مصر: سلطوية أصدق
السلطوية ليست حالة قانونية بالضرورة. فصرعة دولة الحزب الواحد، والاستبداد المقونن علناً في نصوص الدساتير، خفتت تدريجياً منذ وقت طويل.
وليست السلطوية أيضاً محض حالة من القمع، ترتكن إلى تعميم الخوف ويومية الترويع. فكل سلطوية قامت في جزء منها على تحقيق وعد بمقايضة الحقوق ببعض الطمأنينة. وكذا، ليست السلطوية مجرد بنية من الأكاذيب التي تبثها ماكينات البروباغندا، حتى يتلاشى الواقع أمام زيفها. فحتى تلك الأوهام، إن صدّقها الناس لبعض الوقت، تضحي واقعاً لهم، يناكفون السلطة على محكاتها.
لكن السلطوية هي تلك الازدواجية بين القانوني وغير الرسمي، بين الخوف والشعور بالأمان، وبين ما تقوله السلطة وما تفعله، وبين المعلن والمخفي الذي يعرفه الجميع. فالمساحات الرمادية بين تلك الأضداد، وحالة الغموض المتعمد التي تكتنف انتقائية السلطة وممثليها في تنفيذ القانون أو الإقرار عملياً بالحقوق غير المفعّلة، هي جوهر السلطوية ومحركها الأكفأ والأطول عمراً.
يغرق المحكومون بين شقي الهوامش هذه، لمراوغة قواعد تسييرها، وهي قواعد غير متسقة، على أمل انتزاع ما يمكن انتزاعه منها ولو من باب الصدفة. أما الأشجع بينهم، فيسعون إلى تضييق تلك الهوامش والمسافة بين حدودها، بمواجهة السلطة ومحاولة إرغامها على مطابقة خطابها بما ينفذ بالفعل، والكشف عن المخفي ليدخل إلى حيز العلني ويطابقه.
نظام مبارك أتقن ألاعيب السلطوية تلك
كان نظام حسني مبارك، عبر ثلاثة عقود من الخبرة، قد أتقن ألاعيب السلطوية تلك. ونجح في أن يدفع الجميع إلى أن يكونوا جزءاً منها. فكل ممارسة وخطاب ومؤسسة، كانت دائماً عند ذلك الحد الفاصل بين القانون واللارسمية. حتى منظمات المجتمع المدني، التي نشطت في عصر مبارك، كانت مثالاً لتراكب طبقتين من ألاعيب الهامش. فالأجندة الحقوقية لتلك المنظمات دفعتها إلى الاتكاء على قانون النظام نفسه ودستوره، وخطابه، لدفعه إلى ردم الهوة بينها وبين ما يتم تنفيذه.
وفي الوقت نفسه، فإن النظام أصرّ على إرغام تلك المنظمات ذاتها، على هامش القانوني/اللارسمي. فمعظم المنظمات الحقوقية، في عصر مبارك، وإن كان نشاطها قانونياً من حيث المبدأ، ظلت وضعيتها معلقة بلا حسم قانوني، بشكل متعمد.
ورغم أن اتساع الهوامش السلطوية، وتنوعها وتعدد مراكزها وتفاوت تناقضاتها، منحَ نظامَ مبارك مرونةً مكّنته من الاستمرار وبأقل حاجة إلى التعويل على القوة المباشرة، إلا أن ذلك الاتساع ليس نعمة دائمة. فخلال السنوات الأخيرة لمبارك، فقد النظام قدراً لا بأس به من قدرته على السيطرة على هوامش الرسمي وغير الرسمي، اتساعها المضطرد من ناحية، واضطراره إلى تضييقها من ناحية أخرى.
النظام الحالي، حفظ منذ يومه الأول، درس السقوط المدوي لمبارك، ومرونة نظامه التي انقلبت ضده. لا يبذل عبدالفتاح السيسي الوعود عن غد أفضل، فالوضع الاقتصادي سيء، وسيظل، وهو لا يكذب، فلا تعليم ولا صحة في مصر كما يقول.
القمع هو أداة السلطوية الصادقة الوحيدة
لا يرفع إعلام النظام شعارات حقوق الإنسان أو الديموقراطية، "القوة الغاشمة" هي الحل، يكررها الرئيس نفسه مرة بعد مرة. ويتبارى إعلام النظام في الترويج للاستبداد، ولا يحاول تزييفه. الأمر كله علني، فلا أحد يخفي أن جهاز المخابرات يشتري منصات الإعلام الخاصة ويديرها، بعدما كان الأمر يحدث من خلف الستار.
يخطف النظام المرشحين المحتلمين للرئاسة علناً، ونراهم على شاشات التلفزيون بكل أريحية. ويضرب، في الطريق العام، الرئيس السابق لأكبر جهاز رقابي، ونائب مرشح محتمل. مرشحان في السجن، وآخر تحت الإقامة الجبرية، قبل حتى أن تبدأ الانتخابات. بلا خجل، وبلا مواربة، يصدر النظام تعليمات لحزب بعد آخر، للدفع بأحد أعضائه للانتخابات.
الأمر علني، ولا أحد ينكره أو حتى يحاول تجميله. تخرج مقالات الرأي في الصحف، لتلوم النظام على أنه لم يكن مستعداً بوقت كافٍ لحبك التمثيلية. فالأمر تمثيلية كما يعترف الجميع، لكن إخراجها لم يكن مرضياً بما يكفي. أبداً لم يكن الأمر، من قبل، بهذا الوضوح والعلنية والصدق.
لكن النظام الحاكم حاليا بالفعل ليس مهتماً بتجميل عملية الانتخابات، بل على العكس، يتعمّد تسخيفها والسخرية منها وإهانتها إلى أبعد حد. النظام لا يكذب، ولا يريد أن يكذب، فلا هوامش من أي نوع، وإن وُجدت فهي أضيق ما يكون. يمنّي البعض نفسه بأن تلك النسخة من السلطوية الخشنة، أقصر عمراً بالضرورة، من فرط تصلبها وافتقادها للمرونة. إلا أن هذا ليس صحيحاً دائماً.
تعيش السلطوية الصادقة مع نفسها، كما تعيش السلطوية المرنة، وربما أطول. لكن، ولأن أدواتها قليلة، وتنتهي إلى أداة واحدة في معظم الأحوال، هي القمع، فإن ضحاياها أكثر، وأثمانها فادحة جداً.
شادي لويس
شادي لويس، كاتب وأخصّائي نفسي مصري، مقيم في لندن، مهتمّ بتحليل البنية السيكولوجية للخطاب السياسي في المنطقة العربية.
حقوق النشر: المدن 2018
موقع قنطرة ينشر المقال بالاتفاق مع الكاتب وصحيفة المدن.