خطة إعمار من مخلفات الحرب

رجل يرتدي خوذة واقية زرقاء ومعطفًا أبيض يقف في ورشة عمل.
جاء السويداني إلى ألمانيا بعد انشقاقه عن نظام الأسد، ويعمل حاليًا باحثًا في معهد فايمار. (Photo: Institut für Angewandte Bauforschung Weimar)

يسعى أستاذ العمارة السوري عارف السويداني، من مختبره بمدينة فايمار الألمانية، على تحويل أنقاض الحرب في سوريا إلى موردٍ أساسي لإعادة البناء، وهو مقتنع تمامًا بأنّ "الاقتصاد الدائري" قد يشكّل مفتاح إعادة إعمار مستدامة لسوريا.

تقرير: عارف السويداني

بالطبع، عانت سوريا على مدار أربعة عشر عامًا، كما يعلم الجميع من حرب مدمّرة. لم تكن حربًا بمعناها التقليدي أو حربًا أهلية، بل كانت ثورة قام بها أناس مسالمون ضد القمع الذي مارسه نظام الأسد عبر أجهزته الأمنية وتأجيج الطائفية على مدار أكثر من خمسة عقود. لا تكاد توجد عائلة في سوريا إلا وقد عانت من النظام، فقدتُ ابن شقيقتي على يد عصابات الأسد التي قتلته بدم بارد، وأحرقت جثته لمجرد مشاركته بالتظاهرات.  

على الجانب الآخر، تضررت المباني والمدن السوري بشدة أيضًا، إذ قصف النظام أيّ منطقة خرجت عن سيطرته فورًا، ما خلّف دمارًا هائلاً. لا توجد احصائية دقيقة بحجم الدمار حتى الآن، لكن بحلول عام 2017، قدّر البنك الدولي أنّ نحو 30% من المباني في سوريا تعرّضت لتدمير كلي أو جزئي، وهو ما يعني عمليًا تدمير مدنٍ وأحياء بأكملها.  

على سبيل المثال، في حمص، هناك تقريبا مساحة من 40% إلى 50% مُدمر بالكامل، وتشمل أحياء شهيرة في وجدان السوريين، مثل حي الخالدية، وبابا عمر. عندما تحط الرحال إلى دمشق، هناك حي جوبر المدمر الذي زارته وزيرة الخارجية الألمانية، آنالينا بيربوك، يعاني من دمار مماثل حتى يومنا هذا، كما هو الحال في مناطق الغوطة الشرقية والغربية، وداريا والمعضمية، والحجر الأسد في قلب دمشق، ومخيم اليرموك. 

سوريا بحاجة إلى الدعم الدولي الآن

حتى سقوط نظامه، منع الأسد الوصول إلى هذه المناطق، لإجراء مسح ميداني لحجم الدمار، وحتى عندما حصلتُ عام 2018، على براءة اختراع في إعادة تدوير الخرسانة وتحسين خواصها عبر الإضافات، لم يُسمح لي بزيارة أيّ منطقة مدمرة. في كثير من الحالات، لم يتمكن حتى النازحون من فهم الوضع في منازلهم إلا بعد سقوط النظام.  

كما وردت بعض التقارير، عن وقوع دمار في مناطق لا تخضع لسيطرة النظام سواء في المناطق الشمالية أو التي تحت السيطرة الكردية، وسمعنا عن محاولات لإعادة البناء هناك خاصة في المناطق الشمالية مع تراجع وتيرة المعارك في سوريا بعد عام 2016، لكنها ظلت قاصرة ومحدودة. 

Zwei Männer und eine Frau in eleganter Kleidung gehen durch Trümmer.
زارت بيربوك، في مارس/أذار، حي جوبر المدمر. (Photo: Picture Alliance / AA/photothek.de | F. Gaertner)

صور استشراقية ضارة

 والآن، وبعد سقوط النظام، نحن بحاجة إلى الدعم الدولي لإعادة الإعمار المرتقبة في جميع أنحاء البلاد. وفي هذا السياق، نظمنا ورشة عمل دولية في أبريل/نيسان، في فايمار، عاصمة البناء، حيث أعمل منذ بداية هذا العام، بمشاركة زملاء من مركز باوهاوس للابتكار بمعهد فايمار (IAB)، المركز البحثي لاختبارات مواد البناء (MFBR)، وجامعة باوهاوس، وبدعم من الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). 

