تآكل السردية «الإخوانية» الشمولية وسقوط "الإسلاموية الأرثوذكسية"
على مدار العقود الأربعة الماضية، وتحديدا منذ بداية السبعينات وحتى الآن، هيمنت الحركات الإسلامية الكبري كالإخوان المسلمون بأفرعها الممتدة في الأردن وفلسطين وتونس والجزائر والعراق وسوريا وغيرها، بالإضافة إلى تيار الصحوة الإسلامية فى الخليج والجماعات الجهادية والحركات السلفية، على المجالين السياسي والاجتماعي فى العالم العربي، وكانت بمثابة قوة المعارضة الرئيسية للأنظمة السياسية القائمة.
وقد نجحت هذه الحركات فى جذب قطاعات جماهيرية من خلال ماكينة تعبوية عالية القدرة على الحشد والشحن الديني والهوياتي والسياسي لم يضاهيها في ذلك سوى الماكنية الرسمية والإعلامية للدولة العربية وأحزابها السلطوية. وقد استفادت هذه الحركات بذكاء من ضعف وتآكل الشرعية السياسية للأنظمة من جهة، وفشل خطط التنمية وغياب العدالة الاجتماعية من جهة أخرى، وذلك من أجل تمتين وتقوية حضورها ضمن قطاعات وفئات وطبقات اجتماعية عديدة.
كما اعتمدت حركات "الإسلام الأثوذكسي" على إيديولوجية محافظة دينيا وثقافيا، خاطبت بها قاعدة اجتماعية عريضة ترنو إلى الطقوسية والشكلانية الدينية وتلهبها الحماسة الشعورية والشعبوية المرتبطة بمشروع سياسي أسطوري (المشروع الإسلامي) ، الذي جرى توظيفه لملء الفراغ الإيديولوجي والرمزي فى المجال العام العربي طيلة العقود الماضية بعد سقوط المشروع القومي العربي أواخر الستينات من القرن الماضي.
سردية أيديولوجية شمولية تعيد تفسير التاريخ من منظور اختزالي
وفى الوقت الذي انتهت فيه الإيديولوجيات الكبرى بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي أواخر الثمانينات، انتعش الطلب على الإسلاموية، كسردية إيديولوجية شمولية، تعيد تفسير التاريخ من منظور اختزالي بين الخير والشر والحق والباطل ودار الحرب ودار السلام. ولم يكن لهذه الإيديولوجيا أن تنتشر وتتغلغل ضمن أوساط اجتماعية متنوعة دون وجود تنظيم قوى يمكنه حمل رسالتها وترسيخها من خلال عمليات التنشئة والتلقين داخل المحاضن التربوية لهذه الحركات، ناهيك عن دوائر التواصل الاجتماعي عبر الأسر والشبكات الاجتماعية الواسعة التي وطدت هذه الإيديولوجيا وجعلتها بمثابة إكسير الحياة لفئات الطبقة الوسطي والدنيا وبعض شرائح الطبقة العليا.
ولأسباب عديدة ليس أقلها عمليات القمع والمطاردة التي تعرض لها الإسلاميون أن تحول تنظيماتهم إلى كيانات سرية لا يظهر منه سوى جزء بسيط في حين بقية الجسد غاطس فى عمق المجتمع. وهو ما استدعي وجود تنظيم محكم وقوي يمكنه التأثير من جهة، والبقاء على قيد الحياة من جهة أخري.
القمع خلق منظومة عقائدية وقيمية جامدة
ومع ازدياد درجة القمع والاقصاء تحول بقاء التنظيم إلى هدف بحد ذاته بل وأحياناً مقدمٌ على بقاء "الفكرة" و"المشروع"، فجرى "تصنيم" التنظيم وقياداته التي تحولت إلى أوصياء على الفكرة والمشروع والتنظيم. وهو أمر يبدو بوضوح أثناء الأزمات التي يتحول فيها التنظيم (وليست الفكرة أو المشروع التي هي أكبر وأكثر مرونة) إلى "طوق نجاة" يتشبث به أعضاءه باعتباره الرابط والخيط الناظم الذي يحميهم سواء من الضربات الخارجية أو من محاولات التشكيك فى الفكرة والمشروع.
وكانت النتيجة المنطقية للسرية هو تطوير منظومة عقائدية وقيمية جامدة تقوم على البيعة والطاعة والولاء والالتزام التنظيمي والتي تم غزلها ونسجها باعتبارها جزءا من العقيدة والالتزام الديني للعضو الذي يمكن من خلاله الصعود والترقي والترفيع والتضعيف داخل التنظيمات الإخوانية. وقد أدي هذا الخلط بين التنظيم والمشروع أو الفكرة إلى خلل فى الفهم والحركة وازدواجية فى العمل والاستراتيجية.
فى ظل التنظيمات المغلقة تصبح القيادة هى المصدر الأساسي للشرعية وبيدها المنح والمنع. وتصبح طاعتها أو عصيانها بمثابة ترمومتر لقياس درجة التزام الفرد وولاءه (وأحيانا إيمانه). وهو أمر يبدو بوضوح فى حالة جماعة "الإخوان المسلمين" التي تحولت خلال العقدين الأخيرين إلى "جسد مترهل" تسيطر عليه مجموعة صغيرة من القيادات التي أعادت هيكلة التنظيم ورسم موازين القوى لصالحها. وقد استغلت هذه القيادات حالة القمع التي تعرضت لها الجماعة من أجل إحكام سيطرتها على التنظيم مع عزل وتهميش وإقصاء كل من يحاول نقدها أو منازعة سيادتها وسيطرتها على التنظيم، وهو ما أدي إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء الكارثية. وبعد وقوع انقلاب الثالث من يوليو 2013 وخروج الإخوان من السلطة، لم تجر أية محاسبة لهذه القيادات إما بسبب اعتقال معظمهم أو هروبهم خارج البلاد، وإما بسبب حساسية الظرف التاريخي والتخوف من أن تؤدي المحاسبة إلى تشققات فى التنظيم.
