انفصام الحال عن الوعي في اسرائيل...في متاهات البحث عن السلام
هذا المقال كُتب لذكرى رون بوندك....
الأمل واليأس. كانت سنوات تخبطتنا خلالها هنا بين هذا وذاك. اليوم، يبدو أن معظم الإسرائيليين والفلسطينيين مغمورون في وضع نفسي مبهم، مستو وبدون أفق. من خلال التخدير مع السبات، أو التخدير الذاتي.
في إسرائيل التي عرفت الخيبات منذ فترة طويلة، الأمل اليوم (إذا كان هناك من يأتي على ذكره اصلا) دائم التردد، خجول بعض الشيء، معتذر. اليأس، بالمقابل، واثق وحاسم كأنه يتحدث باسم قانون الطبيعة، أو البديهة التي تحدد ان بين هذين الشعبين لن يحل السلام أبدا، وان الحرب بينهما هي قرار من السماء. في نظر اليأس، فإن أي شخص لا يزال يأمل، من يأمل بإمكانية السلام، هو- في أحسن الأحوال- ساذج، حالم وغارق في الأوهام، وعلى أسوأ تقدير، خائن، يضعف قوة صمود إسرائيل، لأنه يقنعها بالاستجابة للأوهام.
بهذا المعنى، انتصر اليمين الإسرائيلي. اليمين، وهذه نظريته- بالتأكيد في العقود الأخيرة- نجح في نشرها وسط غالبية الإسرائيليين. يمكن القول بأن اليمين انتصر ليس على اليسار فقط: انتصر على إسرائيل، ليس فقط لأن نظريته التشاؤمية هذه دفعت دولة إسرائيل إلى الشلل في المجال الاكثر مصيريا لها، المجال الذي يتطلب الجرأة والمرونة والإبداع، انتصر اليمين على إسرائيل لأنه اخضع ما كان يمكن ان يطلق عليه ذات مرة "الروح الإسرائيلية": نفس البريق، القدرة على استنساخ نفسه من جديد، انها روح الـ "رغما عن"، والشجاعة والأمل.
في المجال الأكثر أهمية في وجودها، دولة إسرائيل اليوم تكاد تكون مشلولة الحركة، ويمكن أيضا القول- بائسة. ليس فقط قياداتها، وانما أيضا معظم مواطنيها ينجحون في فصل حالهم من وعيهم. هم مذهلون في عمل فصل تام بين الاثنين، وهكذا مواصلة الوجود لسنوات كثيرة، سبعة وأربعين عاما، ولم يكن وجودهم سيئا حتى، حيث في مركز وجودهم لديهم في الواقع فراغ. فراغ في الافعال، فراغ في الوعي، فراغ يحدث فيه تجميد ناجع للتحكيم الأخلاقي، لتشخيص التشويه في جذر الوضع كله.
***
وحكى الكاتب الأمريكي دافيد فوستر والاس مرة قصة عن سمكتين شابتين تسبحان بهدوء في البحر وتلتقيان سمكة اكبر منهما. اهلا يا اصدقاء، قالت لهما السمكة العجوز، كيف الحال؟ الحمد لله، قالت الاثنتان. كيف الماء؟ سألتهما. المياه رائعة، ردت الشابتان. وانفصلتا عنها وواصلتا السباحة. بعد عدة لحظات سألت احداهما صديقتها- قولي لي، ما هذا ماء؟
اصغوا الى الماء. الماء الذي نسبح فيه ونشرب منه منذ سبعة وأربعين عاما. اعتدنا عليه كثيرا حتى أننا لم نعد نلتفت اليه. هذه هي الحياة التي تتدفق هنا، التي لا تزال، بلا شك، مليئة بالحيوية والإبداع، ولكن أيضا مخبولة بأجواء من الفوضى كالتي تصاحب مبيعات نهاية الموسم. من الهوس والاكتئاب المحبوكة ببعضها البعض؛ من شعور بقوة كبرى مع سقوط لضعف منحدر؛ من العيش في ديمقراطية راضية عن نفسها، مع طموحات ليبرالية وانسانية، تحتل وتهين وتسحق شعبا آخر على مر عشرات السنوات. الحياة التي تدار من خلال ضجيج ثقيل لوسائل الإعلام، التي جزء كبير منها هو تشتيت ذهني واغفال حواس موجهة، اذ كيف يمكن حقا الوقوف في وجه هذا من دون بعض التشتيت الذهني والتخدير الذاتي؟ كيف يمكن الصمود، على سبيل المثال، امام نتائج ما يسمى "مشروع الاستيطان"؟ أمام المغزى الكامل لهذا الرهان المجنون على مستقبل الدولة؟ تحت المياه الضحلة التي نتخبط بها منذ 47 سنة يوجد تيار من الاعماق تيار بارد مرعب، التيار الذي عزز التشوش التاريخي والخطأ الكبير. تيار كل ما يدور ويكبر أمام أعيننا في صورة دولة ثنائية القومية، أو دولة فصل عنصري، أو دولة كل جنودها، أو دولة كل حاخاماتها، كل مستوطنيها.
