العراق - من يقتل المحتجين؟ خشية من "انقلاب كما في اليمن"
الهواء كثيف في بغداد. بالمعنى المبهم لهذا التعبير. فمن ناحية ها هو ضبابُ الشتاء بدأ يهبط ممتدّاً إلى طبقات الهواء المنخفضة ويختلط بالدخان المُنطلق من الغازات المسيلة للدموع وإطارات السيَّارات المحترقة. ومن ناحية أخرى أسفرت المناوشات العنيفة التي وقعت في الأيَّام الأخيرة عن العديد من القتلى والجرحى وقلبت المدينة وفي الوقت نفسه شلَّت حركتها.
متظاهرون شبابٌ يَعْرِجُونَ على امتداد ساحة التحرير بأربطة طبية سميكة. لم نعد نسمع أصوات الرصاص، ولكن في المقابل ازدادت صفَّارات سيَّارات الإسعاف. يتراوح المزاج بين الاستسلام وبين "الآن أكثر من قبل". وبسبب الخوف من الوقوع في مرمى نيران القناصة، فقد بقيت بشكل خاص الأُسر والنساء في البيوت.
على الأرجح أنَّ هذا هو هدف العملية الدموية، التي نظَّمتها الحكومة، لأنَّها تريد إنهاء الانتفاضة. هذه المرة الثانية التي يسمح فيها رئيسُ الوزراء العراقي عادل عبد المهدي منذ اندلاع الاحتجاجات في العراق قبل ستة أسابيع بإطلاق النار على المتظاهرين. في الواقع من المؤكَّد أنَّ: الاحتجاجات في العراق هي الأكثر دموية من بين جميع الاحتجاجات والانتفاضات الموجودة حاليًا في جميع أنحاء العالم.
مَنْ الذي أعطى أمر إطلاق النار؟
بينما تقوم آليات أمانة بغداد وعمَّالُها بإزالة الشظايا والقطع المكسورة وتجرُف الجرَّافات بمجارفها أحجار الرصف، التي تُستَخدم من قبل المتظاهرين كمقذوفات، لا تزال نهاية حالة الدمار والفوضى السياسية، التي أبرزتها هذه الاحتجاجات وألقت الضوء عليها، غير مُتَوقَّعة.
لا يوجد خلاف على تحديد هوية الشخص الذي أصدر أمر استخدام الذخيرة الحيّة بالإضافة إلى الغاز المسيل للدموع في الاحتجاجات، وبالتالي تحديد المسؤول عن موت المتظاهرين السلميين حتى الآن إلى حدّ بعيد. تحدَّثت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتَّحدة في العراق عن سقوط ثلاثمائة وثلاثين قتيلًا منذ بدء الاحتجاجات في مطلع شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019 ونحو ثمانية عشرة ألف جريح. ولكن من غير الواضح مَنْ الذي أطلق الرصاص.
يستقبل ضياء السعدي الزوَّار داخل مكتبه في نقابة المحامين العراقيين على الضفة الأخرى من نهر دجلة، مقابل ساحة التحرير. وفي الكرخ، في القسم الغربي من مدينة بغداد، تقع المنطقة الخضراء، حيث توجد المقرَّات الحكومية والعديد من الوزارات وكذلك المقرُّ الرسمي لرئيس الوزراء. ومن الكرخ بالذات تم إطلاق النار على المتظاهرين في ساحة التحرير.
اعتاد رئيس نقابة المحامين العراقيين ضياء السعدي على وصول الزوَّار في هذه الأيَّام متأخرين عندما يأتون إليه من الجانب الآخر من نهر دجلة. ومن بين جسور دجلة الأربعة التي كانت تحتلها حركة الاحتجاجات حتى قبل أسبوع، قامت قوَّات الأمن بإخلاء ثلاثة جسور، ولكن لم يتم فتحها أمام حركة المرور. ولذلك يضطر الناس إلى السفر عبر طريق طويلة تستغرق وقتًا طويلًا من أجل الوصول من الرصافة إلى الكرخ.
