الحركات الجهادية العنيفة ولدت من العولمة... وليس من الإسلام السياسي
ما هو موضوع كتابي، "إخفاق الإسلام السياسي"، الصادر قبل 25 سنة؟ الإسلاميون الذين أسسوا حركاتهم السياسية منذ ثلاثينات القرن الماضي بمصر ( أي جمعية «الإخوان المسلمين» التي أنشأها حسن البنا)، والهند («جماعتي إسلامي» الأم المولودة عن يدي أبو الأعلى المودودي)، وبعد ذلك في العالم الشيعي الاثني عشري حول محمد باقر الصدر بالعراق وروح الله الخميني بإيران، وأخيراً بتركيا مع نجم الدين أربكان.
وباستثناء الشيعة، لم تكن الأوساط الأصولية التقليدية هي مصدر المؤسسين. فهؤلاء يتحدرون من منابت اجتماعية حديثة (المدرسين والمهندسين والصحافيين)، ويرون في الإسلام أيديولوجية سياسية تحضن مجتمعَ دولة معاصراً. ويقرون بتعقيد الفروق الاجتماعية، ويخاطبون فئات وجماعات متمايزة مثل الشباب والطلاب والنساء والمثقفين. وتظهر حداثتهم في مرآة مصطلح مترجم ومستحدث: «أيديولوجي (زي)» بالفارسية، أو «مفكورة» نظير «رؤيا العالم»، و «حاكمية» أو «سيادة» و «ثورة» في العربية... وهم يحملون الشريعة على جزء من أجزاء الدولة الإسلامية. وقد يحلمون بالخلافة، إلا أن الدولة – الأمة الحديثة هي إطار عملهم المباشر.
تيار إحيائي ديني
وهذه الحركات تنخرط من غير شك في تيار إحيائي ديني هو سمة من سمات النصف الثاني من القرن العشرين، لكن نهجها السياسي هو علامتها الفارقة والخاصة. وبناء على هذا، ليس الإسلام السياسي من بنات أفكار باحثين غربيين ولا من ابتداعهم. والدليل على هذا أن بعض الحركات التي تحفظت عن استعمال العبارة في ثمانينات القرن العشرين، شأن حركة «النهضة» التونسية، عادت اليوم إلى تبنيها وتعريف نفسها بها.
وليس انتساب حركات الإسلام السياسي إلى الإسلام ظرفياً. فهي كلها تجمع بين العمل السياسي، أو "السياسة" وبين التوجه الديني أو «الدعوة»، وتشترط على أعضائها التزام الفرائض والإيمان، واعتقادها بمرجعية الكتاب والشريعة يحملها على تحديث تناولهما السياسي: «القرآن هو دستورنا»، و «لا قانون غير الشريعة»، و «دولة إسلامية» و «الديموقراطية هي الشورى»، هي شعاراتهم المعروفة.
وتنشأ عن هذا الجمع بين المرجعية الدينية وبين تأويلها وتحديثها السياسيين، منازعات وتجاذبات هي موضوع الكتاب («إخفاق الإسلام السياسي»). ولا يصح القول أن مرجعية الإسلام تقتصر على مسألة الهوية، أو على طريقة في القول وفي صوغ المطاليب زمنية خالصة وتعني مناهضة الكولونيالية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة، في نهاية المطاف: فعلاقة «السياسة» بـ «الدعوة» هي بمنزلة القلب من فكر الحركات الإسلامية. ويؤدي التناقض بين الأمرين إلى انفجار الإسلاموية. وعلى نحو ما توقعت في كتابي، ولدت أزمة الإسلاموية نمو حركات سميتها «أصولية جديدة»، ويسميها بعضهم «سلفية (مقاتلة)»، وبعضهم الآخر يسميها «إسلاموية» من غير تدقيق أو تمحيص، بعد أن دلت اللفظة في الإعلام على الغلو والتطرف.
وما تؤدي إليه الملاحظة طوال الـ25 سنة الماضية، يؤيد موضوعة الكتاب وفكرته المركزية: أي أن الحركات الإسلامية التي انخرطت في العمل السياسي انتهى بها الأمر إلى قبول الصيغة الزمنية، شأن «النهضة» التونسية وحزب «العدالة والتنمية» التركي، والصيغة الوطنية (أو القومية). وهذا ما سميته الإسلامية – الوطنية التي تمثل عليها «حماس» خير تمثيل. وثمة صنفان من هذه الصيغة: صنف أول يقود إلى الديموقراطية، على شاكلة تونس وتركيا، وصنف آخر يقود إلى الديكتاتورية، على شاكلة إيران. وينجم عن الصنف الثاني ظهور حيز غلو ديني يخرج من الدائرة السياسية الوطنية، وهو يدعو إما إلى انتهاج مثال حياة وليس إلى إنشاء نظام سياسي (وهو حال الحركات السلفية التي أسميها في الكتاب أصولية جديدة)، وإما إلى الجهاد العالمي الذي يعلو المجتمعات الفعلية والدول - الأمم. وهذا النهج أمسى الشكل الحاد الذي يتصور فيه عنف الغلاة الإسلاميين اليوم على رؤوس الأشهاد.
