سوداني: أنا عالق وسط الحرب
منذ أربعة أسابيع (السبت 15 أبريل / نيسان 2023) انخرط الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التابعة لمحمد حمدان دقلو في قتال عنيف. الصراع على السلطة بين الجنرالين دفع إلى موجات هروب ضخمة. فوفقًا للمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، هناك أكثر من 700 ألف شخص داخل البلاد في حالة نزوح، كما فر أكثر من 170 ألف شخص إلى خارج البلاد، ومن بينهم 67 ألف شخص إلى مصر، البلد المجاور.
وقد قامت العديد من الدول الغربية مثل ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة بإجلاء مواطنيها من السودان - وأغلقت سفاراتها في الخرطوم. وكان لذلك عواقب مأساوية من ضمنها: أن داخل مقرات التمثيل الدبلوماسي الأجنبي المهجورة لا يزال هناك المئات، إن لم يكن الآلاف، من جوازات السفر لسودانيين تقدموا بطلبات للحصول على تأشيرة قبل اندلاع الحرب. ولا يمكن للناس مغادرة منطقة النزاع بدون جوازات سفرهم.
هذا هو حال ماهر الفيل، الرجل السوداني البالغ من العمر 40 عاماً، الذي يعمل مديرا لبرنامج بإحدى المنظمات الدولية. في نهاية أبريل / نيسان 2023، غادر الفيل مسقط رأسه مدينة أم درمان في منطقة الخرطوم الكبرى، حيث تدور بعض أشرس المعارك، للفرار عبر الحدود إلى مصر.
لكن بما أن جواز سفره عالق في السفارة الإسبانية، فهو عالق أيضا في وادي حلْفا، وهي بلدة صغيرة على الحدود المصرية تبعد 900 كيلومتر عن شمال الخرطوم. وهنالك الآلاف، مثل ماهر الفيل، منتظرين هناك لمواصلة رحلتهم. وصلنا إلى ماهر الفيل عبر تطبيق واتساب. ويحكي الفيل قصة هروبه لموقع قنطرة - ولماذا يشعر بأن السلطات الأوروبية تخلت عنه.
****************
"الوضع في مدينة الخرطوم وما حولها صعب جدا. فبعد أن بدأت الاشتباكات، كنتُ أسمع أصوات إطلاق النار في الحي الذي أعيش فيه وأرى كيف تستهدف طائرات مقاتلة المنازل. كنت أتحصن في منزلي. ولأيام طويلة لم يكن لدي ماء أو كهرباء وأخذت المعارك في الاقتراب شيئا فشيئا، ويقع الحي الذي أسكن فيه بالقرب من المستشفى العسكري، الذي كان هدفا لقوات الدعم السريع، وسمعت من معارف في أحياء أخرى أن المقاتلين بدأوا في نهب المنازل والمتاجر وطرد المدنيين من منازلهم، وهو ما سبب لي الرعب.
لقد فر العديد من أقاربي وجيراني بمجرد بدء القتال. أنا أعزب لذا شعرت بالوحدة الشديدة بعد ذلك. إنه قرار صعب أن تترك كل شيء وراءك وتتجه نحو المجهول حاملا فقط حقيبة في يدك.
لكنني كنت أعرف أيضاً أنني لن يعود بإمكاني العثور على ما يكفي من الطعام والشراب لفترة طويلة. لذلك قررت الفرار، رغم أنني لم أكن متأكداً مما إذا كانت هذه فكرة جيدة أم لا.
جواز السفر عالق في السفارة الإسبانية
كنت قد تقدمت بطلب للحصول على تأشيرة لدى السفارة الإسبانية في الخرطوم قبل اندلاع الحرب لأنني كنت أريد السفر إلى إسبانيا.
ثم أغلقت السفارة بسبب المعارك الدائرة، وتم إجلاء العاملين والموظفين بها من البلاد ولم أستعِدْ جواز سفري.
وكان علي أن أختار: إما أن أبقى بمفردي في وسط منطقة قتال، أو أن أهرب، على أمل أن أتمكن من الوصول إلى بر أمان بدون جواز سفر. فاخترت الخيار الثاني.
