الإسلاميون واليساريون العرب... من الاستقطاب إلى العودة مجدداً إلى الحوار
لقد أثبتت تجارب الدول التي كانت مختبرا لمثل هذا التقارب الظرفي، خاصة مصر وتونس، أن ما يفرق بين هذه التيارات أكبر بكثير مما يجمع بينها. لكن نقطة الضعف الكبيرة التي أسقطت ورقة التوت عنها مجتمعة هي مدى إيمانها بالديمقراطية. فجلها تتبنى الديمقراطية كفكرة في خطاباتها، لكنها كلها وبدون استثناء سقطت في أول امتحان عند ممارستها كفعل على أرض الواقع.
وهكذا رأينا الإسلاميين في مصر، الذين وصلوا إلى الحكم بدعم من اليساريين والليبراليين، يتنكرون لحلفائهم ويمارسون سلطويتهم باسم "دكتاتورية الصناديق". وعند أول فرصة للإطاحة بهم لم يتردد خصومهم من اليساريين والليبراليين والعلمانيين من وضع يدهم في يد الانقلابيين.
ونفس السيناريو تكرر في تونس وإن لم يحدث بنفس العنف الذي شهدته مصر، عندما حاول إسلاميو حزب "النهضة" فرض أسس مشروعهم المجتمعي داخل البناء الدستوري التونسي الجديد مما حذا بيساريين وعلمانيين إلى التحالف مع بقايا النظام المطاح به للوقوف في وجههم.
وعلى مدى ثلاث سنوات كشفت محاولات التحالف، ولحظات الصراع وحالات التناحر بين أهم التعبيرات التي تخترق المجتمعات العربية عن الهوة الكبيرة التي مازالت تفرق بينها. والتي يمكن تلخيصها في انعدام الثقة، وهو ما ظل يطبع العلاقة التاريخية الملتبسة بينها.
فهل ستؤدي الانتكاسات التي شهدتها تجارب التقارب بين الإسلاميين واليساريين والعلمانيين واللبيراليين، في أكثر من دولة عربية، إلى إعادة التفكير في أسباب الخلاف بين كل هذه المكونات؟ لقد كان لهذه التجارب رغم كل سلبياتها إيجابيات جعلت كل فريق يقف على حقيقة أن الخطاب لا يعكس دائما الممارسة على أرض الواقع. أما أكبر خاسر من الفشل الحالي فهو عامل الثقة بين القوى السياسية، الذي تحطم على أرض واقع عنيد وترميمها يحتاج إلى سنوات من العمل والحوار وأكثر من ذلك إلى وضوح وشفافية أكبر في المصطلحات.
غياب الثقة والتوافق
إن الخطأ الكبير الذي عجل بتفجير عامل الثقة بين هذه التيارات هو سعيها إلى بناء تحالفات كل ما يوحد بينها هو معارضتها لأنظمة بلدانها المستبدة، وليس بناء علاقات تنافسية شفافة تقوم على مفاهيم دقيقة ومبادئ معلنة واختيارات واضحة.
وما يجعل مثل هذه المهمة صعبة، إن لم نقل مستحيلة في ظل الشروط الموضوعية المتوفر اليوم، هو أنه بالرغم من الاختلاف الكبير ما بين المشاريع المجتمعية التي يحملها كل تيار، إلا أنها تتنافس على نفس المفاهيم ونفس الجمهور ونفس القضايا.
ويضاف إلى ذلك غياب التقاليد الديمقراطية داخل المجتمعات العربية، والتي تم اختزالها في "دكتاتورية الأغلبية"، على حساب ثقافة التوافق التي غابت عن هذه التجارب الفتية. كما أن الجمهور، موضوع التنافس والمفروض أن يكون الحَكَمُ في نفس الوقت، غير معتاد على التعبير عن إرادته بحرية. فهو إما مٌغيب تماما، أو مُسير بالتحكُم والتسلط أو بالخطابات العاطفية والانفعالات الاحتجاجية.
ومما زاد من تعقيد إمكانات أي تقارب من جديد بين كل هذه التيارات هو وجود أكثر من يسار ومن ليبرالية ومن علمانية ومن إسلام سياسي داخل نفس المجتمعات، مع اختلاف كبير إلى حد التناقض في تعريف مفاهيم من قبيل الديمقراطية، والحرية، ووضع المرأة وحقوقها، ووظيفة الدين داخل المجتمع وعلاقته بالدولة والسياسة عموما.
