أعمال مشبوهة تعطل الاستثمار

عند الساعة التاسعة مساءً، أقود سيارتي ببطء على أوتوستراد فايز منصور في دمشق، أراقب الطريق بحثًا عن هدف محدد. كانت بعض الفتيات قبل سقوط الأسد يعملن في الدعارة علنًا، لكن هذا المشهد تراجع بشكل كبير ولم يبقَ منه سوى القليل. في الطرف الآخر من المدينة، انتعش نشاط الصرافين بعد انهيار النظام، حيث أصبح تداول العملات الأجنبية علنيًا بعد سنوات من الممارسة في الخفاء، أما حبوب الكبتاغون التي كانت منتشرة بشكل واسع أصبحت التجارة فيها أقل من المعتاد.
كانت أنشطة الدعارة، الكبتاغون، وتجارة العملة، ركائز الاقتصاد غير الرسمي تحت حكم عائلة الديكتاتور الأسد وخلال الحرب الأهلية، حيث مثلت أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا في عام 2023، وقد يظن من يسير في شوارع دمشق اليوم أن تلك الأيام قد ولّت، لكن أي شخص ينظر عن كثب يدرك سريعًا أن الأمر ليس بهذه البساطة.

مئة عام من التحولات داخل بيت سوري
من الاستعمار الفرنسي إلى حكم آل الأسد، لم يعرف منزل كاتبنا سوى الاستغلال والتشويه، حتى أنه تحوّل إلى مقرّ عسكري. واليوم، تحاول عائلته أن تبعث روحه من جديد.
ومن المؤكد أن الاقتصاد الموازي في سوريا ازدهر على وجه التحديد خلال الحرب التي امتدت نحو 14 عامًا، ويتجلى ذلك في مثال الدعارة، حيث دخلت العديد من النساء سوق العمل، بسبب نقص المعيلين الذكور سواء نتيجة التجنيد أو الهجرة أو الوفاة، ولكن، بسبب غياب الحماية القانونية والرقابة، تم دفع بعضهن نحو القطاع غير الرسمي، سواء بالقوة أو تحت ضغط اقتصادي. وقد شهدت الدعارة، التي تُعتبر جريمة في سوريا، تزايدًا متسارعًا على مرّ السنوات.
وبحسب برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالإيدز، فقد قدّر عدد العاملات والعاملين في الجنس بنحو 25 ألفًا عام 2016، وبعد خمس سنوات فقط، سجّلت المنظمات غير الحكومية ارتفاعًا بنسبة 60٪.
من بين هؤلاء، سناء، 24 عامًا، قبل سقوط نظام الأسد، كانت تعمل مع خمس فتيات أخريات في منزل بحي عش الوروار بدمشق. في ذلك الوقت، وظفها "أبو فتحي"، وهو مساعد أول في جهاز الأمن السوري، الذي كان ينقلهن يوميًا في أنحاء المدينة ويوفر لهنّ الحماية والزبائن.
في المقابل، كان أبو فتحي، يحصل على 70٪من أجورهن، التي تراوحت بين 33 دولارًا و100 دولار، ويحوّل جزءًا منها لاحقًا إلى ضابط أعلى مرتبة، حيث كانت شبكات الدعارة تُدار أحيانًا من قِبل ضباط من جهاز المخابرات الجوية.

ومع سقوط نظام الأسد، اختفى أبو فتحي وداعموه، كما أُغلق رسميًا أحد الملاهي الليلية الذي كانت تعمل فيه عاملة جنس تدعى دعاء، التي اختفى زبائنها من ميليشيات "الشبيحة" الموالية للأسد، غير أن بعض أبناء العائلات الميسورة ظلّوا يترددون عليها بحذر. اختبأت دعاء -كما سناء-، في منزلها لمدة أسبوعين في ديسمبر/كانون الأول 2024، خوفًا من الأوضاع الجديدة، ثم عادت تدريجيًا إلى نشاطها، لكن بثياب أكثر تحفظًا. كما فعلت العديد من زميلاتهنّ، ولم يعدن يقفن يوميًا في أوتستراد فايز منصور.
أما راوية، 38 عامًا، المقيمة في حي التضامن، فهي تعتمد الآن على الوسائط الإلكترونية للتواصل مع الزبائن، تجنبًا للظهور العلني الذي بات محفوفًا بالمخاطر. سابقًا، كانت علاقتها بأحد الضباط الأمنيين الذين توفر لها حماية نسبية مقابل خدمات جنسية، أما اليوم، ورغم أن قائمة زبائنها تتضمن شخصًا محسوبًا على السلطة الجديدة، إلا أنها لا تزال تشعر بعدم الأمان وتخشى مما قد يحمله المستقبل.

