في بلاد الصوفيين
يتردد بقوة صدى أنشودة "علي حيدر" في الفناء الداخلي لضريح جمال شاه بابا. وللحظة، يصمت صوت قرع الطبول الذي يصم الآذان ويشتت الهواء المعبأ برائحة البخور. المديح الطويل لعلي يحفز الراقصين والمتفرجين في مقام هذا الصوفي في مدينة لاهور القديمة على الوصول إلى حالة نشوة تتزايد دائما. علي صهر النبي محمد وابن عمه، يُعتبر في التصوف الإسلامي حارس الحكمة وأصل أغلب سلاسل التنشئة الصوفية – وفي النهاية، فقد نقل إليه النبي محمد قبل وفاته الأسرار الخفية للتقاليد الصوفية.
درويش مالانغي -من مالانغ- هزيل البنية يتمايل عبر حلبة الرقص. وشعره المجعد يلمع بسبب دهنه بالزيت. وحول رقبته تتدلى سلسلة من الورود (الزهور) البلاستيكية الملونة. والعيون الناعسة تجعل الراقص المترنح يبدو وكأنه غائب عن الوعي. وفي يده يحمل قرنًا طويلاً ينفخ فيه أحيانًا. وبجانبه، درويش آخر، يرتدي سترة حمراء بلون زهرة الخشخاش، يهز شعره الطويل على نحو رائع في الهواء.
حركات الرقص تكون مصحوبة بمجموعة من ثلاثة طبالين -من قارعي الطبول- يقرعون على طبول ضخمة بعصي خشبية. في بعض الأحيان على مهل، وأحيانًا على نحو أسرع قليلاً، ثم تتزايد السرعة لتصل إلى مستوى عالٍ من الترددات أشبه بالقذائف. وتسمى هذه الطبول بـ "دهول" dhol ويتم قرعها مساء كل خميس -كل ليلة جمعة- في ضريح جمال شاه بابا، وهو ولي من أولياء الصوفية من القرن السادس عشر، لم تذكر المصادر التاريخية عنه سوى القليل.
يشتهر ضريح جمال شاه بابا بالليالي الصاخبة في الحاضرة التي يبلغ عدد سكانها 14 مليون نسمة. هنا يمكن لنشوة راقصي مالانغ أن تعبر عن نفسها بحرية وبدون أي قيود. في مفهوم الإسلام الشعبي بجنوب آسيا، تصف كلمة "مالانغ" هذا النوع من المتشردين -الصعاليك- الصوفيين الذين لا يخضعون لقوانين المجتمع ويتصرفون بشكل مستهجن من وجهة نظر المتشددين دينيا.
عند الحد الفاصل بين الحرام والحلال
مخالفة الأعراف والقيام بتصرفات تقع عند الحد الفاصل بين الحرام غير المسموح به والحلال المسموح به من بين الأشكال المتكررة في التقاليد الصوفية بين أوروبا وآسيا - سواء بين المجاذيب Meczup، أي "مجانين" العشق الإلهي، في شوارع إسطنبول، أو بين الدراويش الرّحالة في بلاد فارس. وبظهور الطريقة المالامتية، تشكلت في العصور الوسطى الإسلامية حركة صوفية، تعمد أتباعها تعريض أنفسهم لانتقادات الناس ومعاملتهم السيئة؛ بغية جهاد النفس وترويضها، على سبيل المثال من خلال مكوثهم على أعتاب أبواب المساجد في أوقات الصلاة أو شربهم الخمر في الأماكن العامة.
وتعاني باكستان، منذ عدة عقود، من سمعة إشكالية باعتبارها بؤرة للتعصب والإرهاب. ففي الثمانينيات من القرن العشرين، أصبحت البلاد ساحة لتدريب المجاهدين، عندما تم تحت قيادة الدكتاتور العسكري ضياء الحق وبفضل التمويل السخي من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية إعداد المجاهدين بنهج أيديولوجي للقتال ضد السوفييت. وحتى يومنا هذا، ما زالت بذرة الإسلام الأصولي -الذي لا توجد بينه وبين تراث التوافق بين المعتقدات في جنوب آسيا، عناصر مشتركة- تقض مضجع باكستان، وقد ترعرعت هذه البذرة أكثر مع صعود حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان.