أحزاب اليأس
وربما اليأس الذي سيطر علينا في السنوات الأخيرة هو أيضا بعض من يأس المدانين الذين يدركون انه ما من طريقة للتهرب من العقاب على ما اقترفوه، أو على ما سمحوا بحدوثه بدعمهم، أو بصمتهم أو بلامبالاتهم.
في اليأس الاسرائيلي هنالك عنصر غريب, البهجة تجاه المأساة, أو على الأقل، البهجة تجاه خيبة الأمل: نوع من الشماتة تجاه كل من خاب امله. هذه فرحة ملتوية بشكل خاص، لأنه، في نهاية المطاف، فإنها شماتة لأنفسنا: أحيانا يبدو ان نفسية الاسرائيلي لا زالت تعاني من الإهانة جراء ما حدث في عام 1993، حين تم التوقيع على اتفاقيات أوسلو، تجرأ على الايمان- ليس فقط بعدو اصبح في لحظة شريكا- ولكن بصفة عامة، بإمكانية ان يكون كل شيء على ما يرام، أنه يوما ما ستكون الامور هنا على ما يرام, أن نشعر هنا ذات يوم بأن كل شيء على ما يرام.
وكأن هذا ما غررنا بنا لنؤمن- يقول رجال احزاب اليأس- بشيء يخالف كثيرا تجربة حياتنا، تاريخنا المأساوي، خنّا أنفسنا، بأية علامة فارقة مصيرية لنا، ودفعنا ثمن هذا الإيمان، وسندفع ايضا، بفائدة مركبة. ولكن على الأقل من الآن فصاعدا لن يجدونا نصدق أي شيء، أي وعد، أي احتمال.
وحتى لو كان محمود عباس سيناضل بكل قوته لمنع الإرهاب ضد الإسرائيليين، ويصرح انه يعرف انه سيأتي لمسقط رأسه صفد فقط كسائح؛ وايضا اذا اعلن بأن المحرقة هو اخطر جريمة في تاريخ البشرية- حتى لو فعل كل ذلك، يسارع رئيس حكومة اسرائيل نتنياهو لسكب دلو من الماء البارد على رأسه.
وحتى لو قدمت دول الجامعة العربية مبادرة لإسرائيل يمكنها تحريك اية عملية، فيها دعوة صريحة إلى حوار من نوع جديد، لم نكن نعرف مثله، لسنوات كنا نتوق اليه - فإن حكومة إسرائيل تجاهلتها بصورة مطلقة وواضحة لمدة اثني عشر عاما. لانه لا احد ينجح في خداعنا مرة أخرى. نحن لسنا حمقى. لن يجدونا ابدا نصدق مرة أخرى فلسطينيا، أو عربيا ايا كان. أو امريكيا طويل القامة مع خصلة شعر فضية لا يفهم حقا مم صُنعت الحياة، أو لأمل ان يكون ذات مرة حياة افضل.
حكومات إسرائيل تتصرف كمن كانت أسيرة لليأس
مثير: جربنا طريق السلام مع الفلسطينيين على محمل الجد مرة واحدة فقط، في عام 1993. وفشل، ومن هذه اللحظة وكأن إسرائيل قررت أن تضع حدا لهذه الامكانية إلى الأبد. وهنا أيضا يعمل المنطق المشوه لليأس: اذ جربنا طريق الحرب، الاحتلال، الإرهاب، الكراهية، جربنا عشرات المرات، ولم نتعب أبدا ولم نيأس منه، وكيف اننا للسلام بالذات نسارع لإعطاء وثيقة طلاق بعد فشل واحد؟
لإسرائيل، بالطبع، يوجد أسباب كثيرة للقلق والفزع. الشرق الأوسط مضطرب، فيه تيارات من أصولية متعصبة ومعظمه عدائي جدا لإسرائيل ويطمح بشكل علني لتدميرها. لكن امام مثل هذه المخاطر والتهديدات، اليأس وتراخي العمل ليست سياسة ناجعة تماما.
