حصاد ثورة 25 يناير...من الانتفاضة العلمانية إلى الديمقراطية الإسلامية؟
قبل عام بالتمام والكمال، وفي عيد الشرطة الذي يحتفل به عطلة رسمية في مصر، حلّ "الربيع العربي" في مصر بعدما أزهر في تونس، وأسقط نظام الرئيس السابق حسني مبارك بعد 18 يوماً فحسب من الاحتجاجات السلمية.
وغالبا ما يختلط الإيجابي بالسلبي في الحصيلة المؤقتة للثورة المصرية بعد مرور 12 شهراً: فمن ناحية تغيرت مصر تغيراً شاملاً. هنا يكفي أن نلقي نظرة واحدة على ثقافة الجدل والنقاش التي تزداد حيوية يوما بعد يوم، أو نظرة على ثقافة الاحتجاج التي تشمل كافة أوجه الحياة، ليتبين لنا كيف يشعر المصريون في حياتهم اليومية بـ"سقوط الجدار المصري".
ومن ناحية أخرى فلا بد من النظر بحذر بالغ إلى صورة المجتمع النازع إلى التحرر، وذلك في سياق التوترات الطائفية والاتهامات الموجهة للمجلس العسكري الحاكم بتعذيب المحتجين، والاعتقالات التعسفية بحق الناشطين، والقمع الذي ما زال جهاز الشرطة يمارسه دون أي تغيير.
تناقضات المجلس العسكري وإشاراته
إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يرسل إشارات متناقضة كل التناقض منذ تمتعه بصلاحيات السلطة الرئاسية في الحادي عشر من فبراير (شباط) الماضي. لقد اعتمد المجلس العسكري سياسة إعلامية قاصرة كانت تدفع الحركة الاحتجاجية الشبابية المرة تلو الأخرى إلى الخروج إلى الشوارع والتذكير بـ"قيم الثورة" والدعوة إلى الحفاظ عليها.
أما النواة الثورية – وهي في معظمها من الليبراليين العلمانيين – فهي ترى الإنجازات التي حققتها الثورة في خطر متزايد، وخاصة إذا ما نظرنا إلى النشطاء من معسكر الإسلام السياسي الذين يتميزون بتنظيم أفضل، والذين نجحوا في ملء الفراغ السياسي في حقبة ما بعد مبارك.
الإسلاميون خرجوا أيضا رابحين في أول انتخابات نيابية حرة تجري في مصر، إذ نجحت قائمة حزب "الحرية والعدالة" المعتدل، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، في الحصول على نحو نصف الأصوات في الانتخابات. أما السلفيون فقد مثّل نجاحهم مفاجأة في الانتخابات، إذ حصد حزبهم، "حزب النور"، ربع الأصوات تقريباً، وبهذا يحتل أتباع التيار الإسلامي نحو ثلاثة أرباع مقاعد البرلمان الجديد.
وبغض النظر عن نجاحات انتخابية فردية مؤثرة إعلامياً في بعض الدوائر الانتخابية الحضرية فإن التيار العلماني الليبرالي بقي دون التوقعات، إذ لم تحصد القوى الليبرالية العلمانية إلا على عشرين في المائة من مقاعد البرلمان الجديد على أقصى تقدير، وتختلف الأرقام باختلاف طريقة الحساب.
أما قائمة "الثورة مستمرة" فلم تستطع أن تجذب أحداً من الناخبين إليها إلا بالكاد. وترجع أسباب ذلك بالتأكيد إلى تأخر شباب الثورة في تنظيم أنفسهم في شكل حزبي، وفي تحويل اللحظة الاحتجاجية في الشوارع إلى طرق شرعية للمشاركة السياسية. بالإضافة إلى ذلك، وهو ما كان بالتأكيد حاسماً بالنسبة لنتيجة الانتخابات، فإن مطالبتهم باستمرار الثورة كانت تلقى إعراضاً متزايداً من غالبية المصريين، وذلك على خلفية عدم الاستقرار وضعف الاقتصاد المصري، وهو ما يجعل المكاسب الثورية الاجتماعية والاقتصادية وزيادة الرخاء تصبح أملاً بعيد المنال بالنسبة للغالبية من المواطنين المصريين.
العسكر والسلطة في مصر ما بعد مبارك
لقد وعدَ الجيش بعد الاحتجاجات المتكررة عشية الانتخابات البرلمانية بتسريع عملية نقل السلطة إلى مدنيين، وكذلك إجراء انتخابات رئاسية في القريب العاجل. في الوقت نفسه فإن رأس الدولة، المشير محمد حسين طنطاوي، لا يمل من التأكيد على وظيفته كمراقب لعملية التحول السياسي وحارس لها، وذلك "لمصلحة الشعب المصري".
