عواقب وخيمة للسياسة الألمانية الشرق أوسطية
اجتاحت جميع الأحزاب السياسية في ألمانيا بسبب المجازر المُرتكبة من قِبَل حماس في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 صدمةٌ كانت ولا تزال كبيرة. إذ قُتل نحو ألف ومائة وتسعة وثلاثين شخصًا واختُطف نحو مائتين وأربعين آخرين كرهائن. وهذه الفظائع اللإنسانية أثارت احتجاجات وإعلانات عن التضامن الفوري مع إسرائيل. ومثل هذا التعاطف هو علامة تشير إلى الإنسانية ويجب أن يكون ردَّ فعل طبيعيًّا على قسوة لا ترحم.
ولكن المؤسف الذي صار يتَّضح خلال الأسابيع التالية بشكل متزايد هو أنَّ الحكومة الإسرائيلية تكاد لا تُميِّز بين المدنيين الفلسطينيين وحماس في ردِّها على هجمات حماس.
فقد وصف على سبيل المثال أعضاءُ الحكومة الإسرائيلية والقادة العسكريون وغيرهم من الفاعلين المهمين في المجتمع الإسرائيلي الناسَ في قطاع غزة بأنَّهم "حيوانات بشرية"، كما تحدَّثوا عن "محو غزة" وكذلك عن مسؤولية جماعية يتحمَّلها الفلسطينيون عن جرائم حماس.
إنَّ مثل هذه التصريحات التي تُجرِّد البشر في غزة من إنسانيَّتهم وتدعو إلى الإبادة الجماعية هي تصريحات تثير خوف المراقبين في جميع أنحاء العالم. وهي مثيرة للقلق ويجب أن تثير لدى السياسيين الألمان صدمة.
أرقام مرعبة
وهذه الصدمة يجب أن يكون وقعها أكبر بكثير عند النظر إلى الأوضاع الحالية في غزة؛ حيث قُتل منذ السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 بسبب أسلوب الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة أكثر من سبعة وعشرين ألف فلسطيني [في إحصائية تاريخ 05 / 02 / 2024: قالت وزارة الصحة في غزة إن 27478 فلسطينياً قتلوا في الضربات الإسرائيلية على القطاع منذ 7 أكتوبر] منهم نحو سبعين في المائة من النساء والأطفال.
ومن المحتمل أن تكون الأرقام الفعلية أعلى من ذلك بكثير لا سيما وأنَّ تسعين في المائة من سكَّان قطاع غزة يعانون من الجوع. ولذلك فإنَّ منظمة هيومن رايتس ووتش والعديد غيرها من منظمات حقوق الإنسان تتَّهم إسرائيل باستخدام الجوع كسلاح. كما أنَّ رعاية المرضى لم تعد ممكنة إلَّا بشكل محدود: فمن بين ستة وثلاثين مستشفى في قطاع غزة لم تعد تعمل سوى أربعة عشر مستشفى فقط وهذا أيضًا بشكل محدود جدًا.
وقد وثَّقت دراساتٌ مُعَدة ببحث دقيق قصفَ المستشفيات الممنهج ومحاصرتها واحتلالها من قِبَل القوات الإسرائيلية. كما أنَّ نحو ستين في المائة من جميع الوحدات السكنية في قطاع غزة قد هُدِمَت تمامًا أو أُصيبت بأضرار.
وكذلك قُتل مائة وأربعة وخمسون موظفًا من موظفي الأمم المتحدة وما لا يقل عن مائة وتسعة عشر صحفيًا. وتوجد بحسب منظمة مراسلون بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين أدلةٌ قوية تُثبت أنَّ القوات الإسرائيلية تعمَّدت قتل الصحفيين وأفراد أسرهم في بعض الحالات. وقد هُجِّر حتى كتابة هذا التقرير خمسة وسبعون في المائة من سكَّان قطاع غزة.
