غزة - "لا فظائع تبرر اقتراف فظائع أخرى"
أُعلن في بداية كانون الأوَّل/ديسمبر 2024 أنَّ مقاتلي حماس قد استخدموا العنف الجنسي بشكل ممنهج في هجوم السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. خبيرة القانون الدولي هايدي ماثيوز ترى أنه لا بد من تبيُّن هذه الجرائم بمثابرة وإصرار، خاصةً وأنَّ هذه الاتهامات تُستخدم في الوقت نفسه أيضًا كمبرِّر للردّ الإسرائيلي غير المتناسب في قطاع غزة.
******
بدأ في مطلع شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2023 ظهور تقارير متزايدة حول ارتكاب حماس أعمال عنف جنسي ممنهجة في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023. وقد كتبتِ حينها في تغريدة على موقع إكس: "هل يمثِّل العنف الجنسي في زمن الحرب جريمة فظيعة؟ نعم، ومن دون أدنى شكّ. ولكن ’الاستثناء الجنسي‘ يُستخدم وبشكل تقليدي أيضًا من أجل حشد الدعم لحملات عسكرية". فماذا تقصدين بـ"الاستثناء الجنسي"؟
هايدي ماثيوز: "الاستثناء الجنسي" بالنسبة لي هو فكرة تفيد بأنَّ العنف عندما يختلط مع الجنس يصبح أسوأ ويستدعي اتخاذ إجراءات مشدَّدة أكثر. والباحثون المختصُّون ينتقدون مفهوم النسوية العقابية هذا ويشكِّكون فيه...
النسوية العقابية مصطلح يشير بدوره إلى نزعة نسوية تؤمن بسلطة الدولة الجزائية وتطالب بفرض أحكام سجن أطول [كحلول للعنف الجنسي] بدلًا من معالجة عدم المساواة الهيكلية...
هايدي ماثيوز: نحن -بمن فينا من باحثين وباحثات نسويين انتقاديين ومنظرين ومنظرات غير مألوفين- ننظر إلى ذلك نظرة متشكِّكة جدًا. ونحن نعلم أنَّ تشديد العقوبات بشكل عام ليس حلًّا أفضل ضد العنف الجنسي، وخاصةً عند حدوثه ضمن سياق الحرب.
تصريحات موجَّهة إلى الجمهور الغربي
ما الذي دفعك إلى نشر تغريدتك حول "الاستثناء الجنسي" -"الخصوصية الجنسية"- ضمن سياق الحرب في غزة؟
هايدي ماثيوز: جاءت تغريدتي هذه ردًّا على بداية حملة سياسية مُوَجَّهة كنتُ أراقبها في ذلك الوقت وقد نظَّمتها مجموعة من الناشطات النسويات الليبراليات في الغرب من أجل تضخيم مزاعم ارتكاب حركة حماس لعنف جنسي في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 ومن أجل تبرير استمرار الحرب في غزة وتشديدها.
وقد كان ذلك قبل نحو شهرين وما نزال نشاهد حتى الآن استمرار هذه الحرب. ويبدو أنَّ نهاية الحرب غير واردة في المستقبل المنظور، في حين أنَّ الأزمة الإنسانية في قطاع غزة تفاقمت بشكل كبير. بالإضافة إلى أنَّ عدد القتلى والجرحى في غزة يرتفع كلَّ يوم.
لماذا برزت هذه الادعاءات في بداية شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2023 بالذات؟
هايدي ماثيوز: لقد ظهرت هذه الادعاءات مباشرة بعد السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 ولكن في ذلك الوقت لم يُسلَّط الضوء عليها كما حدث بعد شهرين. والحملة الإعلامية الكبيرة بدأت في بداية شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2023. وفي هذا الوقت كان المجتمع الدولي قد بدأ للتو بتغيير رأيه في حرب غزة.
وصار يزداد بوضوح عدد الأصوات والدول المطالبة بوقف إطلاق النار. وقد غيَّرت بعض الدول تصويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ورغم أنَّ قرارات الأمم المتحدة ليست ملزِمة إلَّا أنَّ هذا يشير إلى تحوُّل في الرأي العام العالمي. ولذلك فقد أُطلقت اتهامات العنف الجنسي وبشكل ممنهج في وقت كانت تحتاج فيه إسرائيل لاستغلالها سياسيًا.
نمط استعماري: الهمجية مقابل الحضارة
برأيك كيف استُخدِمت هذه الاتهامات من أجل الحرب؟
هايدي ماثيوز: هذه الاتهامات تعمل ضمن نمط استعماري قديم خاص بممارسة السلطة، وذلك لأنَّها تضع الهمجية مقابل الحضارة. وقد كان تقديم هذه الاتهامات بطريقة ملفتة للانتباه يهدف إلى إثارة الغضب والصدمة لدى المُتَلَقِّين والقرَّاء.
