تونس: كيف صعد قيس سعيّد وكيف تمكّن؟
«إن الناس يصنعون تاريخهم بيدهم؛ إنهم لا يصنعونه على هواهم، لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم بل في ظروف يواجَهون بها، وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي».
– كارل ماركس، «الثامن عشر من برومير: لويس بونابرت»
في غفلة من الجميع، كأنه «صاعقة في سماء صافية»، صعد قيس سعيد إلى رئاسة تونس خريف عام 2019، وفي حدود الغفلة نفسها، قام بتأميم الصراع السياسي المحتدم في البلاد، مساء 25 تموز 2021، جامعًا ما كان مفرقًا من سلطات ونفوذ وقوة بيد واحدة. يبدو هذا التوصيف المثالي لما حدث في تونس مقنعًا للوهلة الأولى. تغذي جاذبيته، أوهام خصال الفرد البطل المخلص. بيد أن التوقف قليلًا أمام المسار الذي سلكته البلاد منذ انتفاضة 2011، المغدورة، حتى عشية 25 تموز على الأقل، سيكشف لنا بعدًا آخر، يبدو غائبًا أو مغيبًا عن تحليل الوضع السياسي في تونس، في ظل هيمنة غير مفسرة للتحاليل القانونية والسياسية المبتورة عن واقعها المادي، بتأثيرات من المدرسة السائدة في جامعات البلاد.
يحاول هذا المقال النظر إلى ما حدث في 25 تموز الماضي من زاوية أخرى، تزعم أنها أكثر جذرية في مقاربة الحدث، أي من زاوية الصراع الطبقي الذي أوجد ظروفًا وشبكة علاقات معقدة، مهدت الطريق لقيس سعيّد للصعود إلى السلطة أولًا، وثم الانفراد بها لاحقًا.
اختراع «الطبقة الوسطى» في دولة الحزب الواحد
شكلت لحظة الاستقلال السياسي في تونس (1956) صدمةً للنخب الحاكمة الصاعدة، ذلك أن الحركة الوطنية -التي تسلمت قيادة الدولة- وجدت نفسها في وضع صعب، حيث كانت الأوضاع الاقتصادية شديدة التخلف، في ظل انتشار الفقر والأمية، باستثناء وجود طبقة أقلية محظوظة من بقايا الأرستقراطية التونسية العتيقة أو كبار الملّاكين، الذين ارتبطت مصالحهم على مدى عقود مع سلطة الاحتلال الفرنسي. بدأت السلطة الجديدة في بناء نظام سياسي شموليّ يجمع في يد واحدة السلطة والثروة، واستقر هذا النظام بشكل تام في حدود العام 1964، حيث تحوّل الحزب الاشتراكي الدستوري إلى قائد للدولة والأمة، وتم حلّ جميع الأحزاب السياسية، وإلحاق المنظمات النقابية والفئوية (المرأة، الشباب، الطلبة) بالحزب.
هذا النموذج من التنظيم السياسي، الذي كان سائدًا في الجمهوريات العربية خلال حقبة ما بعد الاستعمار المباشر، كان يتطلب بناء قاعدة اجتماعية للنظام، وهي الطبقة الوسطى، وهذه الطبقة تحتاج في مقابل استدامة هذا الولاء والدعم سياسات اجتماعية وتحقيق جزء من توقها للعدالة الاجتماعية. لذلك، توجهت الدولة نحو بناء قطاع عام من خلال قيامها بنفسها بعملية التراكم الرأسمالي، كما فككت البُنى الإنتاجية القديمة وطوّرت بُنى رأسمالية جديدة زراعية وصناعية، وتكفلت بالقطاعات التداولية والتوريد والتصدير والزراعة، والأهم من كل ذلك تطوير منظومة رعاية اجتماعية تقوم على مجانية التعليم ومجانية الصحة، وقطاع نقل بأسعار رمزية، ومجانية الثقافة وتوسيع نطاق نشرها.