حكومة إسرائيل، حكومات إسرائيل، تتصرف كمن كانت أسيرة لليأس. لا أتذكر انني سمعت ذات مرة كلاما جديا عن الأمل من فم بنيامين نتنياهو أو من افواه وزرائه ومستشاريه؛ ولا حتى كلمة واحدة عن الرؤيا بما يتعلق بالإمكانيات التي تكمن في العيش بسلام، أو احتمال أن تندمج إسرائيل في نسيج جديد من التحالفات والمصالح في الشرق الأوسط. كيف حدث أنه حتى كلمة "أمل" أصبحت كلمة قذرة، ثانية بإشعاعها الخطير فقط كلمة "سلام"؟
مما يثير الغضب هي فكرة، أن كل القوة العسكرية الكبيرة التي اكتسبتها إسرائيل لا تمنحها الشجاعة للتغلب على القلق واليأس الوجودي لها، واتخاذ خطوة حاسمة تجلب السلام. اذ ان الفكرة الكبيرة لاقامة دولة اسرائيل هي ان الشعب اليهودي عاد الى وطنه، وهناك لم يعد بعد ضحية لأي شخص. لن نصاب بالشلل ابدا ولن نكون خاضعين أمام اي قوى اقوى منا.
وانظروا الينا- أقوى دولة في المنطقة، دولة عظمى بمعايير اقليمية، تحظى تقريبا بدعم غير مفهوم من الولايات المتحدة، وبتعاطف والتزام ألمانيا وإنجلترا وفرنسا- وفي اعماقها لا تزال ترى نفسها ضحية لا حول ولا قوة لها. وما زالت تتصرف على انها ضحية- من فزعها، وهلوستها، من أهوال تاريخها، من أخطاء جيرانها وأعدائها.
هذه النظرية تدفعنا، نحن الجمهور اليهودي في إسرائيل، إلى الأماكن الأكثر ضعفا وجرحا لنا كشعب. مرة أخرى تساورنا، نحن الإسرائيليين عام 2014، مخاوف المصير اليهودي، تجربة الاضطهاد، الضحايا، شعور حاد بالاغتراب، الوجودي، للشعب اليهودي بين الشعوب الأخرى.
***
أي أمل يمكن أن يكون في ظل شؤون صعبة كهذه؟ انه امل الـ "رغما عن". أمل لا يتجاهل المخاطر والعقبات الكثيرة. لكنه يرفض أن يراها هي فقط. الأمل فيما اذا خمدت النيران من تحت الصراع، يمكن أن تظهر مرة أخرى، تدريجيا، الخطوط الصحية والمتزنة للشعبين. تبدأ بالعمل بها القوة المعالجة اليومية بحكمة الحياة وحكمة المساومة. بحس الأمان والامن الوجودي. من تربية الأطفال دون الخوف من الموت، دون اهانة من الاحتلال ودون تهديد من الإرهاب. من احتياجات الحياة الانسانية الاساسية لحياة العائلة ومصدر الرزق والتعليم. من نسيج الحياة.
اليوم يعمل في صفوف الشعبين تقريبا فقط وكلاء اليأس والعداء، لذلك ربما يكون من الصعب تصديق أن الواقع الذي وصفته ممكن. ولكن حالة من السلام تبدأ بإيجاد وكلاء الأمل والتقارب والتفاؤل؛ أولئك الذين تكون لهم مصلحة عملية، دون أيديولوجية، لربط علاقات أكثر فأكثر مع ابناء الشعب الآخر. ربما ذات يوم، على مر السنين، يحدث تقارب أعمق، وحتى تنشأ صداقة بين هذين الشعبين، وبين هؤلاء البشر. وقد حدث هذا من قبل.
أنا أتشبث بهذا الأمل، وأحافظ عليه بداخلي، لأنني أريد أن أواصل العيش هنا، وأنا لا أستطيع ان اسمح لنفسي بالترف والدلال الموجود في اليأس. الوضع اشد يأسا من ابقائه لليائسين، والتسليم باليأس هو في الواقع اعتراف بأنه تم الانتصار علينا. لم يُنتَصَر علينا في ساحة المعركة، بل كبشر. صودر منا شيء عميق وأساسي بالنسبة لنا كبشر، سُلب منا، من اللحظة التي وافقنا فيها على ان لليأس تكون حكومة.
من تكون سياسته في الواقع قشرة رقيقة فوق اليأس العميق، يضع دولة إسرائيل في خطر وجودي. من يتصرف هكذا لا يستطيع ان يبالغ في القول "أن نكون شعب حر في أرضنا". ربما ينشد نشيد "هتيكفا"، ولكننا نسمع في صوته: لم نفقد اليأس بعد، اليأس عمره ألفا سنة.
نحن الذين نطالب بالسلام منذ سنوات عديدة، سنواصل إصرارنا على الأمل. الأمل الرصين، الذي لا يتنازل. الذي يعرف انها فرصتنا الوحيدة- للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء- للتغلب على الجاذبية القوية لليأس.
دافيد غروسمان هو أديب وكاتب إسرائيلي
حقوق النشر: هآرتس 2014