ومن الممكن أن يستمر ارتفاع هذه الأرقام المرعبة لفترة أطول. ويمكن العثور على أحدث الأرقام مدرجة بشكل واقعي على المواقع الإلكترونية الخاصة بمختلف منظمات الأمم المتحدة. لقد أصبحت تتوفَّر الآن أدلةٌ دامغة على جرائم الحرب الإسرائيلية الخطيرة في غزة. ويجب على محكمة العدل الدولية أن تُظهر إن كانت هذه الجرائم إبادة جماعية.
انتقادات بجرعات ضئيلة
ولكن بينما تزداد باستمرار عدم الإنسانية في الحرب الإسرائيلية أكثر وأكثر فإنَّ كبار السياسيين الألمان لم يُغيِّروا موقفهم تجاه الحكومة الإسرائيلية إلَّا بجرعات ضئيلة.
وما يزالون يتمَّسكون حتى يومنا هذا بجمود مفهوم "المصلحة الوطنية العليا" الفكري غير المحدَّد الذي صاغ أيديولوجيَّته الأساسية الفيلسوف الإيطالي نيقولا مكيافيلي ضمن سياق سلطوي في القرن السادس عشر، وكثيرًا ما كان يُستخدم لاحقًا من أجل التحايل على الأخلاق والقانون الساري المفعول. ومع بقائهم متذكِّرين عبارة أنَّ "أمن إسرائيل هو مصلحة وطنية ألمانية عُليا" فإنَّهم ينظرون بصمت إلى طغيان القوات المسلحة الإسرائيلية في غزة.
لقد مرَّت أسابيع قبل أن يبدأ بعض هؤلاء السياسيين -وبِحَذر- في إظهار بعض التعاطف مع الناس في غزة. ولكن تعاطفهم هذا لم يتجاوز تصريحات هادئة -ومصاغة بخجل- تفيد بوجوب وصول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وبأنَّ حقَّ إسرائيل في دفاعها عن نفسها يجب أن يسير ضمن حدود القانون الإنساني الدولي.
هذا وقد زادت في الوقت نفسه الحكومة الألمانية الاتحادية حتى بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023 عدد التراخيص الممنوحة لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل زيادةً بلغت عشرة أضعاف. وحاليًا توجد تخطيطات أيضًا لتزويد إسرائيل بذخيرة للدبابات. وحتى يومنا هذا ترفض الحكومة الألمانية الاتحادية المطالبات بهدنة سريعة ودائمة وبممارسة الضغط على إسرائيل.
وكذلك رفضت الحكومة الألمانية الاتحادية بانتظام وجود جرائم حرب إسرائيلية على الرغم من الأدلة الدامغة. وفقط منذ جلسة الاستماع الأولى في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدَّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية - صارت تُلاحَظ تحوُّلاتٌ خطابية بسيطة لدى بعض كبار السياسيين الألمان.
"تعطل أجهزة استشعار الأخلاق الألمانية فجأة حين يتعلق الأمر بإسرائيل"
كانت ألمانيا مثالا نموذجيا للعالم العربي ولكن هذا تغير منذ لم يُسمَع أي احتجاج للسياسيين الألمان على قتل جيش إسرائيل لآلاف المدنيين الفلسطينيين بقطاع غزة في حربه ضد حماس. تعليق الباحث عمرو علي لموقع قنطرة.
حكم محكمة العدل الدولية صفعة في وجه ألمانيا
ولكن مع ذلك فإنَّ الحكومة الألمانية الاتحادية ترفض بشدة اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، وتدَّعي أنَّ هذه التهمة لا أساس لها من الصحة. غير أنَّ هذا الادعاء ببساطة غير صحيح كما تُثبت الحوارات والنقاشات الحيوية التي تجرى منذ أشهر حول هذا الموضوع في دوائر الخبراء وترافقها تحذيرات.