في السنوات الأخيرة، جرى استهداف الصوفيين في باكستان بشكل متكرر من قبل المتطرفين العنيفين، سواء عن طريق هجماتهم على الأضرحة أو من خلال عمليات القتل المستهدف، مثل حادث مقتل مطرب القوالي -والقوالي هي إحدى أشكال الموسيقى الدينية الصوفية في جنوب آسيا- أمجد فريد صبري، الذي قُتل بالرصاص في كراتشي في عام 2016 أثناء عودته من مقابلة تلفزيونية. كما قَتل ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية" 90 شخصًا وجرح أكثر من 300 في هجوم على ضريح الولي الصوفي الأيقونة الشهير شهباز قلندر في إقليم السند في عام 2017.
تستهدف هذه الهجمات ثقافة التآلف بين المعتقدات في الشعر والموسيقى والرقص الصوفي، والتي تذهب إلى ما وراء العقائد والقوانين الدينية؛ بهدف تجاوزها إلى تجربة المؤمن المباشرة مع الله. في نظر المتطرفين، فإن تعظيم الأولياء يشبه عبادة الأصنام، وهو من أعظم الذنوب في الإسلام. وبدلاً من ذلك، يفرض أولئك -الذين أعلنوا أنفسهم أوصياء على الإسلام- عقيدة دينية متشددة، كما يدعو إليها الوهابيون في المملكة العربية السعودية، مدفوعة بمليارات البترولار (الدولارات النفطية) التي سممت، إيديولوجياً، الحياة الدينية في العديد من البلدان الإسلامية.
انتشار الإسلام على يد الدعاة الرحالة وأولياء الصوفية
ولكن وإن كان تأثير المتشددين قد زاد بشكل مضطرد على مر السنين، فإن الورع الصوفي متجذر بعمق في الممارسات الدينية للباكستانيين. والفضل يرجع إلى الدعاة الرحالة والأولياء الصوفيين في انتشار الإسلام في شبه القارة الهندية-الباكستانية في العصور الوسطى. شخصياتهم الجذابة المفعمة بالروح الربانية وكذلك الوعد الإسلامي بتساوي البشر جميعا أمام الله اُستقبلت بترحاب في مجتمع مُشكّل بقوة من قبل النظام الطبقي الهندوسي.
في جنوب آسيا، أخذ المسلمون العادات الموجودة في المجتمع وضموها إلى معتقداتهم الخاصة: حيث تم نقل الأساطير الهندوسية والبوذية عن المعجزات إلى أولياء مسلمين، وانتقلت أيضا طقوس مثل تقديم الزهور والقرابين، التي تمارس في المعابد الهندوسية في الهند، لتصبح جزءًا من الإسلام الشعبي.
لا يكاد يوجد أي بلد آخر في المنطقة الجغرافية التي نشير إليها عادة باسم "العالم الإسلامي" يتأثر بشدة بتقاليد الصوفية مثل باكستان، امتدادا من الوديان الجبلية في الهيمالايا في الشمال إلى صحاري بلوشستان، ومن المناطق القبلية البشتونية على الحدود الأفغانية إلى سهول البنجاب المنخفضة: تؤثر الثقافة الشعبية الصوفية بعمق على الحياة الدينية للباكستانيين.
وهذا ينطبق بشكل خاص على لاهور، العاصمة الثقافية لباكستان وأحد المراكز الحضرية الرئيسية الثلاثة في البلاد بجانب مقر الحكومة: إسلام أباد، ومركز القوة الاقتصادية: كراتشي. وتمتلئ حاضرة البنجاب -لاهور- بالأضرحة الصوفية. وهي جزء لا يتجزأ من مشهد ثقافي، يتأثر، مثل دلهي القديمة -الجزء الإسلامي من دلهي الهندية التي تقع على بعد 425 كيلومترًا من لاهور- بالتراث المعماري للإمبراطورية المغولية. وتعني كلمة "بنجاب" "المياه الخمس" وهي مشتقة من الأنهار الخمسة التي تتدفق عبر المنطقة -المقسمة بين باكستان والهند- منذ عام 1947.