كان النظام في ذلك الوقت واعيًا بضرورة إنتاج نخب جديدة لدعم أجهزة الدولة الإيديولوجية (التعليم، الثقافة، الدين)، وتزامنًا مع انعقاد «مؤتمر المصير» (المؤتمر العام للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم) في العام نفسه، تم إقرار نظام الحزب الواحد ضمنيًا نحو سياسة اشتراكية إصلاحية سُميت حينذاك بـ«التعاضد». خلال هذه الحقبة، ارتبطت الشرائح الوسطى في تونس، من موظفي الجهاز الإداري للدولة وصغار الكسبة وصغار الفلاحين بالدولة على نحو قوي، من خلال نوع من المقايضة الطبقية؛ بحيث تقايض الرعاية الاجتماعية لهذه الطبقة السائدة اجتماعيًا، في مقابل حصولها على الولاء وتوطيدها دعائم النظام. وكان الاتحاد العام التونسي للشغل هو الجسم الذي يشغل دور الوسيط بين الدولة وقاعدتها الاجتماعية، والراعي لهذه المقايضة الطبقية السلطوية.
"أفقدت الخصخصة الطبقات الوسطى مساحة أمانها الاجتماعي ولم تحقق لها أي هامش من الحريات العامة، فضلًا عن الديمقراطية، التي كان مجرد الحديث عنها كفيلًا بأن يقود صاحبه إلى السجن".
لكن هذه المقايضة الطبقية لم تلبث أن تعرضت للكثير من الهزّات. ومع بداية السبعينيات بدأ النظام يفقد ولاء المنظمات الشعبية الوسيطة، مع دخوله ما عُرف بمرحلة «الانفتاح الاقتصادي» التي قادتها حكومة الهادي نويرة (1970-1980)، والتي فتحت الباب أمام الرأسمال الأجنبي وبدأت في تحرير قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والتجارة الخارجية. في العام 1972، وفي أعقاب مؤتمر «قربة» خسر النظام ذراعه الطلابي، بعد انقسام الحركة الطلابية وتفكك الاتحاد العام لطلبة تونس، بين شق يساري معارض، وشق موالٍ للسلطة، وأصبحت الجامعة منذ ذلك الوقت تحت سيطرة المعارضة اليسارية الراديكالية.
لاحقًا، وفي العام 1978، دخلت السلطة في صراع مع الاتحاد العام التونسي للشغل، بلغ ذروته في أحداث كانون الثاني 1978، التي شكلت لحظة الانفصال التاريخية بين النظام ورديفه النقابي، بعد إقرار الإضراب العام العمالي واعتقال قيادة الحركة النقابية، الذين كانوا قبل سنوات قيادات في الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم. شكلت عشرية السبعينيات بداية تآكل الولاء التاريخي للطبقة الوسطى لنظام الحزب الواحد، لكنها بقيت دائمًا تعول على إمكانية إصلاح النظام، ذلك أنها كانت وفي الوقت الذي تبحث فيه عن متسعٍ من الحريات، لا تريد التفريط في مكاسبها الاجتماعية، أي أنها تريد دولة رعاية دون حزب واحد.