وقد دحضت هذا الادعاء الآن محكمةُ العدل الدولية في قرارها الصادر مؤخرًا والذي يعتبر أعلى حكم قضائي. فهذه المحكمة التابعة للأمم المتحدة أقرَّت بوجود الخطر المُتمثِّل في احتمال انتهاك إسرائيل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
وقد أكَّد الأمر الصادر من القضاة باتخاذ تدابير فورية على مدى رؤيتهم لخطورة الوضع في غزة. وهذا يُمثِّل صفعة في وجه الحكومة الألمانية الاتحادية وفهمها للقانون الدولي.
وعلاوة على ذلك فإنَّ الحكومة الألمانية الاتحادية تُضعف -من خلال توقُّعاتها المسبقة للحكم- هذه المحكمة العليا في الأمم المتحدة، وتضعف بالتالي القانون الدولي الذي تُحب تقديم نفسها كمدافع عنه وخاصةً بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
القانون الدولي الإنساني مطلق السريان
ويجب على هؤلاء السياسيين أن يُحَكِّموا ضمائرهم في تعاملهم مع الذنب الأخلاقي والمعنوي المُتمثِّل في تجاهلهم جرائم الحرب الإسرائيلية ضدَّ الناس في غزة والتستُّر عليها لفترة طويلة رغم أنَّه لم يعد من الممكن إنكارها بشكل مُقنِع.
القيمُ والأخلاقُ وحدهما كان لا بد لهما من أن يفرضا على هؤلاء السياسيين الألمان -وحتى قبل أشهر- إبلاغَ هذه الحكومة الإسرائيلية بلهجة تزداد وضوحًا وشدة وبشكل علني أيضًا بأنَّ جرائم الحرب المُرتكبة من قِبَل حماس لا يمكن أن تكون مُبرِّرًا لجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل.
لأنَّ هذا هو بكلِّ بساطة ووضوح القانون الدولي المعمول به. وكان يجب على صنَّاع القرار الألمان أن يعرضوا -في مرحلة مُبكِّرة- بذل قصارى جهدهم -من خلال جميع القنوات الدبلوماسية ومع زيادة الضغط السياسي- من أجل التوصُّل إلى وقف سريع ودائم لإطلاق النار. ولكن حتى وإن لم تكن القيم والأخلاق حُجَّةً كافية فقد كان لا بدّ على الأقل للاعتبارات الجيواستراتيجية الهادئة من أن تهز الحكومة الألمانية الاتحادية لتخرجها من جمودها الإيديولوجي-العقائدي.
وذلك لأنَّ دفاع السياسيين الألمان طيلة أشهر عن أسلوب الحرب الإسرائيلة -بالرغم من وجود الأدلة الدامغة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب- كان يُراقَب مراقبة دقيقة على المستوى الدولي وخاصةً في بلدان جنوب العالم.
لقد كانت الحكومة الألمانية تطالب دول العالم منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا ومن دون كلل أو ملل بأن تُدين في المحافل الدولية وفي مؤسَّسات الأمم المتحدة انتهاكات روسيا القانون الدولي وبأن تدعم العقوبات المفروضة على روسيا.
وعدا ذلك فإنَّنا -بحسب تعبير السياسيين الألمان- سنعيش قريبًا في عالم يسود فيه قانون الأقوى وقانون الغاب ولن يبقى فيه مكان للقانون الدولي. وكانوا يقولون إنَّ هذا الأمر لا يتعلق بشيء أقل من الدفاع عن النظام العالمي القائم على القواعد.
واليوم تنظر هذه البلدان بالذات إلى الانتهاكات الإسرائيلة الخطيرة للقانون الدولي الإنساني التي لم يعد من الممكن تجاهلها ورفضها بشكل مقبول وتشاهد أيضًا كيف تدافع الآن الحكومة الألمانية نفسها عن الطغيان الإسرائيلي في غزة أو أنَّها تُقلِّل من شأنه. ولهذا السبب فإنَّ فقدان ألمانيا مصداقيَّتها بلغ حدًا كبيرًا.
