ليبيا الجديدة بين سطوة الكتائب الثورية والأزمات السياسية
تحتاج عملية إيجاد الأمن العام وترسيخه من ناحية وجود قيادة سياسية تتمتَّع بشرعية واسعة النطاق، ومن ناحية أخرى الاعتراف باحتكار الدولة للعنف. بيد أنَّ كلا الأمرين غير متوفّر في ليبيا حتى الآن في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2012، أي بعد عام من إسقاط وقتل معمر القذافي وإعلان "المجلس الوطني الانتقالي" عن "تحرير ليبيا"، على الرغم من التقدّم الملحوظ في بناء المؤسَّسات.
وصحيح أنَّ المجلس الوطني الانتقالي قام في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011 بتشكيل الحكومة المؤقّتة التي كان يعد بتشكيلها وفقًا للإعلان الدستوري المؤقّت الذي اعتمده في الثالث من شهر آب/أغسطس 2011 وبرئاسة رئيس الوزراء عبد الرحمن الكيب وأجرى كذلك أيضًا مثلما كان مخططًا في السابع من شهر تمّوز/يوليو 2012 الانتخابات التشريعية الجديدة لمائتي نائب أعضاء المؤتمر الوطني العام الذي انتخب في التاسع من شهر آب/اغسطس المعارض السياسي المعروف منذ فترة طويلة يوسف المقريف والمولود في مدينة بنغازي رئيسًا له وبذلك وأيضًا بحكم الواقع رئيسًا للدولة، ولكن مع ذلك لقد تعثَّرت عملية تشكيل الحكومة.
خلافات على تشكيلة الحكومة تطيح برئيس الوزراء
وعلى الرغم من قيام المؤتمر الوطني العام الذي يعدّ أعلى سلطة تشريعية وقد حلَّ محل المجلس الوطني الانتقالي بانتخاب صديق يوسف المقريف الحزبي مصطفى أبو شاقور الذي يعود أصله إلى طرابلس في الثاني عشر من شهر يلول/سبتمبر وبأغلبية ضئيلة رئيسًا جديدًا للوزراء، ولكن تشكيلته الوزارية المكوَّنة من ثمانية وعشرن وزيرًا والتي قدّمها في الثالث من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر الجاري واجهت انتقادات شديدة؛ إذ انتقدت على احتوائها الكثير من المرشَّحين الوزاريين غير المعروفين وقليلي الخبرة والكثير جدًا من ممثِّلي الإخوان المسلمين (ثمانية مرشَّحين)، بالإضافة إلى احتوائها القليل من التوازن الإقليمي ولأنَّها لا تضم إلاَّ امرأة واحدة (وزارة الشؤون الاجتماعية) ولأنَّها تضم علاوة على ذلك بعض المرشَّحين مثل المرشَّح المقترح لوزارة الداخلية العميد عمر آل الأسود الذي لديه علاقات قوية مع النظام السابق، نظام معمر القذافي.
وفي يوم الأحد السابع من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر حجب المؤتمر الوطني الليبي العام الثقة عن رئيس الوزراء أبو شاقور، وبالتالي أقيل أوَّل رئيس وزراء منتخب بعد إسقاط معمر القذافي. وبناءً على ذلك صار لا بد لعملية بناء المؤسَّسات التي سارت حتى الآن مثلما تقرّر لها من تجاوز أوَّل اختبار تواجهه. وذلك لأنَّه لن يكون هناك من دون وجود وزراة "وطنية" مختصة وتحظى بقبول واسع النطاق ووزيرين محترمين لوزارتي الداخلية والدفاع، لا السياسة الضرورية لإعادة الإعمار ولا حتى الاستقرار الأمني المطلوب للمضي في عملية إعادة الإعمار. لقد ظهر بوضوح مدى هشاشة الأوضاع الأمنية في البلاد من خلال الهجوم الذي استهدف مبنى القنصلية الأمريكية في مدينة بنغازي يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الماضي في الذكرى السنوية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وراح ضحيته السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز نتيجة استنشاقه الدخان بسبب تواجده صدفة داخل مبنى القنصلية.