لاحقًا، ازداد اتساع الفجوة بين النظام وقاعدته الاجتماعية، حيث دخلت الدولة في عملية تحرير الاقتصاد على نحو تصاعدي بداية من العام 1986، من خلال برنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي، ثم مع صعود زين العابدين بن علي عام 1987، أخذت الشرائح الوسطى في تونس تسلك مسارات أخرى غير الاعتماد على الدولة في مصادر دخلها. وتزامن ذلك مع اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر وفرض الحصار الدولي الجوي ضد ليبيا، الأمر الذي خلق مساحة تراكم جديدة هي التداول عبر الحدود، بشكله القانوني التصديري أساسًا أو بأشكاله غير القانونية عبر التهريب، وهو ما مكّن قطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة المستقرة على الأطراف من مراكمة فوائض هامة، وتشغيل قوة عمل كبيرة في هذا النشاط التداولي التجاري، وخلق شرائح وسطى جديدة لا تعتمد في دخلها على العمل في الدولة (الجهاز البيروقراطي) أو ضمن القطاع العام. وهذا ما جعل هذه الشرائح الجديدة متخففة من همّ المقايضة الطبقية التي كانت سائدة في ولائها للنظام السياسي، أي أن استقلالها المادي عن الدولة جعلها أكثر جسارة في مواجهتها وأقل ولاءً لها، وهذا ما سيظهر لاحقًا في الانتفاضات التي شهدتها تونس قبل الانتفاضة الكبرى في 2011، سواء في الحوض المنجمي عام 2008، أو في مدينة بنقردان على الحدود مع ليبيا عام 2010، أو حتى خلال السنوات الأخيرة في بعض المدن الحدودية.
كانت السردية السائدة حينذاك أن الاقتصاد التونسي يسير في اتجاه التحرير والخصخصة. وفقًا لهذا النهج، سيؤدي التحرير الاقتصادي إلى تقوية القطاع الخاص، وبالتالي الطبقات الوسطى المستقلة عن الدولة، وهو ما سيقود في النهاية إلى التعددية والليبرالية السياسية. لكن الذي حدث في الواقع أن الخصخصة أفقدت هذه الطبقات مساحة أمانها الاجتماعي، ولم تحقق لها أي هامش من الحريات العامة، فضلًا عن الديمقراطية، التي كان مجرد الحديث عنها كفيلًا بأن يقود صاحبه إلى السجن.
تونس: خيبة الأمل ما بعد الثورية
عندما جاءت لحظة 2011، التي توجها زين العابدين بن علي بذلك الهروب غير المتوقع، كانت الروابط بين النظام وقاعدته الاجتماعية، الطبقة الوسطى التي اخترعها بنفسه ورعاها لعقود، قد وصلت إلى حد من الاهتراء لم تعد معه جميع السياسات الترقيعية قادرة على إعادة الوهج لتلك المقايضة الطبقية، ذلك أن النظام الذي وضع جميع البيض في سلة الرأسمال الأجنبي، قد وجد نفسه في أعقاب الأزمة العالمية عام 2008 يعاني ويلات هذا الارتباط الخارجي، حيث إن الدولة قد استقرت منذ التسعينيات على نموذج تنموي قائم على التخصص في الصناعات التصديرية منخفضة التكنولوجيا. وفضّلت أن تكتسب بشكل أساسي قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية من استخدامها الوفير للعمالة غير الماهرة منخفضة التكلفة.
هذا النوع من الاندماج في الاقتصاد العالمي كانت له عواقب وخيمة على أوضاع هذه العمالة، حيث تعتمد قدرته التنافسية بشكل أساسي على ضغط الأجور وتآكل الحقوق الاجتماعية. حتى وصلنا إلى حدّ انفصال هذا السديم الديموغرافي الواسع، الذي يسمى طبقة وسطى، عن النظام، بوصفه قاعدته الاجتماعية، ومنذ بداية الألفية الجديدة أصبح النظام السياسي الحاكم يمثل طبقة أقلية برجوازية كبيرة، تضم روافد متنوعة من بقايا البرجوازية التقليدية، وروافد جديدة تشكلت من عوائل تربطها قرابة دم بالرئيس وزوجته، وهذا الانفصال هو الذي أشعل موقد الاحتجاجات المديدة التي بدأت باكرًا، في شكل نخبويّ منذ نهاية التسعينيات، وانتهت في كانون الثاني عام 2011 بهروب الرئيس.