ولم يكن للتنظيمات الإسلاموية "الأرثوذكسية" أن تصمد فى وجه رياح "الربيع العربي" التي جرفت أنظمة عتيقة دون استنادها لهياكل تنظيمية متماسكة وصارمة. ولكن بمرور الوقت انكشفت قدرة هذه التنظيمات والحركات على التكيف مع البيئتين المحلية والإقليمية المتغيرين بشدة واللتان كانتا بحاجة إلى خطاب ورؤية واستراتيجية وأدوات جديدة للحركة. ولكنها عجزت بسبب قيود الإيديولوجيا وصرامة التنظيم وشيخوخة القيادة. وهو أمر يبدو بوضوح منذ سقوط جماعة الإخوان وحتي الان. فالبرغم من الدور المهم الذي لعبته قوى الثورة المضادة ومن يدعمها داخليا وخارجيا فى إسقاط الإخوان، إلا أن الإيديولوجيا الإخوانية كانت قد فقدت جزء كبير من بريقها ورصيدها الشعبي بعد عام واحد فى السلطة، وانكشف كثير من المقولات الرئيسية للتنظيم على غرار "الإسلام هو الحل" و"المشروع الإسلامي" و"التمكين"و "أستاذية العالم"... إلخ والتي ثبت أنها لم تكن سوى مجرد شعارات للتعبئة والحشد دون أي مضمون أو معني حقيقي. وقد أثبتت خبرة الشهور القليلة الماضية أن "الإيديولوجية الإخوانية" ليست الوحيدة في المنطقة وإنما هناك إيديولوجيات أخرى منافسة لها يمكن صناعتها أو بعثها من جديد مثل "الوطنية الشوفينية" و"الزينوفوبيا"... إلخ.
والأكثر من ذلك أن هذه التنظيمات الأرثوذكسية أصبحت رهينة لقياداته حضورا وغيابا. فبالبرغم من قدرة التنظيمات المغلقة على ملء فراغ القيادة بشكل سريع نتيجة للهيراركية الداخلية وتسلسل القيادة إلا أن غياب العقل المركزي للتنظيم من جهة، وأزمة الشرعية التي تواجه القيادات الوسيطة من جهة تمثل عنصر ضعف وربما تؤدي افتقاد التماسك الداخلي. وهو ما يبدو بوضوح فى حالة الإخوان، فالبرغم من التغيير الذي حدث فى القيادات الوسيطة للتنظيم، لا يمكن الجزم بأن القيادات الشابة الجديدة قد تعلمت من أخطاء القيادات الكبيرة للتنظيم، ويبدو أنها لا تزال تتبع نفس الاستراتيجية القائمة على التحدي والمواجهة دون تصحيح للأفكار أو تطوير للخطاب أو تعديل للاستراتيجية. ويبدو أن التغييرات التنظيمية التي حدثت فى صفوف الجماعة بشكل سري خلال الشهور الماضية لم تُحدث اختراقاً حقيقياً فى طريقة تفكير الجماعة وتعاطيها مع الأزمة الحالية.
وتظل المشكلة الأكبر فى تداعيات تفكيك التنظيمات الإسلامية الأرثوذكسية إن على مستوى الإيديولوجيا أو الحركة. فمن جهة فإن عمليات القمع والملاحقة والمطاردة التي تجري ضد الإسلاميين حاليا من شأنها شد هذه الايديولوجيا باتجاه اليمين الديني الأكثر جنوحاً وتشدداً بدلا من أن تدفعها باتجاه المراجعة والاعتراف بالخطأ وهو أمر لا تخطئه العين فى مصر حاليا في ظل تصاعد لغة وخطاب التكفير والعنف والتشدد بين جيل الشباب من الإسلاميين.
ومن جهة ثانية فإن غياب الوسائط السياسية والاجتماعية (الأحزاب والمنظمات الأهلية والصالونات الفكرية) لا يوفر بديلا حقيقياً للأجيال الوسيطة من الإسلاميين يمكنها اللجوء إليه والعمل تحت مظلته بأريحية ودون خوف أو تهديد، وهو ما يعطل عملية التفكيك الذاتي لهذه التنظيمات والتي كانت ستحدث بحكم الزمن وتقلباته.
ومن جهة ثالثة فإن غياب الحرية وتراجع التدافع السلمي بين القوى والحركات والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية من شأنه أن يزيد الاحتقان الإيديولوجي والسياسي ويؤدي إلى صراع (وربما اقتتال) عقائدي وطائفي لا يمكن التنبؤ بنهاياته.
خليل العناني
حقوق النشر: موقع قنطرة 2014
خليل العناني كاتب وباحث متخصص فى النظم السياسية والعلاقات الدولية. يعمل كأستاذ للعلوم السياسية بكلية الدراسات الدولية المتقدمة، جامعة جونز هوبكنز الأمريكية بواشنطن. عمل ككبير باحثين فى معهد الشرق الأوسط، وباحثا فى كلية العلوم السياسية بجامعة دورهام البريطانية، وكباحث زائر في معهد بروكينجز للأبحاث بواشنطن. تختص أبحاثه بدور الفاعلين الاجتماعيين فى النسق اليومي وسوسيولوجيا الدين والتحول الديمقراطي. له العديد من الكتب والدراسات منها "الانتخابات والديمقراطية في الشرق الأوسط" (دار بالجراف ماكميلان، ٢٠١٤) و"الإخوان المسلمون في مصر: شيخوخة تصارع الزمن" (دار الشروق الدولية، ٢٠٠٧).