ضياء السعدي رجلٌ قصير القامة وحكيم يُفَكِّر في البداية قبل أن يُجيب. ومن المهم بالنسبة له أنْ يؤكِّد على أنَّ نقابة المحامين هي منظمةٌ مستقلة موجودة منذ عام 1933 وأنَّه شخصيًا قد تم انتخابه كمُرَشَّحٍ مستقل. ويضيف أنَّ ذلك لم يكن سهلًا، لأنَّ السياسيين والمُتَديِّنين في العراق يريدون التدخُّل في كلِّ مكان.
زيادة الاحتجاجات
يقول رئيس المحامين مؤكِّدًا: "مَنْ أعطى أمر العمليَّتين ضدَّ المتظاهرين هو القائد الأعلى لقوَّات الأمن ورئيس الوزراء". ويضيف أنَّ عادل عبد المهدي هو مَنْ يتحمَّل المسؤولية عن القتلى والجرحى. لقد وقع في منتصف شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019 في بغداد وفي محافظات العراق الجنوبية، التي تشتعل فيها الاحتجاجات أيضًا، تدخُّلٌ أمنيٌ عنيف سقط ضحيَّته أكثر من مائة قتيل. وبعد أن كانت المظاهرات قد هدأت لبضعة أسابيع، عادت من جديد لتزداد أكثر.
يُظهر مثال بغداد مدى اتّساع مخيَّم الاحتجاج. فبينما كانت الخيام تقتصر في بداية شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019 على ساحة التحرير فقط، باتت تتَّسع الآن. وضياء السعدي متأكِّد من أنَّ هذه العملية الثانية لن تكون الأخيرة. ولكن مَنْ الذي يُطلق النار على الناس؟
الكثير من جنود الجيش موجودون في مخيَّم الاحتجاج، وكذلك يتضامن الكثير من رجال الشرطة مع المتظاهرين، الذين يشاهدونهم وهم يسيرون في شوارع بغداد حاملين العلم العراقي - وهذه علامة واضحة على التعاطف. ويعود الفضل في ذلك إلى نقابة المحامين أيضًا، مثلما يقول رئيسها ضياء السعدي: "محامو نقابتنا وقفوا أيضًا إلى جانب حركة الاحتجاج. يوجد لدينا ركنان في ساحة التحرير، حيث نتحدَّث مع الناس ولدينا مجموعة من محامين يهتمون بالمتظاهرين المعتقلين". ويخبرنا بفخر أنَّهم قد تمكَّنوا حتى الآن من إطلاق سراح أكثر من مائة معتقل.
كما أنَّهم يحاولون إقناع رجال الشرطة والجنود بعدم التحرُّك ضدَّ المتظاهرين وعدم تحوُّلهم إلى أداة في يدّ الحكومة. تحظر المادة التاسعة من الدستور العراقي الصادر في عام 2005 استخدام قوَّات الأمن ضدَّ الشعب، الذي تُعْتَبَرُ هذه القوَّات مسؤولة عن حمايته. والنصُّ الحرفي لهذه المادة هو: "القوَّات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية (…) تُدافع عن العراق ولا تكون أداةً لقمع الشعب العراقي". ولكن هذا بالضبط ما يحدث. "الحكومة العراقية تنتهك الدستور"، مثلما يستنتج ضياء السعدي.
"أريد حقوقي!"
كثيرًا ما تتردَّد في هذه الأيَّام في ساحة التحرير كلمةُ "دستور". المتظاهرون يتحدَّثون حول حقِّهم الدستوري ويطالبون به. وعلى العموم هذه الاحتجاجات تتعلَّق أيضًا بالحقوق المدنية وبحقوق الإنسان. "نريد من السياسيين الالتزام بدستورنا"، هذا ما تطالب به مجموعةٌ من المُعلمات المحتشدات في ساحة التحرير وهنّ يرفعن كُتَيِّبًا صغيرًا. هذه الاحتجاجات تتعلَّق أيضًا بالحقِّ الدستوري في التعليم، الذي لا ترى النساء تحقيقه بشكل كافٍ. تُباع هنا تيشرتات [قُمصان بنصف كُمّ] مكتوب عليها: "أريد حقوقي!".
