اتكال الجزائر على اندفاع أوروبا نحو تأمين الغاز
تشكّل الحكومة الإيطالية اليمينية المتطرّفة، بقيادة رئيسة الوزراء جورجا ميلوني، مع النظام السلطوي الجزائري في ظل الرئيس عبد المجيد تبون ورئيس أركان الجيش سعيد شنقريحة، محوراً جديداً. فزيارة ميلوني المتوقّعة، والتي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، للجزائر في كانون الثاني/يناير 2023 يمكنها بالفعل تمهيد الطريق أمام تعميق كبير للعلاقات بين الدولتين.
بيد أنه من غير المؤكّد ما إن كان هذا سيؤدي حقاً إلى مكاسب طويلة الأمد للشعبين الإيطالي والجزائري، كما أشارت ميلوني في خطابها المنمّق قبل وأثناء أول رحلة خارجية ثنائية لها منذ توليها المنصب.
وكانت ميلوني قد ذكرت لأول مرة ما يُسمّى "خطة ماتي" لأفريقيا خلال خطاب تنصيبها رئيسة للوزراء. ووفقاً لميلوني، من حزب "إخوة إيطاليا"، يمكن لهذه الخطة أن تصبح "نموذجاً فاضلاً للتعاون والنمو بين الاتحاد الأوروبي والدول الأفريقية". ومنذ زيارتها إلى الجزائر، والمحادثات الأخيرة التي أجراها مسؤولون إيطاليون في مصر وتونس وليبيا، أصبح من الواضح، نوعاً ما، ما الذي كان يعنيه هذا الاقتراح المبهم في البداية: التوسّع الجاد في تعاون إيطاليا مع جيرانها في الجنوب في مجال الطاقة.
تسعى روما الآن إلى أن تلعب دوراً رئيسياً في استيراد الغاز إلى الاتحاد الأوروبي من ليبيا ومصر ولا سيما من الجزائر، وذلك نتيجة محاولات أوروبا أن تصبح أقل اعتماداً على إمدادات الغاز الروسية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
الحملة الدبلوماسية الإيطالية في الجزائر
قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت روسيا تمدُّ إيطاليا بنحو 40% من احتياجاتها للغاز. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الجزائر المورّد الأول للطاقة إلى إيطاليا، مع تدفُّق أكثر من 20 مليار متر مكعب من الغاز من الجزائر إلى إيطاليا في عام 2022. وهذا يشكّل أكثر من ضعف الكمية المتدفّقة في العام السابق (2021).
وإنْ تمكّنت ميلوني ورئيس شركة الطاقة الإيطالية المتعدّدة الجنسيات إيني (ENI)، كلاوديو ديسكالزي، من فعل ما يرغبان به، فقد يرتفع هذا الرقم إلى أكثر من 36 مليار متر مكعب في السنوات القادمة.
وكجزء من رحلتها إلى الجزائر، قامت ميلوني بزيارة رمزية إلى حديقة تحمل اسم مؤسس شركة (ENI)، إنريكو ماتي، بالقرب من وسط الجزائر العاصمة، بينما رئيس إيني، ديسكالزي، الذي وصفته قناة فرانس أربعة وعشرون France 24 بأنّه "المهندس الرئيسي لانتقال إيطاليا الحالي من الغاز الروسي إلى الغاز الجزائري" والذي سافر مع ميلوني إلى الجزائر، وقّع اتفاقيتين "استراتيجيتين" لإنتاج الغاز مع توفيق حكار، مدير شركة الطاقة الجزائرية، سوناطراك، التي تملكها الدولة.
