معاً لجعل المناطق المحررة نموذجا رائدا لسوريا المستقبل!
للناظر من واشنطن قد تبدو دمشق وكأنها واقعة في كوكب آخر. ولكن برلين وباريس وروما وأثينا تعتبر سوريا من دول الجوار (على عكس دولة مثل مالي).
وإذا كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما يرى أنه ليس بوسع بلاده تقديم أي شيء في سوريا باستثناء توزيع المواد الغذائية والملابس الصوفية والأدوية، فهذا يزيد من واجب الأوروبيين ليكونوا أشد حسماً في التعامل مع هذه القضية.
ثمة أشياء عديدة يجب العمل عليها فوراً وفي وقت متزامن. ففي المناطق المحررة في شمال البلاد وشرقها لا بد من تقديم المساعدات الإنسانية والمساهمة في تطوير هياكل بديلة للدولة. وهذا يتطلب حلولا خلّاقة وسريعة وبعيدة عن البيروقراطية.
وبمساعدة من المنظمات الدولية غير الحكومية ومن المجالس المحلية التي نشأت في الكثير من الأماكن هناك، يمكن لممثلي الاتحاد الأوروبي أن يحددوا ماهية الأشياء التي يحتاجها السكان وكيف يمكن أن يساهموا في تفعيل الإدارة هناك.
فالمخابز تحتاج إلى الطحين، وشاحنات نقل القمامة وسيارات الإسعاف تحتاج إلى الوقود وقطع الغيار، والمستشفيات في حاجة إلى المعدات الطبية وإلى الكادر البشري، والمدارس تفتقر إلى نوافذ جديدة وأثاث ووقود التدفئة.
مساعدة الناس على مساعدة أنفسهم
على المدى المتوسط يجب أن ينصبّ الاهتمام على تحقيق الانتعاش الاقتصادي وليس على توزيع الصدقات – المساعدة على مساعدة الذات بدلا من التبعية والإحباط.
السوريون هم تجار ورجال أعمال ذوو خبرة. وفي المراكز التجارية، مثل حلب، سيكون مفيدا أكثر لو تمت مساعدة مالك ورشة لإنتاج الصابون لاستئناف العمل وبالتالي توظيف عدد من العمال، بدلا من توزيع المواد الغذائية على المدى الطويل. كما يجب تشجيع المعلمين والأطباء للعودة إلى أماكن عملهم.
وفي المناطق الريفية في محافظتي إدلب وحلب يحتاج المزارعون للبذور وإلى جهة تشتري منهم المحاصيل. الصادرات من المناطق التي يسيطر عليها الثوار يجب ألاّ تتعثر بسبب عدم وجود لوائح خاصة بالتجارة.
فكلما عادت الأنظمة العامة للتطبيق بشكل أسرع وتحسنت الظروف المعيشية وكلما نشأت آفاق مستقبلية بتوفر فرص عمل في فترة ما بعد الحرب، انخفضت فرص الجماعات الراديكالية في فرض أجندتها. وبالإضافة إلى ذلك يمكن للمناطق المحررة أن تكون بالنسبة لبقية البلاد بمثابة مثال إيجابي لسوريا المستقبل.
للأسف، مازالت المعارضة السورية غير قادرة حتى الآن على دعم وتبني المبادرات المحلية الكثيرة المثيرة للإعجاب وعلى تطويرها ضمن هياكل موحدة. مازالت حتى الآن تنتظر الدعم النشط الذي وعدت به واشنطن وغيرها من "أصدقاء سوريا" في حال توحدها.
الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي تأسس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 في حاجة ماسة للدعم المالي واللوجستي والتنظيمي ليكون قادرا على تشكيل حكومة مؤقتة في سوريا.
هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للائتلاف من خلالها أن يتولي تدريجيا الإدارة في المناطق المحررة، وبناء الثقة في مؤسسات المعارضة لتكون ممثلا حقيقيا وذا مصداقية أمام الجهات الدولية المانحة، وبالتالي الإجابة على السؤال الحاسم: ماذا سيأتي بعد سقوط الأسد.
الخطاب الفارغ عن الحوار
أثبت معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الوطني المعارض، من خلال مبادرته التي دعا فيها إلى التفاوض مع نائب الرئيس السوري فاروق الشرع، بأن الائتلاف يتعلم سياسياً ويتقن على نحو متزايد قواعد الدبلوماسية الدولية.
الخطيب لايريد أن يناقش مع الأسد مستقبل سوريا وإنما أن يعطي رأس النظام الفرصة لنقل السلطة بشكل سلمي للحيلولة دون إراقة المزيد من الدماء. بدلا من جعل استقالة الأسد هي شرط مسبق للمفاوضات، بات ذلك الآن هو الهدف من أجل التوصل إلى حل سياسي - خطوة ذكية: وبهذا فإن الكُرة باتت الآن في ملعب النظام.
سيكون صعبا على حكام دمشق، أن يصفوا معارضين مثل الخطيب بأنهم "دمى في يد الغرب" وأن يرفضوا بالتالي الحوار معهم، خاصة بعد أن التقى حلفاء النظام السوري الروس والإيرانيون مع الخطيب في ميونخ.
فالقيادة السورية ستفضح بالتالي خطابها المتكرر حول الحوار ليكون مجرد كلام فارغ ومحاولة لكسب الوقت. وفي النهاية يتحول الأسد ومؤيدوه إلى عقبة حقيقية في طريق إيجاد حل سياسي.
بإمكان الاتحاد الأوروبي مواصلة نزع الشرعية عن النظام السوري، وذلك عبر عدم الاكتفاء بالاعتراف الرسمي بالائتلاف الوطني كممثل للشعب السوري وإنما التعامل معه أيضا من الناحية العملية على هذا الأساس.
ويمكن اعتماد أعضاء من الائتلاف كسفراء لسوريا الجديدة كما حدث في فرنسا وبعض دول الخليج، وأن تسلم مباني السفارات السورية للائتلاف كما حدث مؤخرا في قطر.
بطبيعة الحال فإن الائتلاف الوطني تنقصه الشرعية الديمقراطية الضرورية في البلاد وأفعاله تدعو للكثير من الانتقادات. ولكن الائتلاف في الوقت الحالي هو التحالف الأوسع لقوى المعارضة وبالتالي الجهة الوحيدة التي يمكن أن تتطور لتكون البديل الأول لنظام الأسد.
وهذا ما يجب أن تدركه على وجه الخصوص موسكو في أقرب وقت ممكن، حتى تزيد من الضغوط الدبلوماسية على الأسد وحاشيته.
تركيز الدعم على المناطق المحررة
تمثيل سوريا في الجامعة العربية والأمم المتحدة يجب أن ينتقل في أقرب وقت ممكن إلى أعضاء المعارضة بدلا من دبلوماسيي النظام. وعندئذ فقط ستكون مساعدات الأمم المتحدة التي اعتمدت مؤخرا بقيمة 519 مليون دولار ذات جدوى، بدلا من أن تتدفق إلى نظام دمشق كما هو مخطط له حتى الآن.
وبتلك الأموال يُفترَض أن يهتم النظام بالمشردين، الذين قام هو ذاته بقصف وهدم منازلهم سابقا، ويفترض أن يغيث الأرامل اللواتي قتل النظام أزواجهن، والأيتام الذين قتَل آباءهم، وأن يعيد بناء المدارس والمستشفيات التي جعلها عمدا في حالة خراب. ربما لا توجد مساعدة إنسانية أكثر سخرية من تلك.
وفي ظل هذه الظروف، فإن الأوروبيين سيكونون على صواب وموفقين بعدم وضع أموالهم المخصصة لسوريا في وعاء الأمم المتحدة وبالتالي بعدم تقديم تمويل غير مباشر للأسد في حربه ضد شعبه.