وعلى خلفية المشهد السياسي الباكستاني المضطرب، ظهرت الصوفية أيضًا في الماضي مرارًا وتكرارًا. فمثلا هناك العديد من حركات الإسلام السياسي، التي خرجت من عباءة الطرق الصوفية. فقد تزوج رئيس وزراء باكستان السابق، عمران خان، الذي أطيح به عبر تصويت برلماني لحجب الثقة في أبريل / نيسان 2022، من المعلمة الصوفية بشرى بي بي -تُعرف أيضا باسم بشرى مانكا- من باكباتان، قبل فترة وجيزة من توليه منصبه في عام 2018 وبعد سنوات من العكوف على دراسة الإسلام الصوفي.
وتشتهر باكباتان، البلدة الصغيرة في البنجاب، بضريح بابا فريد، أحد أهم الصوفيين فى شبه القارة الهندية-الباكستانية. وينتمي بابا فريد إلى الطريقة الجشتية، وهي جماعة معروفة بترويجها للموسيقى التعبدية كممارسة روحية.
سمعة سيئة كأرض خصبة للتعصب والإرهاب
وبجوار فناء راقصي مالانغ، توجد مقبرة تَجمّع عندها مجموعات صغيرة من الرجال للتحدث في الظلام. دخان ماريوانا مُسَكِرٌ يملأ الهواء. وبعيدًا عن دوي الطبل، في وسط القبور، تُردد فرقة رباعية مكونة من الأرغن والطبلة واثنين من المنشدين ترنيمة كلاسيكية من ذخائر التراث القوالي. ويتم ترديد الترنيمة بمشاعر فياضة، ويتردد صدى الأذكار في سماء الليل وينضم المارة أيضًا مشاركين في ترديد المقاطع التي تُكَرَّر خلال الإنشاد.
قصيدة "ساسون كي مالا بي"، التي خلدها صوت المايسترو القوالي العظيم نصرت فاتح علي خان، هي شاهد على هذه الروحانية المتجاوزة لحدود الأديان والتي تشكّل شوكة في حلق الأصوليين المتشددين. كُتِبت هذه القصيدة في الأصل في القرن الخامس عشر على يد الشاعر الصوفي الهندي ميرابهاي باعتبارها أغنية عشق في حب الإله الهندوسي كريشنا: "مع كل نَفَسٍ أتغنى باسم حبيبي/ أعرف قلبي والرب أعلم بقلب حبيبي./ هذه تحياتي وصلاتي./ عاشق ذهب إلى معبد وآخر إلى مسجد، لكن بالنسبة لي، بانغماسهما في العشق الإلهي، كان كلاهما واحدًا".
يرجع شعر "ميرابهاي" إلى فترة تأثرت بتبادل مثمر بين الصوفيين تحت حكم الهندوس والمسلمين. ونظرًا لتطرف الحياة الدينية في باكستان واضطهاد الأقليات - يُقدَّر عدد الهندوس اليوم بأقل من 2% من الباكستانيين فقط- يبدو أن ذلك العصر الذهبي يبعد عنا سنوات ضوئية.
في الهند أيضًا، أدت سياسات القوميين الهندوس في عهد رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" إلى قمع الموروثات الثقافية الإسلامية بشكل منهجي، بينما يتعين على المسلمين العيش في جو من الخوف من مشاعر العداء أو هجمات الغوغاء أو حتى من تدمير نطاق معيشتهم.
اليوم، لا تستطيع تعاليم الصوفية، التي تهدف إلى تغيير الأنا البشرية، فعل أي شيء ضد الاستقطاب العام في مجتمعات جنوب آسيا. علاوة على ذلك، أدت الرأسمالية وتسييس العديد من الطرق الصوفية إلى إضعاف جوهر الحكمة الأصلي للتعاليم الصوفية.
ولكن يبدو أن هذه مشكلة كانت موجودة بالفعل في العصور الوسطى: ففي وقت مبكر من القرن الحادي عشر، اقتبس الصوفي الفارسي العظيم "علي الهجويري"، الذي يعتبر ولي لاهور الشفيع، أحد أسلافه السابقين في كتابه الكلاسيكي الصوفي "كشف المحجوب" قائلا: "ذات يوم كانت الصوفية واقعا بلا اسم، لكنها اليوم اسم بلا واقع".
ماريان بريمر
ترجمة: صلاح شرارة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023