ولذلك فإن إعلانه تسليم المسؤولية السياسية يبدو في هذا السياق أمراً غير جدير بالتصديق. إن الجيش – وهو مصدر السلطة في مصر منذ تأسيس الجمهورية في الخمسينات – يريد أن تبقى امتيازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيداً عن أي تهديد.
ومن الواضح أن الجيش يتهرب من إصدار القرارات السياسية غير الشعبية، لا سيما خلال عملية التحول السياسي، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر. هذه القرارات ينبغي على قيادة سياسية مدنية أن تصدرها. وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير قرار القيادة العسكرية بمحاكمة عائلة مبارك أمام القضاء.
لقد ضحي المجلس العسكري بمبارك للحفاظ على الدور المتميز الذي يلعبه الجيش في حكم مصر، ولعدم المساس بدور الجيش الاقتصادي المربح للغاية. كانت القيادة العسكرية تأمل في الحصول على مكاسب جذابة مزدوجة من وراء هذه الخطوة: فمن ناحية استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة لمطالب المحتجين المتكررة باعتقال مبارك، مبرهناً بذلك على مدى جديته في السعي لإنهاء حقبة الماضي.
ومن ناحية أخرى استطاع الجيش أن يقدم نفسه في صورة الحامي للنظام السياسي الشرعي الذي كان مشوهاً ومستبداً تحت قيادة مبارك، والآن – وبمعونة الجيش – سيعود هذا النظام إلى طريقه الصحيح.
نقاش دستوري
ولهذا لا يمكن أن نتوقع نتيجة "ثورية" من النقاش الذي سيخاض قريباً حول الدستور الجديد. أشياء كثيرة تشير إلى الاستمرارية القائمة على أعمدة النظام السياسي الدستوري الحالي. وليس هناك سوى قليلين فحسب من الذين يطرحون النظام الرئاسي للنقاش العام على سبيل المثال، رغم أن هذا النظام كان في الماضي الأرض الخصبة التي ترعرع فوقها الحكم السياسي "الفرعوني".
كما أن المادة الثانية من الدستور القديم – التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر كل القوانين في مصر – غير مطروحة للنقاش على الإطلاق، على الأقل بسبب التركيبة الواضحة للأغلبية في البرلمان المنتخب حديثاً. سيكون المهم بالأحرى هو كيفية تطبيق الأسس الدينية في السياسة اليومية. ولهذا علينا أن ننتظر في المقام الأول لنرى ما هي التحالفات البرلمانية التي ستعقدها جماعة الإخوان المسلمين، أقوى الأحزاب، لتكوين الأغلبية في البرلمان الجديد، وما هو الدور الذي سيلعبه الجيش باعتباره "حامي النظام".
2011 سيدخل كتب التاريخ باعتباره نقطة تحول
التغير الجذري الذي عاشته مصر في عام 2011 سيدخل كتب التاريخ باعتباره نقطة تحول. ولكن ما زال غير واضح ما إذا كانت نقطة التحول هذه ستدخل التاريخ باعتبارها انتقاضة أدت إلى تغيير النظام، أم باعتبارها ثورة أحدثت قطيعة مؤسسية مع نظام الدولة في الماضي.
مستقبل مصر يظل مغلفاً بالضباب، كما يظل في علم الغيب الدور المُناط بالدين في الدولة والمجتمع مستقبلاً. إن الليبرالية الجزئية التي يتسم بها النظام السياسي، لا سيما فيما يتعلق بقنوات المشاركة السياسية، هي بلا شك إنجاز ديمقراطي للانتفاضة المصرية.
في الوقت نفسه فإن القوى الرجعية من نخبة النظام السلطوية التي نمت عبر عقود ستطمح إلى المحافظة على مكاسبها عبر المحسوبية وشبكات المنتفعين، وستبدي مقاومة عنيدة للغاية في المستقبل.
كما ينبغي الإشارة أيضاً إلى عوائق منهجية عديدة وكثيرة تقف في طريق الدمقرطة السريعة للبلاد. من أجل كل ذلك سيمثل الطريق إلى الهدف الديمقراطي تحدياً في العقدين القادمين، وسيحتاج إلى ما هو أكثر من مجرد إجراء انتخابات بشكل دوري. عندما تصل البلاد إلى هذا الهدف، يمكننا عندئذ إصدار حكم حول ما إذا كان عام 2011 هو عام الانتفاضة أو عام الثورة.
توماس ديملهوبر
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: لؤي المدهون
حقوق الطبع: قنطرة 2012
يعمل الدكتور توماس ديملهوبر باحثا مختصا في الشؤون المصرية في معهد العلوم السياسية التابع لجامعة إرلانغن نورنبرغ.