وعلى الرغم من أنّ ميلوني تحب أن تقدّم نفسها بوصفها القوة الدافعة وراء تعزيز المحور الجزائري-الإيطالي، إلا أنّ اندفاع إيطاليا نحو غاز الجزائر كان قد بدأه سلفها ماريو دراغي. فقد اتُّفِق على مضاعفة شحنات الغاز من الجزائر في عام 2022 حين كان لا يزال في منصبه. وميلوني الآن تقوم بخطوة أخرى. كما أنها تنوي تحويل إيطاليا إلى مركز توزيع لإمداد وسط أوروبا بالغاز، وستكون رسوم العبور إلى الشمال موضع ترحيب كبير في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة في إيطاليا. ولبلوغ هذا الهدف، لن تُستنفَد قدرات خطوط الأنابيب الحالية وتُوسَّع فحسب، بل ستتطور كذلك صناعة الغاز المسال في إيطاليا بشكل كبير. وتتفاوض روما بالفعل حول إمدادات إضافية من الغاز المسال من دول مثل مصر.
تسعى الجزائر كذلك لتكون مركزاً للغاز
في الوقت ذاته، استُقبِلت الخطط الإيطالية لسياسة الطاقة بترحاب كبير في العاصمة الجزائرية. قال السفير الجزائري في روما، عبد الكريم طواهرية، لصحيفة "المساغيرو" الإيطالية قبيل رحلة ميلوني إلى الجزائر: "نريد أن تصبح إيطاليا مركزاً أوروبياً للغاز الجزائري، مركزاً لدول الاتحاد الأوروبي الأخرى".
تتطلّع الجزائر العاصمة إلى توسيع مكانتها كمورّد للغاز، وأن تصبح في الوقت ذاته بلد عبور للغاز من غرب أفريقيا. وتحقيقاً لذلك، أي من أجل تحويل الجزائر إلى مركز عبور للهيدروكربونات مثل إيطاليا، تسعى الآن لإحياء مشروع خط أنابيب الغاز بطول 4200 كم من نيجيريا إلى ساحل البحر المتوسط في الجزائر. وهو مشروع قُدِّم لأول مرة للجمهور في عام 2009 لكنه أُهمِل لسنوات.
وستكون رسوم العبور الناتجة عن مشروع كهذا موضع ترحيب كبير في الجزائر كذلك. فهي عالقة في أزمة اقتصادية منذ انهيار أسعار السوق العالمية للغاز وللنفط الخام بين عامي 2014 و2020. مما أجبر الجزائر على إنفاق جزء كبير من احتياطاتها من العملة الصعبة، بينما هناك عجز حاد في الميزانية.
ولم يتبلور الاستثمار في قطاع الطاقة، ويعود ذلك جزئياً إلى سياسة الحماية الاقتصادية (الحمائية) التي اتّبعتها الجزائر العاصمة في العقد الماضي، والتي ثبَّطت بشكل كبير الاستثمار الأجنبي في قطاع الطاقة. إضافة إلى ذلك، تُعتبر البنية التحتية للصناعة قديمة وبحاجة للتحديث، بينما تنتظر حقول النفط والغاز الجديدة التطوير.
وهذا من الأسباب التي جعلت الجزائر غير قادرة على التدخُّل بسرعة واستبدال الصادرات الروسية إلى أوروبا بعد غزو روسيا لأوكرانيا. ولم تكن مضاعفة الشحنات إلى إيطاليا ممكنة إلا لأنّ الجزائر أوقفت شحناتها من الغاز إلى إسبانيا بعد انحياز مدريد إلى جانب القوة المحتلة في النزاع على الصحراء الغربية التي يسيطر عليها و"يحتلّها" المغرب، وهي إهانة غير مقبولة للجزائر. ومنذ ذلك الحين، أُغلِق خطا أنابيب غاز يربطان شبكة التوزيع الجزائرية بإسبانيا.
من شأن الجزائر الاستفادة اقتصادياً وجيوسياسياً من حرب أوكرانيا عبر تقديم نفسها كبديل لروسيا. ولا تأمل الجزائر العاصمة في الحصول على عائدات نفط إضافية فحسب، بل تأمل في أن تصبح واحدة من موردي الطاقة الأساسيين إلى الاتحاد الأوروبي. وهذا سيمنح السلطات الجزائرية نفوذاً فعالاً في أي خلافات مستقبلية مع أوروبا.