وهذا التقديم يُسهِّل على الحكومة الإسرائيلية والمتحدِّثين باسمها استخدام خطاب يجرِّد الإنسان من إنسانيته فيما يتعلق بحماس والفلسطينيين بشكل عام. فما الذي يعنيه أن يكون المرء همجيًا؟ هذا يعني ممارسته أعمال عنف جامحة وعبثية.
وكيف يمكننا إظهار مجموعة من الناس كهمجيين؟ نُصوِّرهم بصورة رجال عرب لا يشبعون جنسيًا. إذ إنَّ مَنْ يرتكب جرائم العنف الجنسي لا يُعَدْ إنسانًا حقيقيًا بل من "الحيوانات البشرية". وهكذا تسير سلسلة الأفكار هذه. ومن المفترض بنا أن نقتنع بأنَّنا لا نتعامل هنا مع تهديد عادي بل مع تهديد يتجاوز كلَّ شيء يمكن أن يُظهِره ممثِّلٌ سياسي شرعي.
وصف الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ حماس بأنها "آلة اغتصاب" ضمن سياق انتقاده قضية الإبادة الجماعية المرفوعة من قِبَل جنوب أفريقيا ضدَّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية. وحتى أنَّ المتحدِّث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي تحدَّث عن "نظام اغتصاب" يغتصب الفتيات الصغيرات.
هايدي ماثيوز: توجد تصريحات رسمية لا تُعَدُّ ولا تُحصى من هذا النوع وهي مصمَّمة في المقام الأوَّل من أجل الجمهور الغربي حتى يتَّخذ موقفًا معيَّنًا تجاه إسرائيل. لا أحد يريد في الغرب -الذي نصَّب نفسه مركزًا للحضارة- أن يُنظَر إليه على أنَّه داعم ليس فقط للإرهاب بل وللمغتصبين أيضًا.
ويجب الحكم في سردية "الاستثناء الجنسي" على الاعتداءات الجنسية باعتبارها خطيرة بشكل خاص. ومن ثم نرى كيف يحوِّل المتحدِّث باسم الحكومة الإسرائيلية إيلون ليفي حالات محدَّدة من العنف الجنسي في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 إلى ادعاء عام يدَّعي أنَّ "حماس نظام اغتصاب".
ولكن ما الذي يعنيه ذلك بشكل عام؟ إنَّ مثل هذه المصطلحات تخلق في الأذهان صورًا لقوة حاكمة جبَّارة هدفها الوحيد هو ممارسة الاغتصاب الممنهج. وهذا بالرغم من عدم وجود أية أدلة تثبت ذلك على الإطلاق.
لا شيء يُبرِّر حربًا تنتهك القانون الدولي
ما الذي يمكن أن يتغيَّر إذا استطعنا الآن إجراء تقييم نهائي لحجم أعمال العنف المرتكبة من قِبَل حماس؟
هايدي ماثيوز: هذا لا يشكِّل أي فرق من الناحية القانونية. وهذا ما أكَّدَتْ عليه أيضًا جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية: لا توجد فظائع تُبرِّر ارتكاب فظائع أخرى. ولا شيء يُبرِّر قيام إسرائيل بحملة ثأر بصرف النظر عما حدث في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 - وقد حدثت في ذلك اليوم فظائع كثيرة.
ولا يمكن لأي شيء ربَّما تكون حماس قد فعلته أن يُبرِّر حربًا مضادة تنتهك القانون الدولي - حرب لا تُميِّز بين المقاتلين والمدنيين، فإسرائيل تدَّعي أنَّها تدافع عن نفسها فقط ولكن حربها غير متناسبة وتقوم على الانتقام. وهذا غير قانوني وخاطئ أخلاقيًا.
هل يمكنك إعطاء مثال على كيفية استغلال "الاستثناء الجنسي" في صراع آخر؟
هايدي ماثيوز: عندما يدور الحديث حول العنف الجنسي أو حتى فقط حول الجنس والحرب معًا فإنه يكون في غاية الإذهال والجذب للانتباه. لقد كتبتُ قبل بعض الوقت حول كيفية تطرُّق ألمانيا من جديد إلى قصص العنف الجنسي الجماعي على الجبهة الشرقية حين كان الروس يقتربون من برلين في عام 1945، فقد نوقِش هذا الموضوع كثيرًا قبل نحو عشرة أعوام.
وكنت مهتمة بأطروحات الناشطات النسويات اللواتي يقلن إنَّ العنف الجنسي تم تجاهله طيلة سبعين عامًا وإنَّ هذا الموضوع يجب الاهتمام به اليوم مرة أخرى لأسباب سياسية. ووجدت في أبحاثي أنَّ تزايد الاهتمام بحالات الاغتصابات التاريخية هذه قد لعب دورًا ليس فقط -ولكن بشكل خاص- في الأوساط السياسية اليمينية جدًا في ألمانيا.