عُقدت ورشة عمل تحت عنوان: "إعادة التدوير وإعادة الإعمار - أساليب ومواد البناء لسوريا ما بعد الحرب"، بمشاركة شركات ألمانية رائدة في قطاع البناء، وسوريين من مختلف المدن الألمانية، إلى جانب ممثلين عن وزارة الأشغال والأعمال التي تتولى ملف إعادة الإعمار في سوريا، وأيضا نقيب المهندسين السوريين، وهذا يدل على رغبة من الإدارة السورية في الاستعانة بالدعم الألماني في إعادة الإعمار. 

دور ألماني

سوريا بحاجة إلى التكنولوجيا الألمانية، لما لها من باع واسع في هكذا مشروعات. فالتجربة الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية، ننظر إليها كدارسي الهندسة، كنموذج عالمي يحتذى به. كما أن الحضور السوري الطاغي في سوق العمل الألماني حاليا يساهم في بناء الثقة بين الجانبين. 

لا يجب أن ننسى أن ألمانيا احتضنت أكثر من مليون سوري فرّوا من الحرب، ورحبت بهم، بما فيهم شخصي، حيث أعمل كباحث أول في معهد فايمر، ولا أخجل من كوني لاجئاً، فقد انشققت وخلعت عباءة النظام بعد أن أجرم بحق عائلتي والسوريين.  

حمل مرآة إلى الغرب

لم تكن الورشة مجرد فعالية احتفالية، بل خطوة عملية تهدف لوضع بوصلة لإعادة إعمار سوريا. لهذا، أعمل مع فريقي حاليا على تنفيذ مشروعين تجريبيين على التوازي؛ الأول في حي جوبر بدمشق، لما له من رمزية بعد زيارة وزيرة الخارجية الألمانية، والثاني في حي باب عمر بحمص مهد الثورة السورية، وقد أبدى ممثلو الشركات الألمانية، رغبة قوية في تنفيذ تلك المشروعات. وهناك زيارة مرتقبة لهذه الشركات إلى سوريا بالتنسيق مع الحكومة السورية، لاستقصاء الوضع ميدانيا. 

من جانبها، خصصت وكالة التنمية الألمانية (GIZ)، منصة لإعادة إعمار سوريا، وأتواصل مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، وممثلين في دول أخرى، لحشد الخبرات وتطبيق مقاربات الاقتصاد الدائري في سوريا.  

إعادة التدوير تقلل من التكلفة المالية والانبعاثات الكربونية

كما نُجري أبحاثًا تجريبية في مختبرنا بفايمر الذي تبلغ مساحته 650 مترًا مربعًا حول كيفية إعادة البناء باستخدام مخلفات الأنقاض، من خلال إجراء عمل مسح ثلاثي الأبعاد للمنطقة المدمرة والمرشحة لتجربة إعادة الإعمار، وإنشاء حي سكني نموذجي باستخدام مخلفات الهدم المُعاد تدويرها، دون الحاجة إلى مواد بناء جديدة. تقلل تلك العملية، من الكلفة المالية والانبعاثات الكربونية. 

هدفنا ألا نلجأ للمصادر الطبيعية إلا عند الضرورة، مما يقلل من تكلفة إعادة الإعمار التي يُقدرها البعض بنحو تريليون دولار أو أكثر. هذه ليست أرقام دقيقة، وسيقدم المشروع التجريبي لنا قراءة تقريبية لتكلفة إعادة الأعمار، مع الاستعانة بالأقمار الصناعية أيضًا.  

يبدي البعض تشاؤما من حجم الدمار، لكني كمتخصص أقول: لا يجب أن ننظر إلى تلك الأنقاض على أنها نفايات، بل مواد خام قابلة لإعادة الاستخدام عن طريق: إزالة المباني المدمرة جزئيا بالآت خاصة، بعدها، فرز مواد البناء (الخرسانة والطوب والجص، والمعادن وحديد التسليح، إلخ)، ثم إعادة تدويرها بالتكنولوجيا الحديثة. أُدرك أن بعض الأنقاض قد تحتوي على متفجرات أو ألغام أو ربما مقابر جماعية، لكنني اعتقد أنها لا تمثل عائقًا خاصة إذا تعاملنا بشكل مسؤول مع المنظمات الدولية والمحلية المتخصصة في ذلك.  

