الإفقار يولّد الحرب الاجتماعية في تونس
هناك إجماع في تونس أن البلاد تعيش على نسق الهزات الأرضية الخفيفة التي تنذر بالزلزال الكبير، أو الحرب الاجتماعية، من جرّاء قانون المالية (موازنة الدولة لسنة 2018)، وخوف الشباب التونسي من البطالة طويلة الأمد التي يعيش فيها منذ عقد ونيف، وفقدان الثقة في كل الطبقة السياسية الحاكمة، وفي وعود الحكومات المتعاقبة ما بعد سنة 2011، وصولاً إلى التشكيك وفي قدرة المسؤولين على حلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والشعور المنتشِر في كلّ مكان بأنّ "النظام" لم يعُد قادرًا على الاستجابة لحاجات الشعب التونسي وطموحاته.
تلك هي الأسباب الحقيقية للاحتجاجات الشعبية التي تشهدها البلاد في أحزمة الفقر المحيطة بالعاصمة، وفي مدن داخلية عديدة تعيش حالة من التهميش التاريخي وانعدام مشاريع التنمية، وزيادة الإفقار، علاوة على الزيادات الأخيرة في أسعار مواد عديدة، بما في ذلك أسعار المحروقات، ما أدّى إلى تدهور مستوى المعيشة لملايين التونسيين الذين باتوا يخصّصون، بسبب فقرهم، القسم الأكبر من مداخيلهم لتأمين الغذاء، إضافة إلى إجراءات جبائية أقرّها قانونا المالية والميزانية لسنة 2018، تهدف إلى تعبئة ملياري دينار تم توظيفها على كاهل المواطن، حيث كرّست الحكومة الحالية من خلال هذين القانونين، سياسة تفقير الشعب، وتدمير الاقتصاد، والاضطهاد الاجتماعي.
المعركة الحقيقية في أوساط الطبقات الشعبية الفقيرة
وإذا كانت الطبقة السياسية الحاكمة في تونس تعتقد أنّها في منأى، إذا اعتبرت أن هذه الاحتجاجات الاجتماعية العنيفة لن تتحوّل إلى ثورة، فقد آن الأوان لإعادة النظر في طريقة تفكيرها، لا سيما حين اعتقد الائتلاف الحاكم المتكون من حزبي نداء تونس والنهضة، أنه حقق انتصارًا في مجلس النواب، بإقراره قانون المالية لسنة 2018، متجاهلاً أن المعركة الحقيقية لتطبيق قانون المالية ليست البرلمان، ولكن في أوساط الطبقات الشعبية الفقيرة التي تعيش في أحزمة المدن الكبرى، والمحافظات الداخلية الفقيرة.
تحوّل البطالة الواسعة النطاق التي تضرب فئة الشباب التونسي، لا سيما من حملة الشهادات الجامعية، إلى حقيقةٍ واقِعة، واندلاع "انتفاضات الجوع" التي تشهدها تونس من وقت إلى آخر، لا سيما في الوقت الحاضر، ليسا سوى إحدى نتائج الفوضى الاقتصادية التي ظهرت من جرّاء اندماج الاقتصاد التونسي في نظام العولمة الليبرالية، وخضوعه لوصفات (وشروط) المؤسسات الدولية المانحة، المتمثلة بتطبيق برنامج للإصلاح والتكيف الهيكلي العزيز لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والذي جوهره الليبرالية الاقتصادية الجديدة.
ففي تونس، شهدت عدة مناطق حركات اجتماعية اتّسمت بالعنف، وصُوّرت غالباً على أنّها ذات طابع تخريبي، لكن لهذه الانتفاضات طابعاً اقتصاديّاً، ينبعث من هيمنة الشعور بالظلم، علمًا أن أحزاب المعارضة التونسية، لا سيما الجبهة الشعبية، أكدت على لسان ناطقها الرسمي حمه الهمامي: "حركة الاحتجاجات ضد الزيادة في الأداءات، وفي أسعار بعض المواد والخدمات التي أقرّها قانون المالية، مشروعة"، معتبراً أن بعض الانحرافات وعمليات النهب التي رافقت هذه الاحتجاجات في مناطق متاخمة للعاصمة "ليست سوى محاولات لتشويه هذه التحركات الاحتجاجية السلمية ولتغيير مسارها".