كما توجد خطط للتعاون مع الشركات الأمريكية في قطاع الغاز الصخري، على الرغم من القمع الشديد من جانب السلطات الجزائرية ضد المتظاهرين المناهضين للغاز الصخري في جنوب البلاد. ولسنوات عديدة، لم تكن الشركات الأمريكية ترغب في الاستثمار في قطاع النفط والغاز المحفوف بالمخاطر في المنطقة، مفضِّلة التركيز على صناعة الغاز الصخري المزدهرة في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن الآن بدأت الشركات عبر المحيط الأطلسي بالعودة إلى الأسواق، في الجزائر وغيرها من الأماكن.
وكما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال في شباط/فبراير 2023 فمن المقرّر أن تُبرِم شركة شيفرون الأمريكية العملاقة في مجال الطاقة صفقة تنقيب جديدة مع الجزائر في قطاع الغاز الصخري، بينما اشترت شركة أوكسيدنتال الأمريكية حصصاً في مشروع غاز تقليدي في جنوب الجزائر في عام 2022.
الاقتصاد الريعي - عائق هيكلي
لا تراهن الجزائر على قطاع الطاقة فحسب، بل تسعى للحصول على عائدات جديدة من تصدير السلع والمواد الخام، وتعمل أيضاً على توسيع قدراتها الإنتاجية بشكل كبير من الرخام والزنك والذهب والفوسفات. وفي عام 2022، وقّع مسؤولون جزائريون وصينيون على مشروع استخراج الفوسفات بقيمة تقدّر بسبعة مليارات دولار أمريكي. والصفقة هي الأكبر على الإطلاق في قطاع التعدين وإنتاج الأسمدة في الجزائر ومن المتوقّع زيادة الإنتاج من ثلاثة ملايين طن من الفوسفات حالياً إلى ستة ملايين طن سنوياً.
وعبر توسيع صناعة الغاز وتكثيف استغلال المواد الخام الأخرى، من المرجح أن تحقق الحكومة الجزائرية، عاجلاً أم آجلاً، إيرادات إضافية كبيرة. وهذا سيسمح للنظام السلطوي بزيادة إنفاقه الاجتماعي ودعمه للغذاء، كما حدث في العقد الأول من القرن الحالي في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي أطاح به حراك الجزائر في عام 2019، وبالتالي، مرة أخرى، سيتمكن من شراء سلام اجتماعي هش.
لن يقدّم هذا النهج الريعي الكثير لمواجهة نقاط الضعف الهيكلية للاقتصاد الجزائري أو البطالة المتفشية في البلاد. ومما لا شكّ فيه، أنّ السياسات الجزائرية المؤيدة للإيرادات تعمل على استقرار الاقتصاد الكلي، لكنها ستعزّز دور السكان بوصفهم متوسّلين فقط، يعتمدون من أجل البقاء على مبادرات السياسة الاجتماعية التي ينظّمها النظام. إذ أنّ خطط النظام الحالية تتناقض بشكل كبير مع السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى خلق فرص عمل.
وفي الوقت ذاته، يدرك النظام جيداً تأثيره المتزايد في أوروبا فيما يتعلق بأمن الطاقة، وبالتالي ليس لديه ما يخشاه من حيث أي انتقادات أوروبية كبيرة لانتهاكاته لحقوق الإنسان. وقد أدّى حلّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان (LADDH)، وجمعية الشباب راج (RAJ) والحزب المعارض "حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية" MDS، بالإضافة إلى سجن الصحفي والناقد الحكومي إحسان القاضي، إلى جعل آفاق أوضاع حقوق الإنسان في الجزائر قاتمة إلى حدٍّ ما.
سفيان فيليب نصر
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023