حل الخلافات المجتمعية أيضًا

 ما يؤرقني بشدة هو مشكلة حقوق الملكية، خصوصًا في المناطق التي انصهرت فيها الأراضي، واختفت معالم حدودها وسجلاتها بسبب التدمير. وما يزيد من الطين بلة، كثير من السكان تركوا البلاد، ومن بقي هناك يعيش في منازل غيرهم. لذلك، ندرس كيفية الاستفادة من تجارب الدول التي عانت حروب من كوسوفو ورواندا، وألمانيا لإيجاد حل لها، ولا يجب أن يكون مثاليًا، ولكن مُرضي بما أمكن.  

هناك محاولات فردية لإعادة بناء المنازل الآن في سوريا، خاصة اللاجئين العائدين من الخارج أو أولئك الذين كانوا يعيشون في الخيام، يجب أن تدعم الحكومة هؤلاء أيضا وتساعدهم على البناء بأسس سليمة ومهنية وعالية الجودة. 

Zerstörte Gebäude, von der Straße fotografiert.
لم تعد العديد من المباني، كما هو الحال هنا في حمص، قابلة للترميم. لهذا يهدف السويداني إلى إعادة تدويرها. (Photo: Picture Alliance / Sipa USA | SOPA Images)

إن إعادة بناء سوريا لا تعني فقط ترميم الحجر، بل تتطلب أيضًا حل الخلافات المجتمعية العميقة التي خلفتها عقود من الاستبداد والانقسام. إن الحكم الشامل ضروري لضمان استفادة جميع السوريين من إعادة الإعمار ومنع تجدد الصراع، ولابد من ضمان مشاركة جميع الفئات - بما في ذلك الأقليات العرقية والدينية والنساء والشباب - في تشكيل مستقبل البلاد السياسي. 

بالنسبة لي، ينصب اهتمامي على هذا المشروع، حتى يستأنف قطاع البناء نشاطه من أجل توفير فرص عمل للشباب، إذ يقع أكثر من تسعين بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وفق تصريحات مسؤولين سوريين.  

يجب أن نتحلى بالصبر

تبدو آفاق المستقبل أكثر تفاؤلاً، ففي ورشة العمل التي نظمناها في أبريل/نيسان 2025، اشتكى ممثلو حكومة دمشق الجديدة، بشكل رئيسي من المعوقات التي تسببها العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على سوريا، والتي وضعت سوريا خارج نظام "سويفت" للتحويلات البنكية، إلى جانب أمور أخرى. غير أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رفع هذه العقوبات خلال زيارته للسعودية في مايو/أيار الماضي، الأمر الذي بدد مخاوف الشركات الأجنبية، ومهد الطريق للبدء لإعادة البناء. 

لدينا اجتماع مرتقب مع وكالة التنمية لإعادة الإعمار لمناقشة المشروعين التجريبيين، وفي الوقت نفسه، ننسق مع الحكومة السورية التي أبدت ترحيبُا وتسهيلاً لمقترحاتنا. كما أعمل حاليًا مع هيئة المواصفات السورية، لتحديث مواصفات جديدة للبناء، لكي تتوائم مع المتغيرات التكنولوجية وإعادة التدوير. 

ورغم ذلك، لا يزال الوضع الأمني في سوريا حساسًا، ولكن نأمل أن يتحسن الوضع. لقد عاش السوريون أكثر من نصف قرن من القهر، والاستبداد. والآن، يجب أن نتحلى بالصبر، وأن نحشد طاقاتنا وألا نعمل فرادى. 

ويبقى السيناريو الأفضل لسوريا، تحقيق إعادة إعمار شاملة ومنسقة دولياً خلال السنوات القادمة، فالسوريون قادرون، بدعم الأصدقاء والأشقاء، على النهوض من تحت الركام، وبناء مستقبل جديد يليق بتضحياتهم.  

 

إعداد: كلارا تاكسس ومحمد مجدي


نُشر هذا النص في النسخة المطبوعة المشتركة بين قنطرة ومجلة Kulturaustausch. ولمزيد من التحليلات والمقابلات والتقارير حول سوريا عبر موقعنا هنا..
 

قنطرة ©