سوريات يحدوهن الأمل في تجنيس أطفالهن
في الوقت الذي تسعى الحكومة السورية الجديدة مكافأة آلاف المقاتلين الأجانب بمنحهم الجنسية السورية، تأمل سوريات، أرامل مقاتلين سابقين، أن يشمل القرار أطفالهن الذين يعيشون بلا جنسية.
تجارة الكبتاجون
في الجانب الآخر من أحد الأحياء الهادئة قرب دمشق، اقتحمت عدسات الكاميرات مشاهد لم يكن يتخيلها أحد. داخل فيلا فاخرة مهجورة، كانت الأرضية مغطاة بأقراص بيضاء صغيرة، مخبّأة داخل عبوات مخصصة لمنتجات صناعية، فيما ظهرت معدات دقيقة موصولة بأجهزة تسخين وتحليل، كأنها جزء من مختبر كيميائي متطور. لم يكن هذا مشهدًا عاديًا؛ بل أحد أوضح الأدلة على تحوّل سوريا، في عهد بشار الأسد، إلى أكبر مركز إقليمي لإنتاج وتصدير الكبتاغون، المخدر المعروف بـ"كوكايين الفقراء".
وبحسب معهد "نيولاينز" للاستراتيجيات والسياسات الأمريكية، والحكومة البريطانية، كانت سوريا مسؤولة عن نحو 80% من الإنتاج العالمي للكبتاغون، وهو الاسم التجاري لمادة "فينثيلين" المنشطة، التي تُصنّع غالبًا على شكل أقراص بيضاء تُحفّز الجهاز العصبي المركزي. كان يُهرّب عبر شبكات عابرة للحدود، حتى بلغت قيمته السوقية داخل سوريا ما بين 1.9 و5.6 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2023، وفقًا للبنك الدولي، لتتجاوز بذلك جميع الصادرات المشروعة للبلاد.
وبعد توليه السلطة، أعلن الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، حملة تطهير البلاد من المخدرات، مما أدى إلى تراجع وتيرة تجارة الكبتاغون داخل سوريا بشكل ملحوظ، إلا أنها لم تتوقف تمامًا.
يقول عماد، 29 عامًا، من مدينة جرمانا جنوب دمشق، إن "بيع الكبتاغون لم يتوقف كليًا"، مضيفًا أن سعر الحبة الواحدة لم يتغير: ما زالت تُباع بـ5000 ليرة سورية (نحو نصف دولار). ويوضح أن الفارق الوحيد عن الوضع السابق، أن التجار والموردين نقلوا نشاطهم عبر الإنترنت.
ولا تزال الحبوب تُنتج في مواقع معروفة داخل سوريا ولبنان، بحسب عماد، ويصل جزء منها إلى الخارج. وكانت السلطات العراقية قد أعلنت، في مايو/أيار 2025، عن ضبط أكثر من طنّ من حبوب الكبتاغون المهرّبة من سوريا عبر تركيا، في أكبر عملية من نوعها منذ سقوط الأسد.
ولم يؤدٍ انهيار نظام الأسد إلى اختفاء شبكات المخدرات، بل تسبّب بتفككها وانتشارها عبر الحدود، بحسب تقرير صادر عن معهد "جيجا فوكس الشرق الأوسط"، إذ رغم تدمير منشآت ضخمة واعتقال مهربين كبار، فإن المعرفة والمعدات الخاصة بالإنتاج ما زالت متوفرة، ما سمح بظهور مختبرات صغيرة ومتنقلة، خصوصًا في المناطق الحدودية مثل لبنان، حيث يسهل تشغيلها من فاعلين محليين.
والدليل على هذا، في مايو/أيار 2025، أفادت السلطات العراقية بمصادرة أكثر من طن من أقراص الكبتاغون المهربة المستوردة من سوريا عبر تركيا. وكانت هذه أكبر عملية من نوعها منذ الإطاحة بالأسد. تغير المشهد في الشوارع، لكن التجارة لاتزال مستمرة.
سوق الصرافة
لا ينطبق هذا على الدعارة وتجارة الكبتاغون فحسب، بل ينطبق أيضًا على جزء ثالث للاقتصاد السوري غير الرسمي، سوق الصرافة. في عهد الأسد، كانت الدولة تسيطر على سوق الصرافة والتحويلات، حيث فُرضت ضرائب خفية وصلت أحيانًا إلى 50% من قيمة الحوالات بسبب الفارق الكبير بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء.
يقول أحدهم، فضل عدم الكشف عن اسمه: "كان النظام يستولي على 30% من أرباحنا، وكنا نتعرض للاعتقال والابتزاز بشكل منتظم من الفروع الأمنية"، غير أن الوضع اختلف الآن: "الأمن أصبح أفضل، لكن حجم العمل أقل".
بعد سقوط النظام، انتقل عمل الصرافة من الأزقة وزوايا الشوارع إلى واجهات المحلات غير المرخصة، حيث تُجرى عمليات الصرف الآن بشكل علني ولكن دون رقابة.
حاول مصرف سوريا المركزي، لاحقًا فرض ضوابط وشروط ترخيص صارمة على شركات الصرافة، لكن تلك الخطوات قوبلت برفض من المستثمرين، ويرى الكثير من خبراء الاقتصاد السوريين، أن تدخل الدولة في السوق هو استمرار للسياسة القديمة.