لقد أثبتت تجارب دول "الربيع العربي" مدى حاجة كلا الطرفين إلى وجود ديمقراطيين أو على الأقل "معتدلين"، على حد التعبير العربي لوصف "الديمقراطيين"، بين صفوف هذه القوى لاحتواء زوابع الخلافات التي تنفجر من أعماق التاريخ.
حوار تحت "نار العدو"
وحتى قبل انفجار ثورات الشعوب العربية شهدت العلاقة المتوترة بين هذه التعبيرات لحظات هدوء، لكن أغلب تلك اللحظات كانت محكومة بظروف استِـثنائية حتمت عليهما التهدئة والتقارب في مواجهة "عدو مشترك" تمثل في الأنظمة الاستبدادية، التي قمعت كل القوى الحية بدون استثناء مع تفاوت كبير في درجات القمع من قوة إلى أخرى.
هذا الحوار الذي كان يجرى "تحت نيران العدو" المتمثل في "الدولة العميقة"، التي لا تريد للقوى الحية داخل المجتمع أن تتحالف، كانت له بعض النتائج الإيجابية التي أثرت فيما بعد على مسار العلاقات بين هذه الأطراف، إلا أن بنائه ظل هشا سرعان ما اهتزت أسسه عند محاولات إخضاعه لتجربة الواقع.
لقد أبانت تجارب الواقع عن المفارقة الكبيرة ما بين تمثلات الخطاب وحدود التطبيق على أرض الواقع. فعلى مستوى النص تؤكد جميع الأطراف تمسكها بالديمقراطية ووقوفها في وجه الاستبداد ونبذها للفساد. لكن عند كل محاولة لترجمة الشعارات على أرض الواقع تبرز الخلاقات السياسية المحضة والاتهامات المتبادلة التي تفرق أكثر مما تقارب.
فاليساريون والليبراليون والعلمانيون عابوا على الإسلاميين اختزال الديمقراطية في صناديق الاقتراع، واستعمالها كمطية لتحقيق حلمهم التاريخي لفرض نموذجهم المجتمعي. أما الإسلاميون فبدءوا بالتشكيك في مدى التزام خصومهم بقواعد الديمقراطية عندما لا تكون في صالح هؤلاء الخصوم.
ومما غذي هذا الشك المتبادل، عدم وجود أي اتفاق مسبق بين هذه الأطراف حول قواعد اللعب، وتأجيل طرح الأسئلة الحقيقية التي تفرق، وفي حالات أخرى تم التحايل على ذات الأسئلة المحرجة لاحتوائها وإخفائها.
فعلى مر تاريخ الصراع بين هذه التيارات تم إعطاء الأولوية للخلاف الإيديولوجي، الذي لم ولن يحسم. وفي لحظة "الربيع العربي" برز الخلاف السياسي بقوة على السطح حتى بدا وكأنه هو الحاضر والمهيمن، وتم اختزاله إن لم نقل تبسيطه في ثنائية: من مع التغيير؟ ومن مع الاستبداد؟ وسرعان ما عاد الخلاف الإيديولوجي إلى البروز من جديد على السطح كمتحكم في صيرورة الصراع الأبدي الذي لم تحسمه إلا المجتمعات المتقدمة التي تعتمد مرجعيات نابعة من الشعب ويحتكم إليها الجميع.
ميزة التواضع
لقد كان حريا بتجارب المحاولات الديمقراطية التي شهدتها دول "الربيع العربي" أن تٌعلم كل الأطراف ميزة طالما افتقدوها في صراعاتهم الأبدية، ألا وهي ميزة التواضع، وهي ما عبرت عنه "واقعية" حزب "النهضة" في تونس. فقد أظهرت نتائج الانتخابات، خاصة منها تلك التي جرت في أجواء ديمقراطية نزيهة في تونس ومصر قبل الانقلاب، أن أيا من هذه التيارات لا يملك ما يكفي من الشرعية الشعبية لفرض نموذجه المجتمعي. فالإسلاميون رغم فوزهم في تلك الانتخابات إلا أنهم لم يبرزوا كقوة شعبية ساحقة داخل المجتمع كما كانوا يصورون أنفسهم. أما القوى اليسارية والعلمانية والليبرالية فقد أظهر أداؤها ضعفا كبيرا على أرض الواقع لا يعكس ارتفاع صوت خطابها داخل وسائل الإعلام. بل وأبانت التقلبات السريعة في موازين القوى عن مدى هشاشة إيمان قوى يسارية وعلمانية وليبرالية بقيم مؤسسة لفكرهم مثل الديمقراطية والحرية.
