نقد اعتبار أمن إسرائيل مصلحة عليا للدولة الألمانية
كتاب المؤرخ الفلسطيني الأمريكي رشيد خالدي بعنوان "حرب المئة عام على فلسطين" -الصادر عن دار النشر "أونيون" (في مايو / أيار 2024) باللغة الألمانية والمنشور مِن قَبْلُ في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2020- يروي فيه هذا المؤرخ والشاهد على العصر والمستشار السياسي قصة فلسطين من خلال مأساة مزدوجة: مأساة القمع وكذلك مأساة استراتيجيات التحرير الفاشلة، منتقداً القيادات الفلسطينية السابقة والحالية بوضوح وجلاء لا يدع فيه رشيد خالدي مجالاً للشك: فكل شيء يجب أن يوضع على المحك، والحاجة ماثلة إلى رؤية جديدة للمساواة بين شعبين اثنين.
فناقوس خطر الموت في غزة يدق طنينه في أسماع عدد كبير من الناس معلناً كذلك بدايةً جديدة تحت ستار الحزن الأسود: فلا شيء يمكن أن يبقى كما هو أو كما كان. وهذا ينطبق على إسرائيل وعلى الاحتلال وعلى سلطة الحكم الذاتي المتصلبة ولكنه ينطبق أيضاً على ألمانيا وعلى فهمها لمبدأ المصلحة العليا للدولة الألمانية، الذي يلحق ضرراً كبيراً ببلادنا وسمعتنا الدولية وفرصنا الاجتماعية كألمان.
لقد حان الوقت لقول هذا بوضوح وتغييره، لأسباب ليس أقلها شأناً أن تتمكن ألمانيا من العمل كشريك بنَّاء وعادل في التعامل مع الكارثة الإسرائيلية الفلسطينية.
"تباهٍ غريب بالانعزال عن العالم"
فما الذي حدث؟ إن ما حدث هو أن ألمانيا قد سقطت على مسار انحداريَّ يوجِّههُ فهم خاطئ للاستثنائية، من خلال تضييق المسؤولية عن المحرقة -وما نتج عنها من التزامات استثنائية- إلى دائرة ضيقة تنحصر على الإقرار بتكوينة الدولة الإسرائيلية وسياستها، وكذلك من خلال فرض طريقة تفكيرنا -كألمان- بشأن إسرائيل على الآخرين حين تطأ أقدامهم الأراضي الألمانية.
وبهذا نشأ خليط لَزِج من صِفَتَيْ الانعزالية الغريبة والتباهي: انعزالية عن العالم تتباهى بذاتها، وصرنا نَشْحَن الآخرين بما لدينا من أجل أن نفرِّغ شحنتنا وبات لدينا الحق في الإساءة لأننا -بوصفنا أشراراً سابقين- فقد أصبحنا -من وجهة النظر هذه- الأخيار الوحيدين الحقيقيين.
ففي معظم الأحيان لا يكون سبب إلغاء المحاضرات أوندوات الأساتذة الزائرين أو حفلات توزيع الجوائز هو أن المسؤولين الألمان عن كل واحدة منها يعتقدون بأنه يجب ألا يُسمح لمعاداة السامية بالتعبير عن نفسها في ألمانيا، بل لأنهم يخشون من أن يُتَّهَمُوا هم أنفسهم بذلك لذلك يغسلون أيديهم من البداية تَبْرِأَةً لأنفسهم على حساب الآخرين. لقد تحول اعترافهم بالذنب الألماني التاريخي إلى وثيقة تأمين: أنا أشهد على طهارتي عن طريق التنديد بالآخرين.
"استغلال سلطوي للكلمة الموجهة للرأي العام"
هذا أمر محزن، نعم، وإنه لمحزن أكثر أمام كواليس المعاناة الحقيقية الظاهرة في غزة. فبعض الأمور لدينا لا تبدو سوى مثيرة للسخرية وعشوائية ومثيرة للشفقة. ولكنَّ هناك شيئاً مظلماً ومثيراً للقلق: ففي كثير من الأحيان يعاقِب هذا الخَيْرُ السلطويُّ أيضاً نساءً يهودياتٍ بارزاتٍ.
غير أنني أيضاً أرى وجهاً مختلفاً لألمانيا، فكما أن رأي الأغلبية سرعان ما لم يعد يشاطر الحكومة موقفها بشأن حرب غزة فإن المفهوم المتحجر لمبدأ المصلحة العليا للدولة الألمانية أصبح في المقام الأول ظاهرة تتعلق بالنُّخَب السياسية (وكذلك تتعلق بمن يرغبون في أن يصبحوا منتمين إلى هذا النُّخَب). وحتى فيما يتعلق بالنُّصُب التذكارية على سبيل المثال لا الحصر: أصبح الناس يفكرون بشكل مختلف. ولكن بدلاً من الحديث عن الرقابة أفضِّلُ أن أتحدث عن عملية إدارة سلطوية للكلمة الموجهة للرأي العام وَبَتْر للذات فكرياً.