«أصولية جديدة»
وعلى رغم أن الإسلام ينسب «القاعدة» و «داعش» إلى الإسلام السياسي أو الإسلاموية، إلّا أنهما ليسا من نسل «الإخوان المسلمين» ولا من ذريتهم. والاستثناء الوحيد هو جماعة صغيرة من المصريين لحقت ببن لادن إلى أفغانستان في أواخر ثمانينات القرن الماضي بعد أن صرمت علاقتها بالجمعية. والحق يقال، لم تحضن الحركات الإسلامية السياسية الغلو الجهادي، لا في الجزائر (مع «جبهة الخلاص الإسلامية»)، ولا في المغرب («حزب العدالة والتنمية»)، ولا في فرنسا أو سورية أو الأردن أو تونس (النهضة) أو باكستان («جماعتي إسلامي»). وفي أفغانستان، اغتيل «الإخواني» عبدالله عزام، رائد الحركة الجهادية ضد السوفيات، في 1989، لأنه عارض الانحراف الإرهابي والمناهض للغرب الذي رفع لواءه خالف عزام، أسامة بن لادن. ولم يكن هذا إخوانياً، في يوم من الأيام. والجهادية هي اليوم ثمرة العولمة واضمحلال الثقافة الإسلامية، وليست وليدة الأحزاب الإسلاموية، على ما وصفت في كتابي «الإسلام المعولم».
وفي الدوائر الأربع التي تناولتها بالتحليل، وأترك جانباً دائرة ماليزيا وإندونيسيا، تُظهر التطورات السياسية الخاصة بكل دائرة منها كيف نشأت الحركات الإسلاموية وكيف تبلورت على النحو الذي وصفته.
ففي إيران يسيطر سلك الباسدران («حرس الثورة») على النظام، تحت عباءة المرشد. والعلماء كفوا عن الاضطلاع بالدور الذي قاموا به بعد أن «أمموا» أو «دُولوا». واصطبغ المجتمع بأقوى صبغة علمانية في الشرق الأوسط. وسادت أفكار توفيقية ولا أدرية على أنواعها، وانتشرت موجة اعتناق مذاهب «إصلاحية» متفرقة تقلق النظام. وفي باكستان وشبه القارة الهندية، يتآكل نفوذ الأحزاب التي استعادت اسم «جماعتي إسلامي»: فالدولة – الأمة الباكستانية تتصدع، ويتنازعها الجيش والحركات الأصولية الجديدة التي تميل إلى العنف وتزدهر على أنقاض الدولة، وتعلن «الإمارات الإسلامية» كيفما اتفق، ومن غير أبنية دولة، وحيث يقنع المقاتلون بفرض الشريعة.
ونأى حزب «العدالة والتنمية» التركي بنفسه عن المرجعية الإسلامية، وهو يعرِّف نفسه حزباً محافظاً، وليبرالياً في مجال الإدارة الاقتصادية، وفي المجال الثقافي يحامي عن العائلة والتقاليد الاجتماعية. وبعضهم يعزو انعطاف رجب طيب أردوغان المتسلط في 2012 إلى سعيه في أسلمة ناعمة. والحقيقة أن الانعطاف يعود إلى إحياء تقليد تركي – عثماني لا يمت بصلة إلى إسلاموية «الإخوان المسلمين». وهؤلاء يرون في المثال العثماني خليطاً يبرئون الإسلام منه. وقيم أردوغان أقرب إلى أفكار اليمين الديني الأميركي: إدانة الإجهاض ومديح القيم العائلية. ومشروع قانون تجريم الزنا، في 2004، يتوسل بمثال الأسرة الأميركي والغربي. فالرجل ينتسب إلى دائرة فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان وحزب الشاي الأميركي فوق ما ينتسب إلى معايير إسلامية متشددة.
ودل الربيع العربي على أن الإسلاموية ليست الشكل الخاص الذي تلبسه المعارضة السياسية (في المجتمعات العربية والإسلامية)، ولا لغة ثورة «الجماهير العربية المحتومة. فطلب الديموقراطية هو لغة الاحتجاج الجديدة. لذلك، فاجأ الربيع العربي الإسلاميين، وخسروا فيه احتكار المعارضة البنيوية التي نسبت إليهم إلى حينها، وسوغت تأييد الغرب الديكتاتوريات المفترضة سداً في وجه «التهديد الإسلامي»، وذلك من بن علي إلى مبارك. لكن موارد الإسلاميين التنظيمية، في مصر وتونس، عقدت النصر لحركاتهم وأحزابهم في الانتخابات التشريعية الأولى بعد الربيع. فحسبوا أنها ساعة مجدهم، وأنهم صوت الشعب الصادق. ولم يصمد نظامهم سنة كاملة وتساقط أنقاضاً. ولم يكن السبب افتقارهم إلى مؤهلات إدارة الحكم، بل اضطرارهم إلى تقاسم المعارضة السياسية مع جماعات أخرى، وإلى تشارك الإسلام على الخصوص. فبادر السلفيون إلى دخول الحلبة السياسية ومنافسة «الإخوان المسلمين». واتهم السلفيون «الإخوان» تارة بالاعتدال (في تونس) وتارة أخرى بالغلو في الجمود (في مصر).
ولا يقلل هذا مكانة الإناسة الدينية قياساً على اجتماعيات السياسة، ولا يقدم هذه على تلك. فتمتع الحقل الديني بالاستقلال وتنوع معاييره الذاتية هما ما حال دون فلاح الإسلاميين في بناء دولة إسلامية. وبناء عليه، فإخفاق الإسلام السياسي يعود، في شطر منه، إلى تحولات طرأت على الحقل الديني. فالإسلاموية ازدهرت في إطار تاريخي سمته انبعاث الدين في صورة مرجع هوية بينما كانت تنتاب القومية العربية أزمة حادة. فإذا انقلب التدين سعياً فردياً، ترجح بين ميل إلى الروحانية، في أحسن الأحوال، وبين انخراط في الجهادية، في أسوَئِها.
أوليفييه رو