في هذه الفاصلة الزمنية غير المسبوقة سادت تحليلات بأن النظام قد سقط عند لحظة الهروب تلك، ودخلنا في عملية بناء نظام جديد، لكن ذلك لم يكن إلا وهمًا، اكتشفناه بعد شهور قليلة، وبعضنا بقي يكابر إلى ما بعد 2014. واكتشفنا أن النظام أعاد تشكيل نفسه وفقًا لتحولات ما بعد 2011، لكنه حافظ على مصالح الطبقة المهيمنة، بأدوات جديدة، أضاف إليها شخصيات وكيانات جديدة، على رأسها «الإسلاميين». حيث بدا للبعض أن هذا النظام مجرد شخصيات أو أحزاب أو سلطة سياسية مفارقة لقاعدتها الاجتماعية، لكن هذه المكونات، وإن كانت الجزء الظاهر من النظام، إلا أنّها لا تشكل إلّا جزءًا بسيطًا قياسًا للطبقة الأقلية متشابكة المصالح، والتي تسيطر على السلطة والثروة منذ عقود، وتعيد إنتاج نفسها من خلال الهيمنة على الأجهزة الإيديولوجية والقمعية للدولة والسيطرة على جهازها البيروقراطي.
النظام أشبه بلفياثان هوبز، ليس كيانًا واحدًا، بل يتكون من كيانات متعددة مدمجة معًا، وعملية تفكيكه وإعادة بناء أفق جديد لا يمكن أن تتم خارج فكرة إعادة بناء نظام توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة. وعند اللحظة التي قررت فيها كل من حركة النهضة الإسلامية وحركة نداء تونس، وهي الامتداد التاريخي للنظام، التوافق والحكم معًا، بدت الصورة أكثر وضوحًا، واتضح أن سقوط النظام لم يكن إلا وهمًا. بيد أن الطبقة الوسطى، المترددة دومًا، قد دعمت هذا التوافق، ومنحت شرائحها المحافظة أصواتها للإسلاميين فيما توجهت الشرائح الليبرالية نحو الباجي قائد السبسي، أملًا في أن يحسّن هذا التحالف أوضاعها التي ازدادت سوءًا بعد 2011.
من جانبها كانت حركة النهضة قد توجهت منذ دخولها إلى السلطة، وخاصة منذ الهزة التي حدثت لجماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013، نحو الانخراط ضمن المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، بدل محاولة إنهاء أو إلغاء هذه الطبقة والحلول مكانها، كما كانت تفكر في سنوات التأسيس وما بعدها. فقد تحول مشروع الحركة من «محاربة الدولة» إلى «التمتع بها» والاستفادة من مروحة عريضة من الامتيازات والمصالح، الأمر الذي جعلها تعدل من برنامجها. فبعد عقد التسعينيات انهارت المشاريع الكبرى للحركة الإسلامية عالميًا، ولم تعد مشاريع كالخلافة أو الشريعة أو المجتمع المسلم مهمة كأهمية اندراج الإسلاميين ضمن نسيج الطبقة الحاكمة، عبر تجذير الوجود الاقتصادي للحركة في المجتمع. لقد استفاد الإسلاميون من نمو القطاع الخدمي في مقابل أزمة الفلاحة والصناعة، في بناء شبكة أنشطة اقتصادية مرنة، واستفادوا أكثر من الرساميل الخارجية التي تدفقت وما زالت من «أصدقائهم وحلفائهم في الخارج» ومن مشاريعهم السابقة في الخارج.