ضرورة رفض مراجعة اتفاقيات التبادل الحرّ مع الاتحاد الأوروبي
ومع ذلك، أعادت كل الحكومات المتعاقبة بعد سنة 2011 إنتاج النظام السابق في مجمل خياراته الاقتصادية والاجتماعية، ولكن بصورة غاية في السوء، وهي الخيارات نفسها التي أسهمت في تقويض النظام السابق.
ومع ذلك، عملت كل الحكومات ما بعد الثورة على المحافظة على منوال التنمية القديم نفسه، الذي أثبت إفلاسه التاريخي، بشهادة المؤسسات الدولية المانحة، وعبر المصادقة على القانون الأساسي للبنك المركزي التونسي الذي بمقتضاه تخلى عن حماية العملة الوطنية (الدينار التونسي)، الذي فقد قيمته أمام العملات الأجنبية، لا سيما اليورو والدولار، بسبب رفض مراجعة اتفاقيات التبادل الحرّ مع الاتحاد الأوروبي التي تقف وراء إغراق السوق التونسية بالمنتوجات الأجنبية، الأمر الذي أدّى إلى ضرب كل قطاعات الإنتاج وإفلاس المؤسسات وتدمير مواطن الشغل.
كل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية من تفاقم العجز التجاري الذي تجاوز في سنة 2017 عتبة 25 مليار دينار، وهو العجز الحقيقي الذي ترفض الحكومة الإقرار به، إلى ارتفاع نسبة التضخم بنحو 6.3% خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، إلى تراجع القدرة الشرائية للمواطن التونسي بأكثر من 42% خلال السنوات الأخيرة، في ظل انخفاض معدلات النمو
"تفاقمت نسبة الفقر الشديد من 15% في أواخر سنة 2009 من مجمل السكان إلى نسبة 30% في الوقت الحاض" الاقتصادي، فضلاً عن تراجع قيمة الدينار التونسي الذي له تأثير مباشر وخطير على معيشة المواطن، إذ إنّ حوالى 70% من واردات تونس استهلاكية، وكذلك على النسيج الصناعي الذي يخسر شهرياً 1% من قدرته الإنتاجية، إضافة إلى الضغط الجبائي.
بروز "الفقراء الجدد"
تقدّم كل هذه المؤشرات اليوم صورة مفزعة تؤدي إلى انخرام (اختلال) كلي في المالية العمومية، والاقتصاد الكلي والجزئي، والإنتاج والاستهلاك والاستثمار، فضلاً عن أنّ 26% من ميزانية الدولة متأتية من الاقتراض من الخارج، وذلك منذ سنة 2011، وأنّ 16 مليار دينار تونسي، أي نحو 6.6 مليارات دولار، من جملة 22 مليار دينار، أي ما يعادل 9.1 مليارات دولار، التي تجمعها الدولة من الضرائب، تذهب إلى الأجور وثلاثة مليارات دينار تخصص للدعم.
تآكلت، في الوقت الحاضر، الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى، وفقدت موقعها الاجتماعي، لتتدحرج إلى فئة الفقراء، نتيجة التحولات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية، في ظل نسق تصاعد لارتفاع الأسعار، في مقابل سياسة تأجير شبه جامدة، ما أدى إلى بروز "ظاهرة الفقراء الجدد" بعدما تدهورت المقدرة الشرائية لتلك الشرائح بشكل حاد.
وحسب معطيات المعهد الوطني للإحصاء، تفاقمت نسبة الفقر الشديد من 15% في أواخر سنة 2009 من مجمل السكان إلى نسبة 30% في الوقت الحاضر، حسب المسوحات الميدانية لمصالح وزارة الشؤون الاجتماعية، فأصبحت نسبة الفقر اليوم تشمل أكثر من مليوني تونسي صاروا تحت خط الفقر، بحسب المعايير الوطنية والدولية. ويعانون بالتالي صعوبة في التغذية، ونقص مداخيلهم، ما ألجأهم إلى التداين المفرط لتلبية أبسط مقومات العيش.
توفيق المديني
حقوق النشر: قنطرة 2018
توفيق المديني كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة