احترام كرامة الإنسان...الحصن المنيع ضد التطرف
حامد، شاب عشريني مصري، طموح ومجتهد، حصل على منحة البكالوريوس في هولندا، لكنه عندما عاد إلى بلده لم يجد وظيفة في مجال عمله، ووجد من هم أقلُّ منه كفاءة هم من يحصلون على الوظائف من خلالِ معارفهم من الناس. بعد فترة من الانتظار، سافر إلى العراق منضما إلى تنظيم "داعش"، بالرغم من أنه لم يكن يوما ممن يُعدّون من المتدينين.
بالرغم من التأكيد بأن ما حدث ليس مبررا للتحوّل إلى التطرف، ولكنها قصة حقيقية لدق ناقوس الخطر ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
ماذا فعلت الدولة المصرية في مواجهة تنامي ظاهرة التطرف؟
توجد مبادرة مهمة من مؤسستي الأزهر ودار الإفتاء المصرية، اللتين أنشأتا مرصدين لرصد الفتاوى والأفكار المتشددة والرد عليها وتوضيح حقيقة الإسلام. لكن رغم أنهما يقومان بنفس العمل تقريبا ليس بينهما تعاون حتى لحظة كتابة هذه السطور.
بالنسبة لمرصد مشيخة الأزهر، فهو إدارة حديثة داخل الأزهر الشريف اُفتُتح في مايو/ أيار 2015، ويعمل بـ8 لغات، وهدفه رصد كلِّ ما تبثه الجماعاتُ المتطرفة من أفكار وكلِّ ما يُكتب عن الإسلام والمسلمين بجميع اللغات".
ستون في المائة من منشورات المرصد هي باللغة العربية والباقي، أي أربعين في المائة، هي باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والفارسية والأردية والصينية ولغات إفريقية.
مدير المرصد حاصل على الدكتوراه من جامعة ألمانية، ويعمل مع مجموعة من المشرفين الحاصلين على الدكتوراه من الخارج، وباحثين وباحثات يجيدون هذه اللغات وملمين بالسياق الديني الإسلامي، وكذلك مع لجنة شرعية من خريجي كليتي أصول الدين والشريعة والقانون للرد على المسائل الشرعية.
وقت طويل مضى منذ ظهور المرصد الذي يُبذَل فيه جهدٌ عظيم، لكنه حتى الآن لم يصل لجمهوره. المشكلة لم تكن في صنع المحتوى بثماني لغات، لكن المشكلة في عدم وصول المحتوى للجمهور المستهدف.
وذلك لأن المرصد في النهاية هو مجموعة من الموظفين من داخلِ الأزهر، من أصحاب الفكر التقليدي، وهم في النهاية يحاولون استرضاء السلطة أو هم يتطلعون لتوجهات السلطة كي يسايروها، وهذا أدى إلى قلة الثقة من قبل الشباب فيما يصدر عن المؤسسة الدينية الرسمية.
معظم الجهاديين الشباب لا يصلون إلى درجة التطرف في الأسرة أو في المسجد، بل إن التطرف له منافذُ أخرى في الفضاء الاجتماعي، كما أن المؤسسات الدينية لم تستطع مواجهةَ تحدى الاستجابة للثورة الرقمية، من حيث خطاباتها، ولغتها، وفضاءاتها الحرة، فى إطار ديمقراطيات رقمية مؤثرة وما تطرحه من أسئلة مغايرة ومثيرة، فى ظل روح رقمية تحملُ فى أكنافها وثناياها وخطاباتها التغريدية، السخرية، والمحاكاةَ الساخرة لبعض النصوص والخطابات الدينية وأشكالا من النقد الجارح للأديان والعقائد، والتشكيك فى المرويات والأسانيد والأدلة الدينية، والتاريخية.
بعض هذه النزعة السلبية ذات جذور فى بعض الدراسات حول الأديان المقارَنة، هذه النزعة يبدو أنها ستتزايد مع تصاعد وتمدد العنف الوحشى ذي السند التأويلى الديني! وثمة غياب لمواجهة هذا التحدى من قبل الفكر الدينى التقليدى السائد ومؤسساته إلا قليلاً.
استراتيجية لمحاربة التطرف
إن استراتيجيةَ محاربةِ التطرف، يجب أن ترتكز على ثلاثة محاور قبل أن يتم اعتمادُ الحل الأمني، بل إن الحلَّ الأمنيَّ أحيانا إذا كان مجردا، فإنه قد يأتي بنتائجَ عكسيةٍ خطيرة.
المحور الأول: يجب العمل على تعزيز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير، وتشجيع المشاركة الفاعلة من المواطنين في الحياة السياسية.
ويجب التأكيد على ذلك خاصة مع اتساع وتمدد أشكال الظلم واللامساواة واللاعدالة فى عالمنا بين الدول النامية وحتى الدول الأكثر تقدماً، وداخل دوائر هذه الدول ومجتمعاتها وشرائحها الاجتماعية المختلفة، والأصوات الخافتة، أو غير المؤثرة للمؤسسات الدينية فى مواجهة هذه الأشكال المختلفة من المظالم واللاعدالة.
المحور الثاني: العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية، بمعنى أن يتمتع كلُّ فرد في المجتمع بالمساواة في الحصول على الفرص المتاحة للفئات المميزة، وفي هذا المحور يجب أن ينشطَ المجتمعُ المدني لسد الفجوة في التنمية الاجتماعية مع ترك المجال من قبل الدولة وتشجيع المؤسسات لتقديم خدماتها وأنشطتها للمساهمة في عمل مبادرات اجتماعية وتنموية لخدمة المناطق الفقيرة وتشغيل الشباب، فإشغالهم هو إحدى وسائلِ الحماية من التطرف والانزلاق إلى العنف.
من أين المال؟
دعوني أذكر أنه في سبتمبر/ أيلول عام 2014 طلب وزير الدفاع الأمريكي 500 مليار دولار، لتمويل الحرب ضد 20 ألف مقاتل من تنظيم الدولة الإسلامية، في خطة تستمر لـ 3 سنوات...خطة غير مضمونة النجاح. أزعم أنه لو كان قد تم إنفاقُ ربع هذا المبلغ لإحداث التنمية في البلدان الفقيرة، لم يكن قد ظهر هذا التنظيم من الأساس.
وعلى ذلك فإن توفير الاستثمارات من قبل الدول المتقدمة في الدول النامية هو حماية للجميع، أي أنه يجب الاستثمارُ في الإنسان وتنميته بدلا من الاستثمار في أدوات القتل.
ومع التنمية الاجتماعية يجب أن تتزامن معها التنميةُ الفكرية وهو محورنا الثالث: وأَقصِدُ هنا نشاطَ المؤسسات الثقافية والفكرية. يجب أيضا أن ينشط المجتمع المدني في سد الثغرات الفكرية، وعلى المؤسسات الدينية أن تسد الفجوات. ولا أقصد هنا المؤسساتِ الدينيةَ الرسميةَ فقط، بل إن الحركاتِ الإسلاميةَ مطالبةٌ بأن تعلن مراجعاتِها وأن توضح مواقفَها من العنف والتطرف والإرهاب وتنشرَه في العلن وتوعيَ المنتمين لها بخطورة الإرهاب على الدعوة.
فالإرهاب مثلا أدى إلى شعور البعض بالخوف من الإسلام بسبب المتأسلمين، كما أدى إلى تصاعد اليمين المتطرف في بعض الدول الغربية، كما أدى تنامي الإرهاب إلى بقاء بعض النظم السلطوية جاثمة على صدور شعوبها بترويجها بأنها الأقدرُ بقوتها الأمنيةِ والعسكرية على مواجهة الإرهاب وأن بقاءها هو صمام أمان من الفوضى، وهناك من قال: "أنا أو الفوضى".
إن التهميش الاجتماعي والاقتصادي يؤدي إلى تواجد بيئة يستغلها المتطرفون لنشر أفكارهم، حيث ينشط التطرف والإرهاب في المناطق المتطرفة جغرافيا والفقيرةِ تنمويا والبعيدة عن الخدمات الحكومية، في ظل غياب التوعية الدينية والمراكز الثقافية والفكرية، كما أن الإعلامَ لا يتحدث عن هذه المناطق إلا بما هو سيء حتى أصبحت موصومةً بالإرهاب ولا شيء غيره، ولا يتم التركيز على ما هو إيجابي في هذه المناطق وأهلها، فتصبحَ بيئة خصبة لتنامي الفكر المتطرف، خاصة مع استغلال المتطرفين للتهميش الاقتصادي والاجتماعي.
ففي سيناء مثلا أدى الظلم الاجتماعي وتهميشُ سيناء وعدمُ تعميرها بعد حرب السادس من أكتوبر، رغم ما تتميز به أرض سيناء من خيرات ومن أماكن جاذبة للسياحة إلى شعور بعض أهلها بالغربة، ومما زاد الطينَ بلة، هو وصم المجتمع السيناوي بالإرهاب بعد حادثتي طابا ودهب عامي 2004 و2006، فتم الزج بالآلاف في السجون، مما زاد من غضب السيناويين، إلى أن انطلقت ثورة الخامس والعشرين من يناير. كانت الثورة سلمية لكنها في سيناء كانت مختلفة، حيث خرج البعض بالسلاح متجهين لمراكز الشرطة وأحرقوها. وما زالت سيناء وأهلُها يعانون من الإرهاب حتى اليوم.
وهذا يدل على أن النار قد تكونُ تحت الرماد في المجتمعات التي يغيب عنها العدلُ والعدالة، وإن بدا عكسَ ذلك. فالحذر كل الحذر من أن ينفرط العقد، فحينها سيكون من الصعب العودة إلى الاستقرار بسهولة.
كيف نحققُ استراتيجيةَ المحاورِ الثلاثة؟
لا يكفي أن نقوم بالدراسات والأبحاث، لكن يجب أن يليَ ذلك البرامج الجادّة من أجل معالجة الأمر بشكل جِذري، ولذلك فعلينا أن نربط بين المراكزِ البحثية والمؤسسات الدينية ودور الإفتاء والمؤسسات الفكرية، ومعهم أيضا منظمات المجتمع المدني العاملة في مجالي التعليم والتنمية، مع سعي الدولة لتوفير فرص عمل، وبناء مشروعات صناعية أو تجارية في هذه المناطق، حتى تكونَ محاربةُ التطرفِ ناجعة.
ببساطة: يجب أن تكون هناك أشكالٌ من التعاون بين المؤسسات البحثية وبين المؤسسات الدينية والفكرية والاجتماعية، وعلى مراكز الدراسات أن تحدد بدقة خريطةَ تواجد أماكن المتطرفين والأماكنَ المتوقع أن يزيد فيها التطرف.
وبناء على هذه الخرائط، تتحرك مؤسسات المجتمع المدني والخيري لتوفير احتياجات المواطنين وبدء عمل الدراسات الميدانية المناسبة لكل مجتمع، مع إشراك الفاعلين في هذه المناطق في وضع الخطط وتنفيذها، كما تتحرك بالتوازي معها منظمات المجتمع المدني التي تركز على الأنشطة الثقافية والتعليمية والعملِ على تدريب المعلمين على كيفية نشر قيم التسامح بين طلابهم، فقد قال الله تعالى: "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" -ولم يقل مسلما بل أي إنسان على الإطلاق- كما قال إن الناس خُلقوا للتعارف وليس للتقاتل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".
كما على المؤسسات الدينية أن تقوم بقوافل دعوية منتظمة لنشر الإسلام الصحيح، حيث أثبتت الدراساتُ والأبحاث أن غير المتعلمين والأفرادَ غير المتدينين الذين لا يلعب الدينُ بالضرورة دورا هاما في حياتهم، أكثرُ عرضة لحمل أفكار ومعتقدات متطرفة من غيرهم.
وكل ذلك على أن تكون هناك لجان للتنسيق بين جميع المؤسسات، بحيث يشارك فيها ممثلون عن الدولة لتسهيل عمل كل هذه المؤسسات الفاعلة.
أود أن أختم بنقد ربط ظاهرة الإرهاب بـ"ثورات الربيع العربي"، خاصة مع تفاقم الظاهرة في الدول التي شهدت الانتفاضات، فبالبحث والتأمل نجد أن معظم أسباب الإرهاب هي نفس الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضات، فالعمل بجدية على تحقيق آمال الشعوب سيقضي على جزء كبير من التطرف والعنف، لأن الإرهابيين حينها لن يجدوا بيئة سانحة لنشر أفكارهم.
مصطفى هاشم
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017