فنانون ومثقفون أتراك في المنفى
"الإساءة السياسية تشبه العنف المنزلي إلى حد كبير. فهي تخلق الخوف والشفقة على الذات ولديها الإمكانية على جرّك إلى مكان مظلم للغاية. أردت قتل نفسي. كرهت الحياة. شعرت أنني لا أملك أي فرصة للمضي قدماً … كنت في حاجة ماسة إلى شخص يخبرني بما ينبغي عليه فعله".
بهذه الكلمات المؤثّرة تصف الممثلة المولودة في تركيا بينار أوغون، التي تعيش حالياً في المنفى في المملكة المتحدة، في برنامج CreativeMornings talks على موقع يوتيوب ما يعنيه أن تكون مضّطهداً سياسياً. ومثل العديد من الآخرين في المجال الإبداعي، فرّت أوغون إلى المنفى الأوروبي بسبب التحقيقات والقضايا المرهقة التي تلت احتجاجات حديقة غيزي.
ومثل أوغون خرج العديد من الفنانين تضامناً مع مجموعة كبيرة من الفئات الاجتماعية خلال احتجاجات حديقة غيزي عام 2013 ضد السياسات السلطوية لحزب العدالة والتنمية، الذي كان في السلطة لمدة 11 عاماً في ذلك الوقت. وقد حكمت المحكمة الجنائية العليا في إسطنبول على العديد منهم بالسجن في نيسان/أبريل 2022. وتُعتبر المحاكمة، التي جمعت بين تهم محاكمة غيزي وتهم محاولة الانقلاب في 15 تموز/يوليو 2016، تعسفية حتى يومنا هذا.
حُكِم على الناشط في الحقوق المدنية ورجل الأعمال وراعي الفن عثمان كافالا، المسجون من دون دليل منذ عام 2017، بالسجن المؤبد. كما حكم على 7 آخرين بالسجن 18 عاماً لكل منهم. وكان من بينهم المنتجة السينمائية تشيدَم ماطير، والمعمارية موجيلا يابجي التي تبلغ من العمر72 عاماً، ومحامي حقوق الإنسان جان أطلاي. وخلال وجوده في السجن انتُخِب أطلاي لتمثيل ولاية هاتاي في البرلمان في أيار/مايو 2023، على الرغم من أنه لا يزال في السجن. وقد اتُّهِموا جميعهم بتنظيم احتجاجات بهدف الإطاحة بالحكومة.
"هذه المحاكمة بمثابة صدمة"
ومع حلول الذكرى السنوية العاشرة لاحتجاجات حديقة غيزي مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية، تستخدم بينار أوغون قنواتها على وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم تقارير من منفاها في إنكلترا، حيث تعيش ولا تزال تعمل كممثلة، ولمشاركة خيبة أملها وغضبها وعجزها. القنوات هي رابطها مع وطنها. في الحكم الصادر في نيسان/أبريل 2022، كتبت: "هذه المحاكمة بمثابة صدمة. ألم عميق في داخلي. إلى كل أولئك الذين يرون هذا التعذيب وينأون بأنفسهم ويقطعون العلاقات ولا يبالون أو يفضّلون النسيان، أقدم يديَّ مملوءتين بالدموع".
وكذلك بالنسبة للممثل محمد علي ألابورا، الذين انتقل أيضاً إلى إنكلترا، أصبح الإنترنت عبارة عن موطن افتراضي له. فصورة بورا -كما يُعرَف- يداً بيد مع زملائه الممثلين، واحدة من رموز احتجاجات غيزي. والآن يواجه عقوبة بالسجن مدى الحياة في تركيا. وقال ألابورا -في مقابلة- إنّ الحكم صدمه، لكنه في الوقت ذاته أطلق قوة بداخله. وهو يدير اليوم منصة bak@، والتي تقوم بحملات من أجل إعادة التفكير المجتمعي، وتنظم برنامجاً ثقافياً شاملاً عبر الإنترنت عبر gatherin.life@، وتربط الأشخاص من أصل تركي من جميع أنحاء العالم عبر istanbulelsewhere@.
"أصبحت حياتي أكثر عبثية من المسرحية التي كتبتها"
تتعلق إحدى التهم الموجهة ضد أوغون وبورا بمشاركتهما في مسرحية "مي مينور"، التي كتبتها مِلتم آريكان. وهي أيضاً في إنكلترا منذ عام 2013. تقول: "أصبحت حياتي أكثر عبثية من المسرحية التي كتبتها". وكانت قد كتبت المسرحية عامين قبل الاحتجاجات، من دون أي رسالة محدّدة أو نية لانتقاد البلد، كما تقول. ولكن رئيس بلدية أنقرة في ذلك الوقت، مليح غوكتشك، أثار المشاعر المحلية ضدها. وحين أصبح الأمر لا يطاق وشعرت أنّ حياتها في خطر، غادرت البلد بين ليلة وضحاها.