الكيل بمكيالين ومعايير مزدوجة
وما من شكّ في أنَّ هذا الصمت الطويل من جانب الحكومة الألمانية الاتحادية -التي لا توجِّه سوى انتقادات ما تزال حتى يومنا هذا هادئةً جدًا لأسلوب الحرب الإسرائيلة في غزة- بات يُشكِّل بالتالي تهديدًا مباشرًا لأمن الاتحاد الأوروبي وأمن ألمانيا.
وذلك لأنَّ كسب الحلفاء ضدَّ روسيا -أو على الأقل الحفاظ عليهم بهدف المشاركة معهم في الكفاح من أجل نظام عالمي قائم على القانون الدولي- سوف يزداد صعوبة في المستقبل.
ولذلك فإنَّ اتهام القيادة السياسية في ألمانيا -بأنَّها لا تدافع عن القانون الدولي إلَّا عندما يكون ذلك في مصلحتها- هو اتهام مبرَّر وصحيح. وسيبقى العالم يلومنا لفترة طويلة على هذا الكيل بمكيالين ومعاييرنا المزدوجة. وإذا أقدمت في يوم ما روسيا أو حتى الصين على الخروج مجدَّدًا في غزوة إقليمية فسيسخر منا الكثيرون عندما نطلب -نحن الألمان- الدعم باستخدام حجج تستند إلى القانون الدولي.
ولكن مع ذلك فإنَّ الضرر ما يزال أكبر بكثير، وذلك لأنَّ شعوب الدول الأخرى في الشرق الأدنى والشرق الأوسط وفي شمال أفريقيا تتعاطف تعاطفًا كبيرًا مع الناس الذين يعانون في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة من قِبَل إسرائيل احتلالًا ينتهك القانون الدولي.
وليس من النادر أن يستغل الحكَّام -المستفردون بالسلطة- في هذه البلدان هذا الظلم الواقع على الفلسطينيين من أجل تعبئة شعوبهم.
إذ إنَّ إثارة غضب المواطنين وسخطهم على دولة غربية تدعم أو تتجاهل أو تُطبِّق معايير مزدوجة على مثل هذا الظلم تُعتبر هنا وسيلة مناسبة بامتياز من أجل صرف الانتباه عن القمع واستغلال الاقتصاد وكذلك عن الإخفاقات السياسية في الداخل ومن أجل توجيه الاستياء إلى عدو خارجي.
ذريعة القانون الدولي والدفاع عن النفس
ازدادت الحكومة الإسرائيلية تطرفاً في ظل حرب الشرق الأوسط، فهل تعي الحكومة الألمانية هذا التوجه ومخاطره؟ لا شيء يشير إلى وعيها بذلك ولا توجد سياسة ألمانية حقيقية تجاه الشرق الأوسط تستحق أن نسميها سياسة. تعليق الصحفي الألماني شتيفان بوخن لموقع قنطرة.
هذا يصب في صالح روسيا والصين
وهذه الديناميكية يمكن ملاحظتها مثلًا في إيران أو كذلك لدى الحوثيين في اليمن. ولذلك لا يوجد شيء يمكن أن يكون فعَّالًا ضدَّ هجمات الحوثيين على سفن الحاويات أكثر من الوقف السريع والدائم لإطلاق النار في غزة وإيجاد حل عادل وطويل الأمد للفلسطينيين.
ومن المؤكَّد أنَّ تأثيرات هذه الخطوة ستعمل على توطيد الاستقرار في المنطقة ككل. ويمكن بعد ذلك للاتحاد الأوروبي وشركائه إعادة تركيز مواردهما الدبلوماسية والمالية والعسكرية المحدودة على المجالات التي يتعرَّض فيها أمنهما لتهديد شديد.