كشف هذا الهجوم من ناحية عن ضعف الأجهزة الأمنية الحكومية الجديدة في الحفاظ على الأمن العام وحماية البعثات الدبلوماسية، وكذلك كشف أيضًا عن ضعف الجيش الليبي الجديد التابع لوزارة الدفاع والميليشيات الثورية التي تم دمجها في الجيش، ومن ناحية أخرى عن ضعف وحدات الشرطة الخاصة بوزارة الداخلية والتابعة للجنة الأمنية العليا. وضمن إطار عملية بسط سيطرة الدولة تم دمج العديد من الكتائب الثورية في اللجنة الأمنية العليا ومع الحفاظ التام على هياكلها القيادية. وحتى الآن يحول عدم وجود حكومة قوية ووجود الكثير جدًا من الجماعات المسلحة التي لا تريد الخضوع للقيادة الجديدة وكذلك التعقيد المسيطر على الهياكل القيادية وعدم التدريب بالإضافة إلى تباين الولاءات دون قدرة قوَّات الأمن على العمل بشكل فعَّال من أجل توطيد الأمن والاستقرار في البلاد.
مقاومة الكتائب
يواجه احتكار الدولة للعنف تحديات قبل كلِّ شيء من الكتائب الثورية التي يتراوح عددها بين أربعمائة وخمسمائة كتيبة وتضم من مائة إلى ألف ثائر وقد تشكَّلت في العام 2011 نتيجة المعارك ضدّ قوَّات معمر القذافي وما يزال معظم أفرادها منذ المعارك التي دارت العام الماضي يفرضون سيطرتهم على مناطق وأحياء صغيرة بعيدًا عن مدنهم وبلداتهم. وهذه الكتائب تكوَّنت إلى حدّ كبير حسب الأصول القبلية أو الإقليمية. ولكن مع ذلك كانت توجد بعض الكتائب التي تشكَّلت على أساس إقليمي أو عقائدي. وأمَّا الكتائب التي تكوَّنت على أساس عقائدي فهي بصورة خاصة الكتائب التي تتبنى بالإضافة إلى إسقاط القذافي فكرة التوجّه السلفي الإسلامي في ليبيا الثورية.
ومن هذه الكتائب العقائدية "كتيبة أنصار الشريعة" في بنغازي ودرنة، وكذلك "كتيبة شهداء بوسليم" التي يعود أصلها إلى الجبال الخضراء و"كتيبة عمر المختار" وكتيبة الداعية المعتقل عمر عبد الرحمن أو سرايا راف الله السحاتي التي تم دمجها في الجيش أو كتيبة شهدا 17 فبراير. زد على ذلك أنَّ بعض القادة العسكريين والمقاتلين يتم اتِّهامهم بأنَّهم على علاقات بالتنظيم الإرهابي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ولكن حتى الآن لا تتوفَّر أية أدلة قوية على هذه الاتِّهامات.
وفي حين تسنى دمج جزء من أفراد الكتائب الذين يبلغ عددهم حتى الآن نحو أربعين ألفًا من "الثوَّار" طبقًا لدعوات نزع السلاح التي وجهَّها المجلس الوطني الانتقالي منذ شهر شباط/فبراير 2012 في الجيش، حيث تحافظ هذه الكتائب بتكليف من وزارة الدفاع على أمن المرافق العامة أو يتم استخدامها كجزء من وحدات التدخّل الخاصة في الصراعات المحلية مثلما حدث في الكفرة وسبها، فإنَّ الجزء الأكبر من الكتائب يتجاهل حتى الآن وعلى الرغم من رواتبهم المرتفعة الدعوات الموجَّهة من أجل نزع السلاح وتسليم الأسلحة التي بحوزتهم.
وهم يطالبون من خلال تجمعاتهم واتِّحاداتهم الإقليمية مثل اتِّحاد ثوَّار مصراتة أو تجمع سرايا الثوَّار في بنغازي أو التجمّع الوطني لثوَّار ليبيا الذي تم تأسيسه على مستوى إقليمي في شهر نيسان/أبريل 2012 برئاسة عبد المجيد الككي أولاً بتحقيق المطالب السياسية المركزية. ومن هذه المطالب قبل كلِّ شيء إصدار قانون حصانة لجميع الأعمال التي ارتكبت خلال الحرب ودفع تعويضات بالإضافة إلى وجود تمثيل مناسب "للثوَّار" داخل الهيئات السياسية.
