصيانة ربما كان في عام 1983 أو 2002.

وقال أحد السكان لوكالة أنباء "اتحاد البث الأوروبي" EBU: "لقد حذرنا السلطات -ليس فقط منذ أسابيع وإنما منذ سنوات- من وجود تشققات في السد ما يعني الحاجة إلى الصيانة. لقد حذرنا لكن لم يستمع إلينا أحد...لقد حلت الكارثة وغرقت المدينة بالكامل".

ويرى باحثون أن سدي مدينة درنة أعطيا سكانها شعوراً بالأمان "الزائف"، ما دفعهم إلى بناء منازل دون تخطيط وحتى في مناطق تعرضت للغرق خلال الفيضانات السابقة.

وقال الباحثون إن الأمر لا يتعلق فقط بسوء صيانة السدين، وإنما بحقيقة مفادها أن السدين لم يتم بناؤهما لمواجهة فيضانات عارمة أو ظواهر الطقس المتطرفة الناجمة عن ظاهرة تغير المناخ.

 

 

 

كاثرين شير

ترجمة: م. ع

حقوق النشر: دويتشه فيله 2023

 

 

ar.Qantara.de