القرآن والسنة وإنصاف الدين للمرأة من منظور نسوي
حظيت قضية المرأة حيزًا واسعًا في العالم حقوقيًا وفلسفيًا واجتماعيًا وبرزت تيارات تناصر مطالب النساء تحمل شعار "المظلومية" فكان الانطلاق في كون المرأة مظلومة في المجتمع من قبل الرجل وعلينا إثبات حقوقها وحضورها. وقد خرجت منازع نسوية ترى أن الدين هو الذي كرَّس هذه المظلومية حول المرأة في حين ظهر منزع آخر يرى أن الدين في أصله يُنصِف المرأة ولا يعتبرها كائنًا ثانيًا في معادلة الكينونة الإنسانية، بل حفلت الكتب الدينية بالعديد من أسماء النسوة اللاتي كان لهن دور محوري في تاريخ الأديان السماوية الثلاثة غير أن التصور الخاطئ حول المرأة كان من قبل رجال الدين الذين احتكروا الخطاب الديني واستخدموه للسيطرة الذكورية وخلق صورة جندرية للمرأة لا تخرج عنها.
وقد طرح التيار النسوي الديني موقفًا ينادي بإعادة قراءة النص الديني مما يساهم في خروج المرأة من الوضع الهامشي والمتدني لتخرج بتأويلات تعارض الهيمنة الذكورية على المقدس فالاضطهاد الديني للمرأة بحسب كارين آرمسترونغ ينافي مبادئ جوهرية في الأديان التوحيدية غير أن الرجال اختطفوا هذا الوحي السماوي وجعلوه متوافقًا مع البطريركية الذكورية.1
في السياق الإسلامي -وهذا موضوع المقال- ظهر تيار يسمَّى "النسوية الإسلامية" أواخر القرن الميلادي الماضي في إيران وحاول هذا التيار المطالبة بالحقوق النسائية من خلال المرجعية الدينية فأسست التجمعات النسوية صحيفة "زنان" على يد الكاتبة النسوية الإيرانية شهلا شركت عام 1992. في حين ترى النسوية أميمة أبو بكر أن الفكرة النسوية ظهرت في فترة أقدم من ذلك وترجعها إلى نهاية القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين حيث ترى أن كتابات زينب الغزالي وعائشة تيمور التمثيل التطبيقي لمنظور النسوية الإسلامية وإن لم يكن المصطلح هذا موجودًا في تلك الفترة.2
ويمكن تعريف النسوية الإسلامية بأنها: الحركة الجامعة لمجموع الأفكار التي تتقاسم هدفًا واحدًا هو تقويض منظومة المفاهيم والقيم والظواهر والتشريعات التي أنتجها المجتمع الإسلامي من منظور ذكوري مكرِّس للامساواة بين المرأة والرجل. وقيل: مجموعة أساليب وأنماط السلوك ذات الصلة بالعدالة والمساواة الجنوسية المؤطرة بالقيم الإسلامية.3
ومن خلال التعريف يمكن أن نتبيَّن أن النسوية الإسلامية تريد تقديم قراءة جديدة للقرآن والأحاديث النبوية وذلك لتعطي الشرعيَّة للمقولات النسوية التي تنادي بها وتنزع بدورها التفاسير التراثية ذات الصبغة الذكورية. و"وفق هذا الإطار قامت العديد من الباحثات المسلمات بوصف ما وجدنه من مساواة جندرية في القرآن والعدالة الاجتماعية المرتبطة بها على أنها نسوية إسلامية".4
"فكرة الهيمنة الذكورية في أزمة بالعالم العربي"
بأبحاثها المستفيضة أظهرت عالمة الاجتماع الجزائرية فاطمة أوصديق مدى تغير صور الأسرة وأدوار الجنسين في هذا البلد الواقع في شمال أفريقيا. حاورتها الصحفية الألمانية كلاوديا منده لموقع قنطرة.
وبناءً على هذا التعريف تعيد هذه الحركة قراءة العديد من القضايا المرتبطة بموضوع المرأة على شاكلة: القوامة، تعدد الزوجات، ملك اليمين، الميراث، نشوز المرأة، الحجاب ... وغير ذلك من القضايا لتعيد النظر فيها وفي دلالاتها التي تحمل مضامين الجنوسة.
وبحسب النسوية الإسلامية فإن استمرار التأويلات الدينية لمثل هذه القضايا من قبل الرجال صار من الصعب التمييز بين المقدس والتفسيرات البشرية وبالتالي أصبحت الأفهام الأبوية مقدسة.
ومفهوم النسوية الإسلامية حديث مقارنة بالتيار النسوي بشكل عام، وقد ظهر على يد العديد من الباحثات المسلمات أمثال: أفصانة نجم أبادي، ونيرة توحيد، وزيبا مير حسني والعديد من النساء والرجال في صحيفة "زنان" كما استخدمت الباحثة السعودية مي يماني المصطلح في كتابها "الإسلام والنسوية" واستخدمته كذلك الباحثة نيلوفير غويله في كتابها "الحداثة الممنوعة" واستخدمته كذلك الناشطة النسوية شمسمة شيخ في جنوب أفريفيا في تسعينيات القرن المنصرم.5
القرآن والسنة من منظور نسويّ
تَعتبِر النسوية الإسلامية أن القرآن الكريم هو مرجعيتها وبالتالي تتميز عن بقية التيارات النسوية بهذا المرجع الديني باعتباره المؤسس للعدالة الجنوسية. وقدم هذا التيار النسوي الإسلامي تأويلًا جديدًا للآيات القرآنية رافضًا ما فسّره السلف والعلماء. فالقرآن بحسب ألفة يوسف كلام إلهي أي قول لغوي والأقوال اللغوية قابلة للتفاسير المختلفة ولا يحق لأحد أن يحتكر المعنى.
ومع أن النسوية الإسلامية تنطلق من النص التشريعي كما تقول إلا أنها كانت محكومة بالفلسفة متذرعة بقراءة معاصرة لا يحتكرها معنىً محدِّدٌ للنص فخضعت للنصوص الفلسفية واستبدلت شريعة الله بغيرها فبدت متناقضة مع ما أنكرته على العلماء المسلمين الذين خضعوا للنص.6
وعلى اعتبار أن القرآن نص لغوي فظاهره غير مراد -بحسب هذا التيار- والمعنى الحقيقي لا يعلمه إلا الله، وبالتالي هم يقدمون فهمًا تأويليًا على أن يوافق هذا الفهم الفلسفة النسوية الحقوقية، وبذلك نجد أن القراءة النسوية للنص القرآني هي قراءة مؤدلجة تتوسَّل أدوات الحداثة وتصبغها بالشريعة.