وبدلا من ذلك ينبغي عليهم تقديم جزء منها للائتلاف الوطني، والجزء الآخر سيخصص لتمويل مشاريع في المناطق المحررة، ويفضل في المجالات الحيوية: مثل تشييد البنى التحتية وأمور الإدارة المحلية والعدالة الانتقالية والتأهيل السياسي وتعزيز هياكل وأطر المجتمع المدني.
ولكن تبقى القضية الثقيلة المتمثلة في المقاومة المسلحة. فنظرا لزيادة العسكرة وخطر التشدد في المجتمع ونظرا لسقوط ما بين 100 وحتى 250 قتيلا في سوريا يوميا، فإن النصر السريع والواضح للجيش السوري الحر سيكون حاليا أفضل سيناريو بالنسبة لسوريا.
فكلما طال أمد الصراع، قلّ احتمال تحقيق انتقال منظم للسلطة وجعل التهدئة أمرا صعبا وازداد خطر انزلاق سوريا في حرب دائمة وبالتالي زعزعة الاستقرار في المنطقة ككل.
ومن أجل التغلب على النظام، يجب على المعارضة المسلحة أن تنظم نفسها بشكل أفضل، وأن تبني بمساعدة الائتلاف الوطني نظام قيادة مركزية، بوسعها في حال الإطاحة بالنظام تشكيل قيادة عسكرية جديدة وأن ترتقي لتكون وزارة دفاع قادرة على استعادة احتكار الدولة للعنف ولتضمن الأمن لجميع السوريين.
صعود الجهاديين
للأسف لم يدرك الغرب بعد بأن تقاعسه عن دعم الجيش السوري الحر هو الذي جعل الجماعات الإسلامية الراديكالية قوية. فبينما يضطر الجيش الحر لبيع الطحين وقت الحاجة من أجل الحصول على الأسلحة، تقوم جبهة النصرة المقربة من القاعدة بشراء هذا الطحين وتصنع منه الخبز ثم توزعه على السكان.
ورغم أن السكان في المناطق السنية المحافظة في محافظتي إدلب وحلب متشككون بشأن الجهاديين، لكن هؤلاء متفوقون حاليا بالفعل سواء من الناحية المادية أو الأخلاقية على الجيش الحر.
وبالتالي، سيكون من مصلحة الأوروبيين أن يدعموا القوى داخل الجيش السوري الحر، التي تكافح من أجل سوريا حرة وديمقراطية، يعيش فيها جميع الأديان والأعراق جنبا إلى جنب وعلى قدم المساواة.
وحين يتلقّى المجلس العسكري الأعلى، وهو تحالف من عدة ألوية من محافظات مختلفة، تأسس في ديسمبر/ كانون الأول 2012 وأعلن عن استعداده للعمل مع الائتلاف الوطني، فقط حين يتلقى هذا المجلس المزيد من المال وأسلحة أفضل، عندها فقط سيكون بإمكانه أن يبسط سيطرته ويصبح أكثر قوة في ظل صعود المجموعات الجهادية.
كما سيتمكن المجلس العسكري من جذب مزيد من الوحدات المقاتلة، ومن حماية المناطق المحررة من الهجمات الجوية التي يشنها النظام. يجب أن يكون الهدف هو إخضاع المقاومة المسلحة بشكل تدريجي لتصبح تحت سيطرة سياسية، بحيث تعني نهاية نظام الأسد نهاية المعارك أيضا.
كريستين هيلبيرغ
ترجمة: فلاح آل ياس
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013
عملت الصحافية كريستين هيلبيرغ بين سنتي 2001 و2009 كمراسلة حرة في دمشق. صدر لها مؤخرا عن دار هيردر للنشر كتاب بعنوان "سوريا: بؤرة توتر - نظرة على بلاد منغلقة".