وخلال هذا المسار من الانخراط في المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، بدأنا نلاحظ صعود تشكيل اجتماعي جديد، يمكن تسميته بـ«البرجوازية الإسلاموية»، تعمل أساسًا في مجال التداول السلعي والمصرفي في شكل مختلف عن الرأسمالية التجارية، وتعتمد على شبكة محاسيب واسعة ونافذة داخل جسم الدولة، لتحقيق مكاسب قانونية وتشريعية (رخص، تسهيلات، قروض، أراضٍ)، وتحويل الجهاز البيروقراطي للدولة إلى جهاز يسهّل لها عملية الاحتكار ويمكنها من مراكمة المزيد من العوائد، من خلال وسائل غير اقتصادية، والتي يعاد توزيعها في إطار عملية تمكين واسعة لفئات وقطاعات اجتماعية ونخبوية، في سياق تجذير وجود الحركة الإسلامية. في مقابل ذلك، كان هناك انفصال للحركة الإسلامية عن الشرائح السفلى من الطبقات الوسطى والفقيرة، رغم أن السياق العام يدفع نحو المزيد من تضخم هذه الطبقات بفعل الأزمة الاقتصادية. وقد شكل هذا الانفصال التدريجي بين الحركة والعمق الاجتماعي الأدنى خطرًا من حيث موت عملية الانتشار التنظيمي، وفقدان القاعدة الشعبية، وقد بدا ذلك واضحًا من خلال المنحنى البياني الانتخابي للحركة، الذي انحدر منذ عام 2011 إلى اليوم بشكل كبير.
"توجهت حركة النهضة، منذ دخولها السلطة، وخاصة بعد الهزة التي حدثت لجماعة الإخوان المسلمين في مصر (2013)، نحو الانخراط ضمن المصالح المشتركة للطبقة الحاكمة، بدلًا من محاولة إنهاء أو إلغاء هذه الطبقة والحلول مكانها."
لئن نجح التحالف بين حركة نداء تونس وحركة النهضة (راشد الغنوشي/ الباجي قائد السبسي) في تحقيق أهداف الطرفين الشخصية والحزبية، إلا أنه شكل خيبة أمل للطبقة الوسطى التي راهنت على هذا «التوافق»، والذي كرس مزيدًا من الفساد المالي والإداري، وعمّق الأزمة الاقتصادية، وألحق قطاعًا واسعًا من هذه الطبقة بعموم الفقراء من ذوي الأوضاع المعيشية الرثة. وبدأت قطاعات شبابية وسياسية تمثل هذه الطبقة في الالتحاق بالحركة الجماهيرية الاحتجاجية، والتي زادت قوةً وتنظيمًا خلال عامي 2018 و2019. وعند هذا الحدّ، بدا أن الطبقة الوسطى قد فقدت الثقة تمامًا فيمن يدّعون تمثيلها منذ سنوات، وتوجهت للتصويت بكثافة في انتخابات 2019 لقيس سعيّد، في محاولة أخيرة لإنقاذ نفسها من التحلل.
غير أن نظام توزيع السلطات السياسية الذي أفرزه دستور 2014، لم يكن يعطي لسعيد أي صلاحيات تتعلق بإدارة الشأن المحلي، وإعراضه عن النزول للانتخابات التشريعية بقوائم مستقلة جعل جزءًا من هذه الطبقة «المنكوبة» يعيد انتخاب حركة النهضة وأحزابًا تنحدر من حركة نداء تونس التي انتهت بوفاة مؤسسها قائد السبسي. لنجد أنفسنا أمام نظام مشتت السلطات والتصورات. ذلك أن هذا الوضع زاد من قوة الحركة الجماهيرية الاحتجاجية، التي تشكلت على مدى عشر سنوات، من الفئات الأكثر هشاشة من المعطلين عن العمل وشباب المناطق الحدودية والداخلية الفقيرة بدايةً، ثم التحقت بها فئات شبابية أكثر وعيًا من روافد الحركة الطلابية والنقابية. حركة تضم القطاع الأكثر تضررًا من الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى وصغار الفلاحين وصغار الكسبة والطلبة وأجراء القطاع العام، متحررةً من التنظيم الهرمي في عفوية مرنة نجحت في فتح أكثر من بؤرة احتجاج. وخلال عام ونصف من الاحتجاجات غير المنقطعة، والأزمة الاقتصادية الخانقة، والأزمة الصحية التي حولت البلاد إلى مقبرة مفتوحة، حاول الائتلاف الحكومي بقيادة حركة النهضة كسر شوكة الحركة الجماهيرية دون جدوى، فيما كان الرئيس قيس سعيد يراقب هذا الصراع دون تدخل، ويخوض صراعًا من نوع آخر مع الائتلاف الحكومي حول الصلاحيات الدستورية.