يمكن الرجوع إلى واحدة من رموز هذا التيار وهي أمينة ودود التي بنت منهجًا هرمنوطيقيًا جديدًا لقراءة القرآن، على سبيل المثال لا تفهم ودود أن المرأة خلقت من ضلع أعوج كما في حديث البخاري، فتعطي قراءة مختلفة لحواء عمَّا طرحه المفسرون التقليديون، فتذهب ودود أن حواء خلقت من الروح المحايدة نفسها التي خلق منها آدم ولذلك أصبحت شريكة أو زوجة، فالقرآن يصرح بأن الله خلق كل شيء مكافئًا.7
وترى رفعت حسن أنَّ السؤال عن كيفية خلق المرأة هو من أكثر الأسئلة المحورية والسبب في ذلك أنه لو أن الله وهو الحكم المطلق الذي يحدد قيمة كل شيء قد خلق الرجال والنساء متساوين، فلا يمكن أن يصبحوا في وقت لاحق غير متساوين جوهريًا، وعلى جانب آخر لو أن الله خلق النساء والرجال غير متساوين فلا يمكن أن يصبحوا في وقت لاحق متساوين جوهريًا. وترى رفعت حسن أن اعتقاد المسلمين بخلق المرأة من ضلع أعوج دخل التراث عن طريق الكتاب المقدس والأحاديث النبوية، وتؤكد رفعت أن الأحاديث التي جاءت بهذا المعنى غير صحيحة لا سيَّما أنها تتعارض بشكل صريح مع تعاليم القرآن. وعدد هذه الأحاديث ستة: ثلاثة منها في البخاري وثلاثة في صحيح مسلم!8
وتتبنَّى حركة الأخوات في الإسلام بماليزيا تناول قضايا المرأة بالعودة إلى القرآن دون أن تضع في الحسبان أقوال العلماء المتقدمين من المفسرين، فالتفسيرات القديمة ليست مقبولة لكونها تفسيرات ذكورية لا تمثل تفسيرًا صحيحًا، وخلصن إلى القول بأن القرآن لم ينصّ على وجوب "الحجاب" وأي تفسير يقول بفرضيته فهو تفسير ذكوريّ، وأما القرآن فقد وضع ضوابط للباس المرأة، وهي: لباس التقوى (الأعراف: 26) وتغطية الصدر فقط: ( النور: 31) وأن يكون الثوب طويلًا: (الأحزاب: 59).
ويمكن تلخيص قول الأخوات المسلمات بالحجاب بكونه عادة يهودية، ولفظتي الخمار والحجاب في القرآن يعود معناهما لأسمى لباس وهو لباس التقوى، والزينة المقصودة في القرآن هي جسد المرأة وقدر الظهور منه منوط بالتقوى.9
المسلمة النسوية تريد تحرير المرأة من الوصاية الذكوريّة المقنّعة
توجد فقيهات مسلمات لا يستخدمن مصطلح "النسوية" لوصف ما يفعلنه، أي: تفسير القرآن بطريقة تراعي المساواة بين الجنسين، كما ترى عالمة الدين المسلمة دينا العمري. جنان توبتشو حاورتها لموقع قنطرة.
وفي قضية التعدُّد فالنسويات الإسلاميات يسلمن بدلالة الآية القرآنية على التعدد لكن منهن من تذهب إلى إباحته بشروط وحالات ضيقة، ومنهن من تذهب إلى منعه لاعتبارات أخرى، كتعليق جوازه على شرط العدل المستحيل، أو خصوصيته بسياق معين أما النبي -عليه السلام- فهو استثناء لا يصح التأسي به في هذه المسألة، أما الفقهاء والمفسرون فإجماعهم على الجواز لا عبرة به؛ لأنه من المحاولات الأبوية لتحريف معاني القرآن لمصلحة الرجل.10
أما تعامل النسوية الإسلامية مع الأحاديث النبوية فيختلف عن تعاملهم مع القرآن ويغلب عليهم الانتقائية فيها، فيأخذون من السنة المواقف التي تدعم الأفكار والنظريات والأطروحة النسوية والتي تساعد في إثباتها والاستدلال عليها، وهذا دون معيار علمي ثابت للقبول والرد. فالأحاديث المقبولة عندهن يتمّ تأويلها بما يتسق مع الطرح النسوي.11
وتؤكد رفعت حسن أن التراث الحديثي والفقهي تركة رجالية بامتياز، فقد أعطى الرجل لنفسه الحق في تحديد الوضع الأنطولوجي، واللاهوتي، والسوسيولوجي والإسكاتولوجي للمرأة المسلمة، وليس من المستغرب قبول النساء لهذا الموقف فهن لا يدركن مدى انتهاك حقوقهنّ الإنسانية.12
وتحاول ألفة يوسف الاهتمام بالخطاب الديني من خلال مساءلة أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أبعادها الروحانية والنفسية، وتعتمد على التحليل النفسي عمومًا والتحليل النفسي اللاكاني خصوصًا والقراءات الإيمانية، فالأبعاد الإيمانية بالنسبة لها لا تتنافى مع ما ينشده التحليل النفسي من تحقيق سعادة الفرد.13
النسوية الإسلامية في ضوء النقد
لم ينجح التيار النسوي الإسلامي في تحقيق أهدافه وبأن يكون له مشروعية دينية أو اجتماعية، فالبنية الأساسية التي بنى عليها الأحكام المتعلقة بالمرأة والتي اعتمدت دراسات ذاتية فردية وقفت موقفًا عدائيًا لكل هذه المصادر وأسست نسوية إسلامية تدعي امتلاك الحقيقة وشملت تأويلاتها التّجديدية النصوص القطعية.14
فمن ما يوضح فساد المسلك الذي اتَّخذه هذا التيار عند تعامله مع النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، فهو لا يعتمد البناء العلمي ولا يصدر عن تعظيم للنصوص الدينية وطلب الحق منها.
ومن ضمن ما تعاني منه النسوية الإسلامية ليس كونها ردة فعل فقط، لكن رد الفعل لا يمكنه المبادرة، وبالتالي عدم تمكنه من صياغة رؤية متكاملة. يتضح ذلك في عدم درايته بما تعاني منه المرأة المسلمة المغتربة، إذ إن مشكلتها ليست مشكلة جندر/ نسوية فقط، إذ يضاف إليها أزمة العنصرية.15
ولا يخفى أن الحركات النسوية بشكل عام من أكثر الحركات المثيرة للجدل في عصرنا وفيما يرتبط بهذه الحركات من قضايا حقوق الإنسان والبيئة والحريات وعلاقة الديني بالدولة وغير ذلك من القضايا المهمة.
بالتأكيد هنالك مظلومية عانت منها النساء وما زالت تعاني منها حتى الآن بأساليب مختلفة تتذرع بالدين أو القهر والسياسة والتقاليد لكن اتخاذ موقف ردة الفعل والابتعاد عن التأسيس العلمي يجعل من المجتمعات ترفض هذه النظرة لما فيها من بعد عن التقصي العلمي واتهام لفكر العلماء السابقين.
سمر الفوالجة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
سمر الفوالجة - كاتبة وطالبة دكتوراه في الجامعة الأردنية/ عقيدة وأديان.
المصادر:
1 مجموعة مؤلفات، بنات ابراهيم -الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام-، ص 52
2 انظر: الكبكبي، عبد الله، موقف النسوية الإسلامية من نصوص الكتاب والسنة، ص 270
3 العسيري، إيمان، النسوية الإسلامية وصلتها بالفكر النسوي الغربي، ص 638
4 عطية، أحمد، النسوية الإسلامية-قراءة في النقد ونقد النقد، ص 16
5 انظر: عطية، أحمد، النسوية الإسلامية-قراءة في النقد ونقد النقد، ص 98
6 العسيري، إيمان، النسوية الإسلامية وصلتها بالفكر النسوي الغربي، ص 637
7 انظر: مؤلفات، بنات ابراهيم -الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام، ص179
8 أبو بكر، أميمة، النسوية والدراسات الدينية، ص 554 - 555
9 حشيفة، سناء، التأويلات النسوية الإسلامية لبعض قضايا الفكر العقدي المعاصر، ص 64 - 65
10 الكبكبي، عبد الله، موقف النسوية الإسلامية من نصوص الكتاب والسنة، ص 281
11 الكبكبي، عبد الله، موقف النسوية الإسلامية من نصوص الكتاب والسنة، ص 278
12 شكيرب، آسيا، النسوية الإسلامية والموقف من الحديث النبوي، ص 54
13 المرجع نفسه، ص 67
14 العسيري، إيمان، النسوية الإسلامية وصلتها بالفكر النسوي الغربي، ص 678
15 عطية، أحمد، النسوية الإسلامية-قراءة في النقد ونقد النقد، ص 105