في متاجر بيع الكتب والمكتبات ثروة من الأدبيات المتعلقة بإسرائيل وفلسطين، ولكن ليس في المنتديات العامة إلا ممر ضيق من وجهات النظر والرؤى المشروعة المفترضة. وأرضية الدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط لدينا في ألمانيا غنية لكن قوائم الخبراء والخبيرات -المتداولة في المؤسسات المحلية باعتبارهم "مدعوين عديمي الخطر"- قصيرة إلى حد مثير للشفقة.
كارثتا الكوارث - لا تنفك إحداهما عن الأخرى
الهولوكوست والنكبة: عند سؤال فلسطيني عن محرقة اليهود يتحدث غالبا عن نكبة تهجير الفلسطينيين المرتبط بإسرائيل. لذا طور باحثان إسرائيلي وفلسطيني مفهوما للحوار حول هاتين الصدمتين القوميتين. تحليل جوزيف كرواتورو لموقع قنطرة.
على ألمانيا الارتقاء إلى مستوى تعقيد صراع الشرق الأوسط
لكن بهذه الطريقة تجعل ألمانيا نفسها أكثر غباءً مما ينبغي أن يكون، بينما تتزايد في الوقت نفسه الحاجة إلى أن تجد ألمانيا طريقها على نحو ملائم في ظل التعقيد الجديد للأوضاع. فالتطرف اليميني في إسرائيل -قبل السابع من أكتوبر / تشرين الثاني 2023 بفترة طويلة- هو ظاهرة واجه الكثير من الألمان صعوبة في فهمها معرفياً وأخلاقياً ومع ذلك لم يُناقَش هذا الارتباك والقلق إلا نادراً في الحوارات العامة، وحين تحدث معارضون إسرائيليون عن الأصولية اليهودية وحتى عن الفاشية صَمَّ الساسة الألمان آذانهم.
لقد حان الوقت لندرك كيف تنأى أقليات كبيرة من الشباب والشابات اليهود في الولايات المتحدة بنفسها عن السياسة الإسرائيلية، ويصفون الظروف في الضفة الغربية بلا تردد بأنها نظام فصل عنصري -أبارتايد- وينحازون إلى جانب الفلسطينيين بشكل أكثر تطرفاً من أي وقت مضى. إن مصطلح "التفوق العرقي" -الذي دفع جامعة كولونيا إلى سحب درجة أستاذة زائرة من الفيلسوفة نانسي فريزر- يستخدمه كثيرون حتى من الإسرائيليين أنفسهم لوصف واقع الدولة اليهودية التي ترفض المساواة لغير اليهود.
[الفيلسوف الإسرائيلي] عُمْرِي بوم -الحائز على جائزة هنا في ألمانيا- يدعو أيضاً إلى تجاوز هذا المفهوم للدولة الإسرائيلية، ومبادرته الإسرائيلية الفلسطينية الأكثر إثارة للاهتمام من أجل حل ثنائي القومية ("بلد واحد للجميع") ترتكز على الاعتراف بأن كلا الشعبين لديهما إحساس بالوطن "من النهر إلى البحر". لماذا لا نفكر بنشاط في الشيء نفسه؟
بالإمكان جعل كل شيء شديد الاختلاف: فالآلاف في ألمانيا يتمتعون بسنوات من الخبرة في إسرائيل وفلسطين -أيضاً من خلال مبادرات كنسية ومنظمات غير حكومية وكمراقبين لحقوق الإنسان- وهناك 200 ألف فلسطيني وما يقدر بنحو 30 ألف إسرائيلي يعيشون بيننا في ألمانيا. يا لها من موارد ضخمة! ويا له من هدر مذهل بعدم استغلالها!
وبدلاً من محاولة لفت الانتباه -عبر إظهار أخلاقيات عدم التسامح- يمكن لألمانيا أن تكون المكان الذي يذهب إليه الجميع لإجراء مناقشات مفتوحة وخلاقة وبناءة: دبلوماسية عامة في الشأن الإسرائيل الفلسطيني مع جميع الأطراف المعنية، وهي حالة مثالية -أو مدينة فاضلة "يوتوبيا"- يمكن تحقيقها. ويتوافق هذا مع مسؤولية تاريخية ذات تفكير شامل لفهم إسرائيل وفلسطين وألمانيا كمثلث.
وهنالك ثمة شيء آخر: فالمقاومة ضد تساوي الجميع في الحقوق هي مسألة تجمع بين حزب "البديل من أجل ألمانيا" -الشعبوي- ومعسكر داعمي ترامب في الولايات المتحدة والصهيونية الراديكالية في إسرائيل. ومن يرغب في الانضمام إلى هذا التيار فعليه أن يقول ذلك ومن ثم الأفضل ألا يستشهد بدروس مستفادة من الهولوكوست.
شارلوته فيديمان
حقوق النشر والترجمة: موقع قنطرة 2024