قفزة بونابرتية
في اللحظة التي وصل فيها الصراع بين الائتلاف الحكومي والحركة الجماهيرية إلى نوع من التوازن الصفري، حيث لا غالب ولا مغلوب، فلا الائتلاف الحاكم سقط ولا الحركة الاجتماعية انهزمت، صعد قيس سعيّد مستفيدًا من مناخ اليأس في قفزة بونابرتية مألوفة في التاريخ. وفي لحظة اليأس تلك وجدت الطبقة الوسطى «المُخلصّ» من عشر سنوات من الصراع الاجتماعي. ومنذ اللحظة الأولى -لما بعد 25 تموز 2021- بدا أن قيس سعيد قد أقدم على هذه الخطوة دون أن يكون قد وضع سلفًا خطة واضحة للتحرك بعدها، ذلك أن البلاد بقيت بلا حكومة لحوالي شهرين، كما لم يقدم أي برنامج اقتصادي واضح، أو حتى إجراءات يمكن أن تخدم مصالح هذه الكتلة التي تدعمه، السائدة ديموغرافيًا واجتماعيًا. أخذ سعيّد السلطة منفردًا، باعتباره فوق الطبقات مستعينًا بجهازي الدولة، البيروقراطي والعنفي، من دون وجود سردية إيديولوجية واضحة حتى الآن حول النظام الذي يريد بناءه، وفي غياب هذه السردية -حتى الآن على الأقل- سيكون جهاز الدولة رافده الوحيد في السلطة، وأداته في إدارة الوضع، وقد بدا واضحًا أن الرئيس يبني تصوره للوضع عن البلاد من خلال التقارير التي تصله من أجهزة الأمن والجيش. وفي صورة تبدو شديدة الشبه، يشير ماركس في «الثامن عشر من برومير: لويس بونابرت» إلى أن:
«بونابرت، بوصفه السلطة التنفيذية التي جعلت نفسها قوة مستقلة، يعتبر أن رسالته هي حماية «النظام»؛ أما قوة هذا النظام فتكمن في الطبقة الوسطى ولذا ينظر إلى نفسه باعتباره ممثلًا للطبقة الوسطى ويصدر مراسيم مناسبة. ولكنه، مع ذلك، لم يصبح شيئًا يُذكر، إلا لأنه حطم القوة السياسية لهذه الطبقة الوسطى، ولأنه يحطمها مجددًا في كل يوم. وبناء على ذلك ينظر إلى نفسه كخصم للقوة السياسية والأدبية للطبقة الوسطى. ولكنه إذ يحمي قوتها المادية، يولد قوتها السياسية من جديد. ولهذا لا بد للعلة أن تبقى على قيد الحياة؛ أما المعلول، حيثما ظهر، فينبغي أن يقضي عليه. بيد أن هذا لا يمكن أن يحدث دون خلط بسيط بين العلة والمعلول، لأنهما كليهما يفقدان في تفاعلهما المشترك خصائصهما المميزة. مراسيم جديدة متوالية تمحو خط الحدود. وبونابرت ينظر إلى نفسه، في الوقت ذاته، باعتباره ممثلًا للشعب بصورة عامة ضد البرجوازية، ممثلًا يريد أن يسعد الطبقات الدنيا من الشعب ضمن إطار المجتمع البرجوازي».