أمَّا زيادة التصعيد في المنطقة نتيجة للحرب الإسرائيلية في غزة فلن تؤدِّي إلَّا إلى زيادة الحاجة أكثر إلى تلك الموارد المطلوبة أصلًا وبشدة في الصراع الدائر حاليًا مع روسيا على عدة مستويات. ولذلك فإنَّ القصف الأمريكي والبريطاني على مواقع الحوثيين في اليمن وهجمات إيران في العراق وسوريا وباكستان يجب أن تقرع أجراس الإنذار لدى السياسيين الألمان.
يشكِّل موقف الحكومة الألمانية الاتحادية غير المنتقد ضربة حظ بالنسبة لروسيا -وغيرها من الدول والأطراف الفاعلة المستفردة بالسلطة في بلدانها- وحتى بالنظر إلى أنشطتها المزعزعة للاستقرار داخل ألمانيا. فمن الضروري بالنسبة لهذه الأطراف تأجيج الانقسامات والصراعات داخل مجتمعنا من أجل إضعاف الثقة في ديمقراطيتنا.
وكمثال على ذلك فإنَّ الإجراءات القمعية المُتَّخَذة ضدَّ المظاهرات السلمية المؤيِّدة للفلسطينيين -والتي اعتبرتها المحاكم الألمانية حتى الآن وفي حالات كثيرة إجراءات غير قانونية- تصب بشكل مباشر في مصلحة محاولات زعزعة الاستقرار هذه.
فهذه الإجراءات تثير (وبشكل مُبرَّر!) حالة من الغليان ضدَّ قمع أجهزة الدولة لحرِّية التعبير عن الرأي وحرِّية التجمُّع: وهذه فرص مثالية لعمليات التأثير التي تقوم بها أجهزةُ الاستخبارات المعادية التي تستطيع من خلال نشاطاتها في وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات أخرى أن تزيد من الغضب الناجم عن ذلك. وللأسف تحتاج المحاكم غالباً -حتى تمكُّنها من وقف الإجراءات القمعية المفروضة من سلطات الدولة وقتًا طويلًا- يتزايد خلاله الغضب على الدولة ويتواصل خلاله تآكل ديمقراطيتنا.
جبهة مكشوفة في الديمقراطيات الغربية
وهذا الخطر يزداد بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بغزة، وذلك لأنَّ الانتقادات الموجَّهة للحرب اللاإنسانية الإسرائيلة على غزة باتت تنتشر انتشارًا واسع النطاق بين المواطنين الألمان. وبحسب المقياس السياسي الذي نشرته القناة الألمانية الثانية فإنَّ واحدًا وستين في المائة من الناس الذين يعيشون في ألمانيا ينظرون إلى العمل العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة -بما أسفر عنه من قتل الكثير من الضحايا المدنيين- باعتباره عملًا غير مُبرَّر.
ولذلك من المُطمئن أنَّ غالبية الناس في ألمانيا لم يفقدوا -كما يبدو- بوصلتهم الأخلاقية. ولكن مع ذلك لا توجد حاليًا أية كتلة برلمانية -من الأحزاب الديمقراطية الممثَّلة في البرلمان الألماني (البوندستاغ)- تُمثِّل هذا الموقف وتُمثِّل بالتالي الغالبية العظمى من مجتمعنا.
والسياسيون في ألمانيا يعملون -من خلال تجاهلهم مخاوف الناس واهتماماتهم- على خلق حالة من الاستياء والسخط لدى الكثيرين وبالتالي على إضعاف الثقة في نظامنا الديمقراطي.
ويجب علينا ألَّا ننسى أنَّ الصراع مع روسيا والتنافس مع الصين يتعلقان أيضًا ببقاء الديمقراطية الليبرالية التي باتت تتعرَّض في جميع أنحاء العالم لضغوطات متزايدة من القوى المستفردة في بلدانها بالسلطة.