والمتظاهرون في ساحة التحرير لا يعرفون بالضبط مَنْ الذي يُطلق عليهم النار. يُقال إنَّ بعض مطلقي الرصاص يرتدون زيًّا عسكريًا عراقيًا ويرتدي آخرون سراويل جينز وقمصانًا، بينما يرتدي آخرون غيرهم ملابسَ سوداء. وفي هذا الصدد يقول نقيب المحامين العراقيين ضياء السعدي: يتم إطلاق الرصاص لاستهداف المتظاهرين، ويتم إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع الصلبة على منطقة الصَّدْغ وعلى صدر المتظاهرين. لذلك فإنَّ "لديهم النية للقتل".
كلُّ شيء يشير إلى أنَّ الوحدة الخاصة المعروفة باسم "النخبة الذهبية" هي التي تتولى العمل هنا. لقد تم تدريبها على مكافحة الإرهاب وكانت في الجبهة الأمامية أثناء تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وقنَّاصوها مشهورون وسمعتهم سيِّئة ومن المفترض أنَّه قد تم استخدامهم أيضًا أثناء الاحتجاجات في كربلاء وفي غيرها من المدن العراقية الجنوبية، بحسب ما ذكره شهود عيان.
حرب بالوكالة بين عدوَّتين لدودتين؟
وكذلك يتحدَّث المتظاهرون في بغداد عن الحرس الرئاسي - المُسَمَّى بهذا الاسم ولكنه يتبع رئيس الوزراء. هذه فصائل من الميليشيات الشيعية، التي درَّبتها وتقودها إيران وقد تم دمجها في أجهزة الأمن العراقية كجزء من قوَّات الحشد الشعبي بعد النصر المزعوم على ميليشيا تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابية (داعش). ومع وجود كثير من الشكوك في ولائها، وضعها سلف عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي تحت قيادته. ولكنَّ شكوكًا كبيرة كانت توجد منذ البداية حول صاحب القرار الحقيقي الذي تخدمه هذه الوحدة في الواقع.
يقول ضياء السعدي: "يجب علينا أَلَّا نُقلِّل من شأن المواجهة بين إيران والولايات المتَّحدة الأمريكية في هذا الصراع". فهل تعني المظاهرات حربًا بالوكالة بين العدوَّتين اللدودتين؟ يقول رجل القانون بحذر إنَّه لا يريد الذهاب إلى هذا الحدّ. ولكن ما من شكّ في أنَّ لهما تأثيرًا جانبيًا، بحسب وصفه.
وعلى أية حال، تدَّعي طهران - التي تنظر إلى ردِّ الحكومة العراقية على أنَّه حربٌ على الإرهاب - أنَّ هذه الاحتجاجات يتم توجيهها من قِبَل الولايات المتَّحدة الأمريكية وإسرائيل. "إنَّهم يُبَرِّرون بذلك الرصاص الحيّ والقتلى"، مثلما يقول ضياء السعدي، الذي يخشى وزملاؤه من أنَّ الوضع يمكن أن يتصاعد أكثر ليصبح انقلابًا عسكريًا - مثل اليمن.
هناك في اليمن تخوض منذ عام 2015 ميليشيات الحوثيين المدعومة من إيران حربًا دموية ضدَّ تحالفٍ مكوَّن من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية والأمريكيين. أمَّا المستفيدون من هذا الوضع المأساوي فهم الجماعات الإرهابية المتطرِّفة مثل تنظيم القاعدة أو داعش. وبحسب تعبير ضياء السعدي: "سيكون هذا هو الدمار التام للعراق!".
بيرغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019