فالرئيس يعتقد أن جذر الأزمة في تونس دستوري، مع أن هذا الدستور ومدونة القانون برمتها ما هي إلا انعكاس لموازين القوى الطبقية المختلة في البلاد. إن دستور 2014 ليس معلقًا في السماء. ليس انجيلًا نازلًا من السماء. هو انعكاس طبقي لمن كتبوه، أي انعكاس للمصالح المشتركة للطبقة المهيمنة خلال حقبة التوافق بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، وهي ليست مجرد برجوازية تقليدية صناعية أو مالية، بل شبكة مصالح لطبقة طفيلية راكمت مكاسبًا ومصالحًا من خلال الزبائنية والنشاط غير القانوني -بالمعنى الرأسمالي للكلمة-، أي من خارج نموذج المنافسة الحرة، المقدس في اقتصاد السوق. لذلك شهدنا خلال الأعوام الأخيرة أن أغلب التشريعات التي تصدر عن البرلمان والسياسات الحكومية تسير في اتجاه تعزيز هيمنة هذه الطبقة، وهي تستعمل أساليب أقرب للبلطجة لتكريس الهيمنة من خلال تنشيط الأجهزة الردعية ومنحها امتيازات، خلافًا للبرجوازيات التقليدية التي تعتمد أكثر على الأجهزة الأيديولوجية (الثقافة، التعليم، الإعلام) أي على الوسائل الناعمة.
لكن سعيد، في الوقت نفسه، يريد تعزيز مصالح البيروقراطية، من منطلق أنه مستقل عن جميع الطبقات، وقد بدا ذلك واضحًا في خطب المديح التي يسوقها تجاه جهازي الأمن والجيش والجهاز البيروقراطي الإداري. ومردّ هذا أن قيس سعيد قادم من مدرسة تقدس الدولة المركزية، رغم أنه يطرح منذ سنوات مشروعه الجديد للديمقراطية المجالسية، التي تعادي منظومة الديمقراطية المباشرة، إلا أنه واعٍ بأن فتح المجال للديمقراطية المباشرة دون وجود دولة مركزية قوية سيكون نهاية الدولة. لذلك نجده حريصًا على إعادة «مجد» البرجوازية البيروقراطية (كبار موظفي الدولة) التي توارت منذ الستينات، كطبقة اجتماعية، وليس باعتبارها مجرد أداة للحكم، من خلال السعي إلى إعادة مركزة الثروة بيد الدولة وتأميم الصراع الإجتماعي، على شاكلة أنظمة ما عرف بـ«البرجوازية الوطنية» في ستينيات القرن الماضي في مصر والجزائر.
لكن لو فرضنًا تجاوزًا أن قيس سعيد قد نجح في هذا التمكين للبرجوازية البيروقراطية، التي لديها ميل تاريخي للسيطرة على السلطة السياسية بنفسها، بشكل مباشر دون وسيط، عكس بقية الطبقات، وتميل إلى السيطرة على جهاز الدولة بأكمله، ولا سيما قطبها المركزي: الحكومة، فإننا سنكون أمام فرضية مرجحة الوقوع -من خلال دروس التجربة التاريخية- وهي أن هذه البرجوازية البيروقراطية عادةً ما تكون شديدة التردد في التنازل عن سيطرتها على السلطة، وتاليًا سنعود إلى كهف الاستبداد نفسه. وهذا العوْد نحو الشمولية لن يكون هذه المرة مشفوعًا بمكاسب اجتماعية لفائدة الطبقة الوسطى، لأن السياق التاريخي والواقع الموضوعي مختلف تمامًا عما كانت عليه الأوضاع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وهذا ما تؤكده سياسات قيس سعيّد التي تتجلى بوضوح في قانون الموازنة الجديد، الذي يعيد إنتاج المنوال التنموي الذي كرسته كل الحكومات السابقة.
الكاتب: أحمد نظيف
أحمد نظيف كاتب وصحفي تونسي، مقيم في باريس.
حقوق النشر محفوظة لموقع حبر 2022.
اقرأ/ي أيضًا | مقالات تحليلية من موقع قنطرة
قيس سعيِّد بين شِقَّيْ رحى "السيادة" والرضوخ لقروض مشروطة
شبح الديكتاتورية في تونس يعود من جديد
المنصف المرزوقي .. ضمير الربيع العربي