هجرة أدمغة مكثّفة
إنّ الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، والانهيار شبه الكامل لسيادة القانون، والوضع الاقتصادي المتردي في البلد، ولا سيما منذ محاولة الانقلاب في عام 2016، لا تدفع الأشخاص المضطهدين سياسياً فحسب إلى مغادرة البلد. إذ أنه وفقاً لمعهد الإحصاء التركي TÜİK، تشهد تركيا الآن أكبر هجرة للعقول في السنوات الأخيرة. تقول إحصائية المعهد إنّ 140 ألف مواطن غادروا البلاد في عام 2022، أي ضعف عدد الذين غادروها في عام 2016.
وتقول المنظمة الدولية للهجرة إنّ المعماريين والمهندسين والأكاديميين والعاملين في مجال الصحة هم الذين يغادرون في المقام الأول. إذ غادر أكثر من 1400 طبيب البلد في عام 2021، أي أكثر بـ 27 مرة من أعداد الأطباء المغادرين قبل عقد من الزمن. في آذار/مارس 2022، ردّ الرئيس التركي رجب الطيب إردوغان بهذه الكلمات: "دعوهم يذهبون. نحن أيضاً نوظّف أطبائنا الحديثي التخرّج هنا". وقد أثارت كلماته غضباً كبيراً.
"اخترت نفسي"
تقول آريكان: "توقفت عن متابعة ما يجري في تركيا. لا أستمع إلى الموسيقى التركية، لا أقرأ الكتب التركية ولا أشاهد الأخبار". وتتابع: "لا أقول ذلك لأنني اعتبره أمراً عظيماً. لكن على المرء أن يضمن عدم إصابته بالجنون. إنْ كنتَ وحيداً في بلد ما فعليك القيام بخيار. وأنا اِخترتُ نفسي".
تقول إنها منذ جاءت إلى إنكلترا أصبحت امرأة مختلفة وهي ممتنة لذلك. منذ اكتشاف إصابتها بالتوحّد ركّزت على تعلّم المزيد عن التنوّع العصبي والعمل كمعالجة في المقام الأول. وتقول إنها لا تحمل ضغينة تجاه أي أحد. وبالنظر إلى تركيا من الخارج لا تشعر لا بأمل ولا بخيبة أمل.
"علينا أن نتعلم كيف يفهم بعضُنا بعضاً"
تقول الكاتبة إيجه تيميلكوران -في مقابلة- إنّه من المتوقع في كثير من الأحيان مشاركة الأشخاص ذوي الأصول التركية الذين يقيمون في الخارج في نوع من "مهاجمة تركيا". انتقلت المفكرة السياسية إلى زغرب في أواخر عام 2016 ومن ثم إلى برلين في عام 2023. وهي ترفض مصطلح "المنفى" لأنه، كما تقول، "الأشخاص الذين يعيشون في دول ذات أنظمة سلطوية يعيشون أيضاً حياتهم في المنفى". ترى تيميلكوران أنّ المشكلة أكثر جوهرية وأكثر شمولاً وتهتم في عملها بتطوّر الفاشية والرأسمالية، اللذين لا يعرفان الحدود الوطنية.
ومن أجل أن يتمكنوا من مواصلة حياتهم وعملهم، فقد اتّخذ الصحفيون مثل جان دوندار -والأكاديميون أو الكتّاب في المنفى مثل آصلي إردوغان وبربروس آلتوغ أو الكاتبة الكردية ميرال شيمشك- من برلين وطناً ثانياً لهم. فمن برلين أصبحوا صوتاً مهماً لتركيا أكثر ديمقراطية في عالم أكثر ديمقراطية.
تقول مِلتم آريكان: "إلى أن نتعلم كيف يفهم بعضنا البعض لن يتغير مصير تركيا. يغيب عن بالنا الإنسان. وبدلاً من ذلك لا نرى سوى أيديولوجيات وفلسفات وَ: صح وخطأ". تقول إنّ البعد قد طوّر وجهة نظرها في هذا الأمر. كما أنّ لديها تصوّراً مختلفاً عن "ذاتها القديمة". تضيف: "فقط حين يتحرر الناس من الإيديولوجيات، وعندما تأتي الحياة في المقام الأول بالنسبة لهم، ويمنحون الأفراد الفرصة ليكونوا أكثر على طبيعتهم ويتقبل بعضهم البعض يمكن أن يتغير شيء ما"، مضيفة أنها لا تملك أي رغبة في العودة إلى تركيا.
جيداء نورتش
حقوق النشر والترجمة: موقع قنطرة 2023