مذكرات ''محاولتي لفهم العرب''.......من ذاكرة الحرب والسلام
الصدفة وحدها هي من قادته نحو الشرق الأوسط، فعندما اندلعت حرب أكتوبر عام 1973 أرسلت القناة التلفزيونية الألمانية الأولى (ARD) أولريش كينتسله إلى مصر، لأن "كان يجب أن يذهب أحدما إلى القاهرة". ولأنه تم تعليق رحلات الطيران إلى هناك، كان يجب عليه أن يذهب عبر طرابلس الليبية. "كان ذلك أول تواصل لي مع العالم العربي"، وبسبب غياب الفنادق آنذاك وجد المراسل الصحفي المعين حديثا نفسه مضطرا للنوم في سيارة تاكسي.
وإذ يتذكر كينتسله تلك اللحظات، فإنه لا يخفي شعوره آنذاك بأنه كلف بمهمة أكبر من طاقاته: "لم أستوعب إلا القليل مما دار حولي. لم أكن أعرف أي كلمة باللغة العربية، ولا أن أقرأ الخط العربي". وصل إلى القاهرة، وأنتج، خلال أسبوعي الحرب، حوالي عشرة تقارير لنشرة الأخبار الرئيسية، ولكنه عرف لاحقا، بأنه لم يصل أي تقرير منها إلى ألمانيا، لأن السلطات المصرية احتجزتها.
حقبة مختلفة في تاريخ الصحافة
مثل هذه القصص تكشف عن ظروف العمل التي كانت سائدة آنذاك، والتي يصعب تصور وجودها في يومنا هذا. لم يقتصر الأمر على صعوبة الاتصالات الهاتفية من الشرق الأوسط، التي كانت تحتاج للحظ والصبر، ولكن التقارير التلفزيونية المصورة كان يجب أن تنقل جوا. وهذه العقبات من الصعب الآن شرحها للجيل الحالي الذي اعتاد أن يكون قادرا على الإطلاع على مايريد من أحداث العالم لحظة حدوثها مباشرة.
بدأ أولريش كينتسله مسيرته الصحفية قبل نصف قرن تماما، ففي عام 1962 كانت البداية مع قناة "زود دويتشر روندفونك"، وهي قناة تابعة للمؤسسة الأم (ARD)، والأمر كان هنا بمحض الصدفة أيضا. فقد تأسست في تلك الفترة القناة الألمانية الثانية (ZDF)، وحينها استقطبت القناة الوليدة الكثير من العاملين مع القناة الأولى، وبالتالي كان هناك حاجة لعاملين جديد: "لم أكن أحسن فعل أي شيء، ورغم ذلك تم قبولي في محطة زود دويتشه روندفونك"، وكل هذا "بدون أي دراسة أو تأهيل صحفي".
قدم كينتسله تقاريره لنشرات الأخبار وللبرامج السياسية، من مصر وقبرص، ومن ثم جاءت الحرب الأهلية اللبنانية فانتقل ليرسل تقاريره من بيروت، ليكون خلفا للصحافي المخضرم غيرهارد كونتسلمان. بيروت بدت "كميناء على الريفيرا الفرنسية، ولا أثر للشرق عليها"، هذا ما لاحظه عند وصوله إلى بيروت، مبديا خيبة أمله. ولكن سرعان ما أعجب بالمدينة "التي تعج بالحيوية و المرح"، حيث يعيش المرء في "حالة نشوة دائمة".
أوقات عصيبة كمراسل حربي
احتلت الحكايات التي يرويها عن الحرب اللبنانية الجانب الأكبر من كتاب كينتسله. ويضم هذا الكتاب في طياته أحاديث ظريفة صيغت بإتقان صحفي. وبارتياح يتحدث كينتسله عن محطات في حياته الصحفية، ويستمتع القارئ بالإصغاء إليه، خاصة لتواضعه عند الحديث عن إنجازاته الرائدة في تلك الأيام، إذا ما قارناه مع بقية زملائه من الخبراء في الشرق الأوسط.
ولا يحاول كينتسله أن يشرح العالم وإنما هو مندهش منه. ولا يتردد في الإفصاح عن يأسه من هذه الدنيا أحيانا. ويروي عن واحدة من أولى المجازر التي وقعت في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا والتي حدثت عام 1982، ورغم مرور ثلاثة عقود على الحدث إلا أنه ما زال محفورا في ذاكرته. اضطر آنذاك، كما يقول ملخصا الموقف، أن "يشاهد كيف ينفض ذاك البلد آخر ما تبقى فيه من حضارة".
ودائما ما يعود من السياسة ومعضلاتها الكبيرة ليتحدث عن معايشاته الشخصية، ليعترف مثلا بأنه واجه الضغط الكبير للتهديد الذي كان يعيشه "بكميات كبيرة من المشروبات الكحولية ومن مختلف الأصناف".
" النقطة الملتهبة: الشرق الأوسط"
ولم يخش كينتسله المخاطر التي رافقت عمله وكان جريئا في تقاريره، فلقد شبه، في إحدى النشرات الإخبارية، حزب الكتائب اللبناني بحزب "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" الألماني المحافظ ، "ولكنه مزود بمدفعية ميدان خفيفة". وإلى جانب الكلام عن تقارير الحرب، توجد في الكتاب أحاديث عن زيارات قام بها إلى القاهرة ودمشق ودبي، وكذلك عن مقابلة الكاتب لمعمر القذافي "غريب الأطوار"، وكذلك عن لقائه بصدام حسين.
لقاؤه مع الرئيس العراقي السابق تم أثناء احتلال العراق للكويت عام 1990، وقبيل اللقاء أخذوا منه حافظة الأقلام ودبوس ربطة العنق، لأنه يمكن أن تكون "أدوات اغتيال خفية". وبعد المقابلة أخذ الديكتاتور يد الصحافي مصافحا إياه: تلك "المصافحة الفجائية مع صدام حسين في قاعة الاستقبال لقصره" وصفها الصحافي الألماني بأنها "واحدة من أكثر اللحظات إحراجا في حياتي"، هذا التعليق ورد على صورة منشورة في الكتاب، لأن الكاتب أراد توثيق كل شيء في كتابه بالصور.
ما تقدمه مذكرات كينتسله يتميز كثيرا عن ما تقدمه الكتب الكثيرة حول منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، لأن الكتاب يتناول تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ التلفزيون في آن معا، كما أنه يلقي الضوء على الفترة المزدهرة لعمل المراسل في الدول الأجنبية، وهذا العمل كان حلما في تلك الأيام. ويحكى عن والتر ميشتل، الذي أسس، في عام 1966، مكتب الشرق الأوسط للقناة التلفزيونية الألمانية الأولى في بيروت، ومباشرة بعد وصوله استفسر عن أين يتم خياطة ملابس الرئيس اللبناني: "فورا طلب عشر بدلات من نفس خياط الرئيس، وكلما ظهر بهذه الملابس، رفيعة المستوى، شعر الجميع ببعض الحرج في إدارة التحرير في شتوتغارت".
الشعور بأهمية العمل
وخلف حكايات مثل هذه تختبئ عقلية ألمانية. وإلى تلك الفترة تعود جذور الصورة المعروفة اليوم والسائدة في وسائل الإعلام الألمانية حول مراسلي الشرق الأوسط. كينتسله نفسه يعترف أنه شعر بأنه "مهم للغاية"، عندما التقى رئيس الحكومة القبرصي للمرة الأولى: "تخيلت أنني قد أصبحت صحافيا عالميا. لم يكن ذلك الشخص الذي جلس قبالتي رئيس البلدية في بلدة شندلفينجن، وإنما كان رئيس وزراء حقيقي".
روح التفاؤل التي كانت سائدة في وسائل الإعلام آواخر ستينات القرن الماضي اجتمعت في ذلك الوقت مع المثالية السياسية الزائدة عن الحد. ويتذكر الكاتب أوقات عمله في محطة (WDR)، التابعة بدورها للقناة الأولى، حيث "رمينا في حانة تناول البيرة بحياتنا المحدودة الأفق، ظانين أن الثورة العالمية ستسير أفضل بتناول بعض البيرة" مذكرات كينتسله لا تسلط الضوء فقط على العنوان الفرعي للكتاب وهو "محاولة لفهم العرب"، بل توصف إضافة لذلك بعضا من الأسباب التي ما زالت تسبب، حتى يومنا هذا، الكثير من سوء الفهم السائد بين هذين العالمين.
أندرياس بفليتش
ترجمة: فلاح آل ياس
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012
أولريش كينتسله، كتاب "وداع ألف ليلة وليلة: محاولتي لفهم العرب" صادر عن دار نشر (Sagas Edition 2011) في شتوتغارت.