مسرحية برشت "99 في المائة"...تفكيك صناعة الخوف وأوهام الحقبة النازية
فوجئتُ حقاً بمسرحية "جديدة" للكاتب والشاعر الكبير برتولت برشت، وكنت أحسب أن العالم العربي فحسب لم يسمع بها، لكني أدركت بسرعة أنّ ألمانيا نفسها تشهد أعادة الحياة لهذا النص شبه المجهول.
وقد تعاون المترجم العريق سمير جريس والشاعرة والاعلامية ريم نجمي على ترجمة المسرحية عن الألمانية، فجاء الكتاب هدية رائعة للثقافة العربية في عصر الحراك العربي الرافض لديكتاتوريات السلطة في كل مكان.
وقد وُسِمَ عنوان المسرحية بعنوان جانبي هو "الخوف والبؤس في الرايخ الثالث"، وهو العنوان الذي ظهر في طبعة الأعمال الكاملة لبرشت بعد أن عُرضت ثمانية مشاهد من المسرحية باللغة الألمانية بعنوان "99 في المائة" في باريس في العاشر من نيسان/ ابريل عام 1938، وهتلر في أوج قوته وجنون عظمته.
مقدمة المترجم سمير جريس للكتاب، تعرض برشاقة وبلاغة وبأسلوب محايد موضوعي تفاصيل نادرة عن برشت ونضاله ضد النازية، لذا فإنّ عرض الكتاب يجب أن يستند إلى المعطيات الواردة في المقدمة.
من هنا نعود إلى ما ورد حول عروض المسرحية في ذلك الظرف الصعب، حيث عُرضت المسرحية بعد باريس في سان فرانسيسكو بحضور الكاتب في 7 حزيران/ يونيو 1945، أي في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان العرض جزءاً من الاحتفالات التي اقيمت بمناسبة تأسيس الأمم المتحدة وتوقيع ميثاقها، وفي 30 كانون الثاني/ يناير 1948، أي في ذكرى مرور 15 عاماً على تولي هتلر السلطة، عرضت المسرحية لأول مرة في ألمانيا، وذلك في "المسرح الألماني" الواقع في برلين الشرقية.
يربط المسرحية خيط يعرض معاناة الشعب الألماني في ظل ديكتاتورية النازية الدموية
لا تنضوي المسرحية تحت وصف الدراما بتعريفها الكلاسيكي إذ لا تقوم على وحدة المكان والزمان المشروطة في الدراما الكلاسيكية، فهي تجري بين عام 1933 وعام 1938، وكل مشهد يجري في مدينة ألمانية، وتتصاعد المشاهد، لتصل إلى القمة ثم تتنازل هبوطا، بل هي عبارة عن 24 مشهداً غير مترابط درامياً، ظهرت في طبعة المسرحية لأول مرة في ألمانيا عام 1948، وهي مشاهد منتخبة من أصل 35 مشهدا تصور الحياة اليومية في ألمانيا في تلك الحقبة.
هذه مشاهد مسرحية مستقلة، لكن يربطها خيط يعرض معاناة الشعب الألماني في ظل ديكتاتورية النازية الدموية. والملفت للنظر أنّ هذا العمل بقي طي النسيان، حتى بدأت المسارح الألمانية تعيد اكتشاف النص، لاسيما بعد تنامي تيارات اليمين المتطرف في أعقاب مجيء أعداد كبيرة من اللاجئين إلى ألمانيا، فنجد مسرَحين مرموقين هما مسرح برلينر أنسامبل (مسرح برشت سابقاً)، ومسرح دورتموند، قد اختارا بعض المشاهد منها لتقديمها على الخشبة في 2016، كما أوجز المترجم سمير جريس في مقدمته.
نحن إذا أمام عمل قوي آخر لبرتولت برشت أعادته الظروف السياسية في ألمانيا إلى الواجهة، واكتشاف المتَرجمين هذا العمل وجهدهما الواضح في ترجمته، أتاح للقارئ العربي عملاً يناسب تماماً مناخ الحراك السياسي العريض، الذي يكتسح المنطقة منذ نحو عقد من الزمن، والذي لا تبدو له نهاية في الأفق.
صدّر برشت مسرحيته بقصيدة نثرية كتبها عام 1938، ومن المناسب هنا أن نعرض مطلعها كما وردت في مقدمة الكتاب:
استعراض الجيش الألماني
عندما سمعنا في العام الخامس*
أن ذاك الذي يقول عن نفسه إنّ الرب أرسله
قد أصبح مستعداً لحربه،
بعدما صنعت الدبابات والمدافع
والسفن الحربية،
طائرات لا تحصى تربض في الحظائر،
لو أقلعت- بإشارة منه-
لأظلمت السماء،
عندئذ قررنا أن ننظر حولنا
لنرى أيّ شعب هذا،
وإلى أيّ بشر ينتمون،
وفي أيّ حال، وبأية افكار يناديهم تحت رايته.
قمنا باستعراض الجيش.
*الإشارة هنا إلى عام 1938، أي بعد مرور خمس سنوات على تولي هتلر السلطة، وبعد احتلال النمسا، وعشية الحرب العالمية الثانية.
بلغة صادمة وبسيطة يعرض برشت وقائع هيمنة التوحش النازي
المشهد الأول عنوانه "المجتمع التضامني" وهو الوصف الذي اشاعه النازيون عن الناس في الرايخ الثالث باعتبارهم كتلة متجانسة متضامنة، في مسعى لطمس الحقائق، حيث أن النازيين قسّموا المجتمع إلى طبقات، وسحقوا وقتلوا الخصوم، وكذلك من لا ينطبق عليهم وصف "المجتمع التضامني" حسب معايير هتلر، ويشمل ذلك الماركسيين والشيوعيين والمرضى والضعفاء والمعاقين والمشردين والمثليين واليهود والغجر وطائفة شهود يهوه المسيحية الرافضة للحرب ومجاميع أخرى أصغر حجماً.
يبدأ المشهد بعرض ضابطين ثملين من تنظيم SS أس أس "قوات الحراسة" سيئة الصيت والمسؤولة عن جرائم لا توصف خلال الحقبة النازية، الضابطان يسيران في محلة لا يجدانها مناسبة لتوجهاتهما، لذا يدفع الخوف أحدهما بنهاية المشهد إلى اطلاق النار عشوائيا لتنطلق صرخة من إحدى النوافذ المفتوحة تشي بإصابة أحد الناس بالرصاص.
وتتسلسل المشاهد القصيرة بعرض يوميات الخوف حتى يعرض المشهد الثاني، الذي يحمل عنوان "خيانة" تفاصيل الوشاية التي أدت الى التنكيل بجار شيوعي، كان يستمع الى برامج روسية، فجاز وصفه بأنه شيوعي، كما ورد في النص !!
ويليه مشهد "صليب الطباشير"، وهو أطول مشهد في المسرحية، ويروي تفاصيل محزنة عن الوشاية. ويركز المشهد على عرض فعاليات "كتيبة العاصفة" وهي الجناح شبه العسكري للحزب القومي الاشتراكي "النازي". وينتهي المشهد هو الآخر بكارثة، حيث يضع جندي الكتيبة، شارة الصليب الأبيض بالطباشير على ظهر من أجبره على أن يحاوره، ليكون الضحية العشوائية التالية لعناصر الكتيبة وهم يتسكعون في الشوارع بحثاً عن أعداء يصطنعونهم ويصفّونهم ليثبتوا للقائد الأوحد إخلاصهم وولاءهم.
الفصل التالي عنوانه "جنود المستنقعات" في معسكر التصفية في استرفيغن عام 1934، ويصوّر بحزن، كيف ينزع النازيون عن الناس انسانيتهم، ويحولونهم إلى كائنات مسلوبة يمكن بيعها وشرائها بسيجارة.
الرعب يدب بين السجناء ويتبادلون الاتهامات بالخيانة، وكلهم في النهاية ضحايا النازية. وينتهي المشهد، بانّ الجلاد جندي "أس أس" يسمع أحدهم وقد قال عبارة "خونة الشعب" فيغيظه ذلك، ويسأل العاملين في خلط الإسمنت من قال ذلك، وحين يسكت الجميع، يضعهم في الخندق (حيث يجري اعدامهم خلال ثوان لتتراكم جثثهم في قعر الخندق وتبقى حتى "يوم الدين" على حد وصف الجندي).
بلغة صادمة وبسيطة يعرض برشت وقائع حياة الشعب، وتشي عناوين المشاهد بنفسها إلى حد كبير بالمضامين، إذ يعرض مشهد "العثور على الحقيقة" معاناة القضاة في إحقاق القانون وتطبيقه في بلد اختلطت فيه الحقائق بأوهام الديكتاتورية، واعتمَ المشهد رعب العنف الدموي الذي يسلط على رقاب القضاة سيفاً يفقدهم صوابهم، ويفتتح هذا المشهد بمقدمة عنيفة:
"ثم يدخل السادة القضاة،
السفلة قالوا لهم
إنّ الحق هو ما يفيد الشعب الألماني.
فتساءلوا: وكيف لنا أن نعرف الحق؟
وهكذا يتحتم عليم إصدار أحكامهم
إلى أن يسجن آخر فرد في الشعب الألماني"
المشهد رقم 10 عنوانه "المخبر" ويعرض حال أسرة دبّ فيها الرعب، فبات الأبن الشاب مخبر السلطات الذي قد يبلغ عنهم كما يشك الوالدان. في مقدمة المشهد يقول برشت:
" ثم يأتي الأطفال الأعزاء
وينادون على الجلادين والقامعين
ويأخذونهم إلى البيت،
ويشيرون إلى الآباء
قائلين: خونة.
فيأخذونهم مقيدين إلى السجون.
مشاهد المسرحية ابتداء من المشهد رقم 11 تركز غالباً على الفقراء، وتعرض بطريقة أخّاذة وقصيرة معاناتهم وعوزهم في ظل اشتراكية القائد الأوحد، حيث بات غذاء الشعب البطاطس، وصار اللحم حلماً ينعم به المترفون فحسب، وبات لزاماً على الشبيبة أن تناضل للحصول على حذاء جلدي أسود، وقد يعني ذلك وشاية بأقرب الناس.
أما أرزاق الشعب فقد خربتها ماكنة الاشتراكية القومية، فالقصاب لا يجد ما يعرضه في محل جزارته، فيشنق نفسه على خطاف تعليق الذبائح في واجهة المحل وقد علق على صدره لافتة كتب عليها "لقد انتخبت هتلر"، إنه يخاف هتلر حتى وهو يموت! فيما يقرر المزارع أن يعلف الخنازير حتى إذا رفضت السلطات، رفقاً بالخنازير على الأقل.
وفي المشهد 23 تعاني الزوجة التي قُتل أخوها في اسبانيا، ومُنعت من أن ترتدي السواد حداداً عليه، ثم تنفجر في قرار حازم صارخة في زوجها وجارتها "لن أسمح لأحد أن يمنعني عن الحداد! إذا كانوا قد ذبحوه، فعلى الأقل ينبغي أن يكون مسموحاً لي بالبكاء والنحيب. لم يحدث هذا من قبل أبداً! لم ير العالم هذه الوحشية من قبل! عتاة المجرمين هم!"
المشهد 24 الختامي عنوانه استفتاء شعبي، يعرض مواقف أحزاب المعارضة، ويظهر عجزهم عن اتخاذ موقف سياسي على لسان العامل الشاب وهو يقول:
"ثم يقولون "استفتاء شعبي"، شعب واحد، رايخ واحد، قائد واحد! أيها الألماني، هل تريد ذلك؟ أما نحن، فلا نستطيع حتى أن نصدر منشوراً صغيرا واحداً حول هذا الاستفتاء هنا، في الحي العمالي في نويكولن".
مشاهد مسرحية برشت التي أعيد اكتشافها "99 في المائة" تقطّر مرارة، ولكنها ليست غريبة قط على الحياة في العالم العربي في ظل الأنظمة الشمولية المتنوعة التي تحكمه منذ عقود رغم كمية الدماء وحجم التضحيات التي بذلتها الشعوب العربية لتغيير تلك الأنظمة وإصلاح الأوضاع.
ولا يسع المرء إلا أن يتساءل: هل تعلّمت الأنظمة الشمولية العربية كل قسوتها وأساليبها الظالمة من هتلر واشتراكيته الوطنية، أم أنّه مجرد توارد خواطر بين الطغاة فرضته ظروف الجغرافيا أو التاريخ أو الوضع البشري.
حقوق النشر: قنطرة 2019