ويجب علينا لهذا السبب أيضًا ألَّا نُقدِّم للحكَّام المستفردين في بلدانهم بالسلطة جبهات مكشوفة غير ضرورية من خلال الازدواجية والنفاق في تعاملنا مع القانون الدولي وحقوق الإنسان. والموقف الألماني من الحرب في غزة يُمثِّل واحدة من هذه الجبهات المكشوفة. وهي مكشوفة على نطاق واسع يمتد كيلومترات.
يجب الآن الحدُّ من الأضرار
ففي النهاية: السياسة التي تتَّبعها ألمانيا حاليًا -في التعامل مع إسرائيل وفلسطين- هي نفسها التي تُلحق ضررًا كبيرًا بجوهر المصلحة الوطنية الألمانية العُليا الذي صاغته الحكومة الألمانية الاتحادية بصيغة غامضة وغير محدَّدة: أي بأمن إسرائيل.
من الواضح أنَّ طغيان الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرِّفة في معظمها وحربها في قطاع غزة يشكِّلان حاضنة ضخمة للغضب على إسرائيل وكراهيتها - في غزة والضفة الغربية المحتلة وكذلك في المنطقة كلها وفي جميع أنحاء العالم.
إنَّ الدمار غير المعقول على يد القوات المسلحة الإسرائيلية في غزة وآلاف النساء والأطفال المقتولين والضحايا المُشوَّهين تشويهًا فظيعًا والأعداد التي لا تُعدُّ ولا تُحصى من المصابين الذين سيعانون لبقية حياتهم من صدمات نفسية - كلُّ هذا وأكثر يجب أن يُبيِّن لكلِّ سياسي في ألمانيا أنَّ هذه الحرب لا تفيد أمن إسرائيل بل تُلحق به أضرارًا هائلة. أمَّا التفسير الحالي للمصلحة الوطنية الألمانية العليا -التي من المفترض أن يكون جوهرها هو أمن إسرائيل- فهو يؤدِّي إلى جعل هذا الجوهر بلا معنى.
ولذلك يجب على الحكومة الألمانية الاتحادية أن تتوقَّف عن تجاهلها الأدلة الدامغة على جرائم الحرب الإسرائيلية. ويجب عليها أن تُسمي هذه الجرائم بأسمائها الصحيحة وتُناقشها بصوت أعلى وأوضح بكثير. وإذا لم تفعل ذلك فهي تتستَّر على مثل هذه الجرائم وترسل إشارة للحكومة الإسرائيلية بأنَّها يمكنها الاستمرار في مواصلة طغيانها في غزة كما كانت تفعل حتى الآن.
ونظرًا إلى قرار محكمة العدل الدولية فإنَّ شحنات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل باتت غير مبرَّرة في الوقت الحالي، بل يجب على الحكومة الألمانية الاتحادية أن تبذل كلَّ ما في وسعها من أجل تنفيذ الشروط المفروضة من قِبَل محكمة العدل الدولية على إسرائيل.
ويجب عليها أخيرًا أن تحشد كلَّ مواردها من أجل التوصُّل إلى وقف سريع ودائم لإطلاق النار ومن ثم العمل على إيجاد حل يعتبره غالب الفلسطينيين حلًا عادلاً لهذا الصراع. أمَّا الأخطاء الجيواستراتيجية المرتكبة من قِبَل الحكومة الألمانية والأضرار التي أحدثتها على مستوى السياسة الخارجية والأمنية فلا يمكن تصحيحها في المستقبل المنظور. والمهم الآن هو التركيز قبل كلِّ شيء على الحدّ من الأضرار.
ماتياس زايلَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
الدكتور ماتياس زايلَر باحث في العلوم السياسية كان يعمل حتى نهاية عام 2022 مستشارًا أوَّلًا للشؤون الأوروبية والدولية في اللجنة التنفيذية الاتحادية لحزب الخُضْر الألماني / تحالف 90. وكان من عام 2014 إلى عام 2017 عضوًا في مجموعة أبحاث أفريقيا والشرق الأوسط في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية SWP. وعمل قبل ذلك صحفيًا مستقلًا في القاهرة.