وللوصول إلى الحدود المصرية، كنت بحاجة إلى نقود سائلة، الأمر الذي مثّل مشكلة لأن أموالي موجودة في حسابي المصرفي. وأجهزة الصراف الآلي لم تعد تعمل في المدينة، ولم أستطع سحب أي مبلغ. لديّ تطبيق على هاتفي يسمح لي بالدخول إلى حسابي (أونلاين)، ويمكنني استخدامه لتحويل الأموال أو دفع فواتير الكهرباء الخاصة بي.
ولكن لم ينفعني هذا كثيرا، فبسبب الحرب، أصبح كل شيء مكلفًا جدا ويريد الجميع الآن الحصول على نقود سائلة. ولحسن الحظ، وجدت سائق حافلة كان على استعداد لبيع تذكرة لي، على الرغم من أنني لم أستطع دفع ثمنها إلا عن طريق التحويل المصرفي.
الانتظار في وادي حلفا
تكلفة تذكرة الحافلة تساوي ما يعادل 600 دولار أمريكي [حوالي 550 يورو]، وهذا أكثر من ثلاثة أضعاف السعر المعتاد. وعلى الطريق الطويل باتجاه الشمال، كنتُ محظوظاً مرة أخرى: فقد وافق عامل محطة وقود على إعطائي مبلغاً من المال نقداً نظير أن أسدده له عن طريق تحويل بنكي من حسابي، لذلك كان لدي بعض الأموال النقدية في جيبي.
ركبت الحافلة إلى وادي حلفا. كان الوصول صعباً. توجد قنصلية مصرية في وادي حلفا، ولذلك أتى آلاف الأشخاص إلى هنا لتقديم طلبات للحصول على تأشيرات دخول الأراضي المصرية. تكتظ المدينة بالناس الذين فر معظمهم من الخرطوم. والفنادق محجوزة بالكامل، وينام كثير من الناس بالخارج.
في ليلتي الأولى وجدت مكاناً للنوم في مدرسة تم تحويلها إلى مخيم للنازحين داخلياً. وفي الليلة التالية نمتُ في مسجد. وفي تلك الأثناء وجدت غرفة يمكنني استئجارها في بادئ الأمر.
كل شيء مكلف للغاية والمدينة الصغيرة ليست مهيئة لاستقبال هذا العدد الكبير من الناس، ولا توجد أماكن إقامة ولا مواد غذائية كافية. لقد انهارت إمدادات المياه، وازداد الحمل على شبكة الهاتف المحمول، لكنني على الأقل آمن هنا. عندما استيقظتُ بعد ليلتي الأولى، شعرتُ بالارتياح لعدم سماع أصوات انفجارات.
استفسرتُ على الفور عن كيفية التقدم للحصول على تأشيرة. في القنصلية المصرية، قيل لي إن هناك أكثر من 3000 جواز سفر مسجل على قائمة الانتظار للحصول على تأشيرة.
وقد خففت السلطات المصرية من شروط الدخول لبعض الفئات من الناس. إذ يُسمح للنساء بعبور الحدود بدون تأشيرة، كما يُسمح هذا أيضاً للأطفال حتى سن 16 عاماً والرجال فوق 50 عاماً. أما الرجال في سني فيحتاجون إلى تأشيرة.
وقد أصدرت السلطات السودانية لي وثيقة طوارئ، واكتفَتْ من أجل ذلك بالحصول على صورة من جواز سفري. لكن المصريين لم يسمحوا لي بالمرور بها. وعندما عرضت وثيقتي على المسؤول المصري، طلب جواز سفري. شرحت له أن جواز السفر كان في السفارة الإسبانية بالخرطوم وبسبب الحرب لم يكن لدي أي إمكانية لاستعادته.
الموظف يقول "اللي بعده لو سمحت"
أجاب الموظف: إذن لا يمكننا إصدار تأشيرة لك. أردت أن أوضح له أن منظمتي لديها مكتب في القاهرة وبإمكاني العمل هناك. لكن الضابط حتى لم يستمع إليّ واكتفى بقوله: "لا يمكننا إصدار تأشيرة لك، شكراً جزيلاً، اللي بعده لو سمحت".
عندما بدأت المعارك في الخرطوم، اعتقدتُ أن الأمر سيمر بسرعة، وأنه سيمكننا بالتأكيد العودة قريبًا إلى الوضع الطبيعي. لكن عندما سمعت أن السفارات الأجنبية كانت تسحب موظفيها، أدركت أن ما كنت أفكر فيه هو محض أمنيات. اتصلت على الفور بالسفارة الإسبانية لمعرفة ما حدث لجواز سفري. وظللتُ أتصل لكني لم أستطع الوصول إلى أي شخص. لقد أرسلتُ العشرات من رسائل البريد الإلكتروني إلى الموظفين، ولكني لم أتلقَّ أي رد.
هناك شائعات بأن بعض موظفي السفارة أتلفوا الوثائق التي كانت لا تزال في السفارة قبل إجلائهم. لذلك لا أعرف ما إذا كان جواز سفري لا يزال موجوداً، شأني في ذلك شأن كثير من السودانيين الذين تقدموا قبل اندلاع الحرب بطلبات للحصول على تأشيرة إلى السويد أو هولندا أو إسبانيا. والسلطات الأوروبية لا تتحمل أي مسؤولية، إنها لا تستجيب لطلباتنا بل تتجاهلنا. كان من الممكن إعادة جوازات السفر.
موظفو السفارة الصينية، على سبيل المثال، اتصلوا بالمتقدمين وأعادوا إليهم وثائقهم قبل مغادرتهم مدينة الخرطوم. في المقابل تقول السلطات الإسبانية إنه ليس بوسعها فعل شيء وإنه يجب علينا التقدم للحصول على جواز سفر جديد من السلطات السودانية. وكأن أي شخص يستطيع إصدار جواز سفر وسط هذه الفوضى! أنا غاضب ومحبط. أنا عالق وسط منطقة حرب ولا توجد إمكانية للخروج من هنا.
إن الحق في حرية التنقل هو حق من حقوق الإنسان والسلطات الإسبانية تنكره عليّ. أخذوا موظفيهم ومواطنيهم إلى بر الأمان وأهملونا. هذا أمر بغيض ومهين.
"لا أستطيع العودة"
في الأيام القليلة الماضية حاولت كل شيء لدخول مصر. اتصلتُ بأصدقائي في القاهرة، وتحدثتُ مع مسؤولين مصريين، حتى أنني اتصلت بالسفير المصري. ولكنه يقول إنه لا يستطيع فعل أي شيء. وتقول السلطات السودانية في وادي حلفا إنها حاولت إيجاد حل مع المصريين لأناس مثلي، لكن دون جدوى. أنا عالق وسط الحرب. ولا أستطيع العودة.
التقارير التي تصلني من معارفي في الخرطوم سوداوية. فهم يقولون إن القتال يتصاعد مع نهب المسلحين منزلًا بعد آخر، وأجزاء كثيرة من المدينة بدون كهرباء أو مياه، والطعام ينفد. أي شخص لا يزال في الخرطوم يخاطر بكل شيء.
أفكر فيما سيحدث لي طوال الوقت. أعيش على مدخراتي، لكن ماذا أفعل عندما تنفد (هذه المدخرات)؟ أحيانًا يهيأ لي بأنني أسمع أصوات طلقات نارية. العنف الذي عشته يطاردني حتى هنا في وادي حلفا. سأحتاج إلى مساعدة لأستوعب كل هذا. لكن قبل أن أتمكن من الاهتمام بصحتي العقلية، يجب أن أعرف كيف سيمضي الأمر. المستقبل يخيفني.
سمعت اليوم أن جنوب السودان يسمح للاجئين السودانيين بالدخول بدون جواز سفر. يجب أن أتحقق مما إذا كان هذا الأمر صحيحاً. أنا هنا في أقصى شمال السودان والطريق طويل نحو الجنوب. ولكن إذا كان هذا صحيحاً فسوف أخاطر وأحاول عبور الحدود. ثم انتظر حتى ينتهي الجنون في بلدي".
حاورته: أندريا باكهاوس
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023