"يجب إبقاء من يحكمون تحت ضغط النقد"
لأول مرة منذ أحد عشر عامًا، عاد الكاتب والمعارض السوري ياسين الحاج صالح إلى وطنه، ليجد بلدًا تمزقه الصراعات الداخلية، ويخيم عليه القلق من عودة الاستبداد.
ورغم فوضويتها، يرى بعض خبراء الاقتصاد، في الصرافة غير الرسمية كسرًا لاحتكار الشركات المعتمدة، في حين يعتبرها آخرون عاملاً مهددًا للاستقرار المالي، نظرًا لكونها خارج القانون وتحرم الدولة من مصادر ضريبية مهمة.
وسواءً تعلق الأمر بالدعارة، أو الاتجار بالمخدرات، أو بتهريب الأموال، تكشف ملامح الاقتصاد غير الرسمي بعد سقوط النظام عن واقع هشّ ومتشظٍ، حيث تنتعش أنشطة خارجة عن القانون في ظل غياب منظومة رقابية فعالة. ففي دمشق، تتقاطع الحاجات المعيشية الأساسية مع شبكات النفوذ القديمة والجديدة. وبينما تبدو بعض الظواهر كأنها تحرر من قبضة الدولة الأمنية، فإن استمرار الفوضى وغياب الحوافز للعمل النظامي، يهددان بإعادة إنتاج الهشاشة ذاتها تحت مسميات جديدة، في اقتصاد ما يزال يبحث عن معايير واضحة للعدالة والاستقرار.
ورغم من انخفاض تكاليف الإنتاج في سوريا مؤخرًا بشكل سريع مقارنةً بالدول المجاورة، وإقرار السلطات الجديدة إعفاءات ضريبية واسعة، لا يزال المستثمرون مترددين في دخول السوق الرسمي. ويبدو أن الكثير منهم يشعر بأنه على الرغم من تغير مظهر البلاد، إلا أنها لا تزال تعاني من مشاكل هيكلية قديمة، مثل ضعف البنية القانونية، ونقص الدعم الحكومي للصناعات المحلية، والجذور العميقة للقطاع غير الرسمي.