وهذا الموضوع كان يُستخدم حينها وفي المقام الأوَّل من قِبَل السياسيات والسياسيين اليمينيين لإثبات أنَّ طرد السكَّان الألمان من منطقة بروسيا الشرقية [الألمانية] من المحتمل أنَّه كان جريمة حرب منسية أو كان حتى الجانب الأسوأ في الحرب بالنسبة لألمانيا.
تحليل نقاش ألمانيا حول حرب غزة
طريقة نقاش ألمانيا لحرب غزة بين إسرائيل وحماس اتَّبعت -في كثير من جوانبها- ديناميكية خطاب هيكلية معروفة في أزمنة الحرب. تحليل الباحثتين الألمانيتين هانا بفايفر وإيرينه فايبرت-فينَر.
لقد ذكرتِ مثالًا آخر في مقال صدر مؤخَّرًا يفيد بانتشار ادعاءات في عام 2011 تقول إنَّ الزعيم الليبي معمر القذافي قد وزَّع حبوب الفياغرا على جنوده من أجل تشجيع الاغتصاب الجماعي. وعلى الرغم من دحض هذه الاتهامات في وقت لاحق إلَّا أنَّها ساهمت مساهمة حاسمة في دعم مجلس الأمن الدولي للتدخُّل العسكري في ليبيا في عام 2011. فهل تَتَّبِعُ هذه الأمثلة نموذجًا مُعيَّنًا؟
هايدي ماثيوز: "الاستثناء الجنسي" لا يقتصر على مجموعات سياسية محدَّدة. فمن السهل تصديقه باعتباره منطقًا سليمًا، بصرف النظر عن الموقف السياسي الذي يتبناه الفرد. ولكن من المثير للاهتمام فعلًا كيف يُستخدَم فهم العنف الجنسي باعتباره عنفًا وحشيًا بشكل خاص في الحرب من أجل دعم مشاريع سياسية محافظة وغالبًا ما تكون يمينية متطرِّفة. وهذا ما نراه الآن في غزة أيضًا.
ولكن ما هو البديل إذًا؟ أَوَلَيْسَ من المهم توثيق العنف الجنسي في الحرب تمامًا مثل توثيق جرائم الحرب الأخرى أو الجرائم ضدَّ الإنسانية؟
هايدي ماثيوز: يجب التحرِّي عن العنف الجنسي وتحديده بوضوح ومعاقبته بالعقوبة المناسبة ودعم الضحايا والناجين، ولكن هذا يختلف عن استغلاله لأهداف عسكرية، وبرأيي هذه الأخيرة هي المشكلة.
والعنف الجنسي يُعَدُّ جريمة يعاقب عليها القانون الدولي وإذا ارتُكِبَت أعمال عنف جنسي في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 فيجب محاكمة مرتكبيها. وأنا لم أطالب بأي شيء آخر. ولكن مع ذلك فأنا أُوجِّه انتباهي أيضًا إلى السياسة المتَّبعة في هذا الوضع وأرى أنَّ هذه الاتهامات تُستخدم لتبرير إبادة جماعية محتملة.
مكافحة العنف الجنسي
كيف بالإمكان إذًا مكافحة العنف الجنسي في حالة الحرب من دون استغلاله من أجل تبرير التدخُّلات العسكرية؟
هايدي ماثيوز: هذا ممكن فقط عندما تلتزم الدول بأُسس النظام القانوني الدولي وقواعده. وعندما تحقِّق بشكل قانوني في الجرائم الدولية وتتابعها قضائيًا وتعاقب عليها.
من المعروف أنَّ إسرائيل تزعم أنَّ الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى تلتزم الصمت ولا تفعل شيئًا ولا تُصَدِّق النساء الإسرائيليات. ولكن إسرائيل ترفض في الوقت نفسه التعاون مع هيئات التحقيق الدولية التي أُقيمت خصيصًا من أجل التعامل مع مثل هذه الجرائم.
والمحاكم الجنائية الدولية ما تزال تنتشر وتتَّسع أكثر وهي لم تُنشأ في النهاية بسبب اتهامات العنف الجنسي خلال الحروب في يوغوسلافيا في تسعينيات القرن العشرين.
وتوجد الكثير من الخبرات حول كيفية التحقيق في هذه الجرائم ومحاكمتها -وربَّما الأهم من ذلك- حول كيفية تقديم الدعم المادي الملموس للضحايا. يُنتقد في إسرائيل عدم وجود موارد كافية من أجل ضحايا السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023، وهذا يحدث عندما لا ينصَبُّ تركيز الدولة الأساسي على دعم الضحايا ودعم أسرهم بل على مواصلة الحرب.
حاورتها: حنَّة الهيتامي
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
هايدي ماثيوز أستاذة للقانون الدولي في كلية الحقوق “أوسغود هول” في كندا.