المطالبة بخلق فرص عمل
غير أنَّ هذا غير متوفر لهم لا في المؤتمر الوطني العام ولا في الحكومة المقترحة برئاسة أبو شاقور التي عزل منها وزير الدفاع العقيد أسامة الجويلي القائد السابق لكتائب الزنتان. لكن من ناحية أخرى يطالب أعضاء الكتائب بأن تخلق لهم فرص عمل مدني بدلاً عن خيار دمجهم في الجيش. وهناك أيضًا قسم صغير - يعدّ كذلك جزءً من مشهد ما بعد الصراع - قد كرَّس نفسه لممارسة الأنشطة الإجرامية المربحة مثل التهريب وتجارة السلاح والاتجار بالمخدرات، ويعارض بشدة الضغوطات الرامية إلى تفكيك الميليشيات وتسريح أعضائها.
وأخيرًا تشكِّل بعض الكتائب الموجودة في منطقة بني وليد، أي في منطقة قبيلة ورفلة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمعمر القذافي والقذاذفة والتي ما تزال تعتبر مثل ذي قبل معقلاً للمعارضة المناوئة للقيادة الجديدة حالة خاصة من نوعها. وتلك الكتائب ما يزال فيها الكثير من أنصار القذافي كما أنَّها في حالة تنافس مع ميليشيات منطقة مصراتة المجاورة والواقعة في الشمال والتي تعرف باسم "عاصمة الثورة". ولكن مع ذلك يبقى نفوذها السياسي وقدرتها على الإخلال بتشكيل الحكومة محدودين للغاية.
ومع ذلك إنَّ حركة المجتمع المدني والاحتجاجات التي خرجت إثر قتل السفير الأمريكي في بنغادي كريستوفر ستيفنز تجعلنا نأمل في أن تتم السيطرة على الكتائب ودمجها في هياكل الدولة أو تسريح أعضائها على مراحل. فقد خرجت من ناحية في الثالث والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر في بنغازي مظاهرة كبرى تراوح عدد المشاكين فيها بين ثلاثين ألف وأربعين ألف متظاهر تحت شعار أنقذوا بنغازي بالتوازي مع خروج مظاهرات مماثلة ولكن أصغر في مدينتي طرابلس ودرنة. وقد كانت تلك المظاهرات موجَّهة ضدّ الكتائب التي تعمل بشكل مستقل وكذلك أيضًا وقبل كلِّ شيء ضدّ تلك الكتائب الإسلامية - مثل أنصار الشريعة - التي تتّهم بتورّطها في الهجوم على القنصلية الأمريكية.
ومن جانبه أصدر رئيس المؤتمر الوطني العام محمد المقريف في الثالث والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر الماضي أمرًا يقضي بحل جميع الكتائب التي لم يتم دمجها في الجيش أو في اللجنة الأمنية العليا، ولكن في الواقع من دون أن يكون قادرًا على تنفيذ هذا الأمر. وينطبق هذا أيضًا على قانون الطوارئ الذي أقرَّه المؤتمر الوطني العام في السابع والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر الماضي.
وفي الحقيقة يظهر قانون الطوارئ هذا بوضوح أنَّ القيادة السياسية الليبية وكذلك غالبية المواطنين غير مستعدة للرضوخ فترة طويلة لضغوطات الميليشيات ومقاومتها. ولذلك على الأرجح أن يتم على المدى المتوسط أخضاعها أو حلِّها. وكذلك بدأ العمل على جمع الأسلحة المنتشرة منذ بدء الأعمال القتالية في العام الماضي 2011 والتي يوجد من بينها على الأقل نحو مائتي ألف بندقية آلية. وقد كانت الحملة الأولى لجمع السلاح في أواخر شهر أيلول/سبتمبر في طرابلس وبنغازي أكثر من مجرَّد حملة رمزية على الرغم من عدم ميول الكثيريين في أجزاء أخرى من البلاد إلى تسليم أسلحتهم نطرًا إلى الأوضاع الأمنية غير المستقرة.
هانسبيتر ماتِّس
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012