غياب النقد الذاتي ..وهيمنة لغة الإقصاء
لقد خسرت الكل يساريون وإسلاميون وعلمانيون وليبراليون، رهان التغيير الذي بشرت به رياح "الربيع العربي"، وهو ما يدعو الجميع إلى ممارسة نوع من "النقد الذاتي" الحقيقي، لأن كل تيار يتحمل جزءا من مسؤولية الفشل. ولتجاوز حالة النكسة التي تعيشها اليوم تجارب الانتقال الديمقراطي في الدول التي شهدت ثورات أو انتفاضات شعبية في المنطقة العربية، لا بد من الدخول مجددا في حِـوارات سياسية وفِـكرية بين هذه التيارات المتنافرة، خاصة بعد أن أدركوا بأنّ التغيِـير الحقيقي يحتاج إلى جهود الجميع لإحداث القفزة المطلوبة نحو مجتمع ودولة الديمقراطية.
إن اللغة الوحيدة التي هيمنت طيلة سنوات على حوار الإسلاميين واليساريين والعلمانيين والليبراليين هي لغة الإقصاء، فطيلة سنوات صراعهم المرير حاول كل طرف إقصاء الآخر، وحتى تحالفاتهم الهشة والمرحلية بنيت على هدف واحد هو إقصاء الآخر. فاليسار أقصى الإسلاميين لسنوات داخل الجامعات، ومن اتحادات الطلاب، ومن النقابات، وأكثر من ذلك صمت في أغلب الحالات عن قمعهم، ومن بينهم من تحالف أو ساند أنظمة استبدادية فقط من أجل سد الطريق أمام الإسلاميين. كما أن الإسلاميين، صمتوا طيلة عقود عن قمع اليساريين وبرروا بإسم الدين اعتقالهم وحظر أنشطتهم بل وذهب البعض منهم إلى حد تكفيرهم وإقامة الحد عليهم. وعندما وصلوا إلى السلطة في تونس ومصر انتقموا أو حاولوا أن ينتقمون من خصومهم داخل البرلمانات التي كانوا يهيمنون عليها، ردا على سنوات الإقصاء التي عانوا منها.
لكن بعد الانقلاب الذي حدث في مصر، وعلى ضوء التجربة التونسية وما شابها من تعثر مازال يهدد مستقبلها، بدأ فاعلون ينتمون إلى ذات القوى الحية، في تونس والمغرب وفي الخارج بالنسبة للمصريين، و داخل بلدان عربية أخرى، ولو بصفة محتشمة، يفكرون جديا في الجلوس من جديد حول نفس الطاولة، وإعادة صياغة قواعد جديدة لحوار أكثر شفافية وجدية. حوار حقيقي يفترض وجود القدرة لدى كل طرف على تطوير أفكاره وعدم استدعاء مستحثات من ترسبات التاريخ.
وفي المغرب الذي انطلفت فيه بوادر هذا الحوار، مازال الطريق أمامه طويلا وشاقا. لأن أي حوار جدي يجب أن يبدأ بالاتفاق على مبادئ الديمقراطية الأساسية كمرجعية مشتركة، وقبول قواعدها كآلية لتدبير الخلاف أو "تقليص المختلف" بما أن الخلاف سيبقى قائما، وتكون الغاية هي تحقيق توافق الحد الأدنى لبناء المشترك كشرط أولي للحفاظ على السلم الاجتماعي داخل المجتمع.
ولتجنب حالات التماس لا بد من إشراك المجتمع المدني في هذا الحوار، كما جرى في التجربة التونسية، حيث لعبت الهيئات النقابية والمدنية دور الحكم والوسيط ورجل الإطفاء لتجاوز الخلافات السياسية أثناء فترة صياغة الدستور الجديد.
إن المآل المأساوي للاستقطبات الإيديولوجية بين الإسلاميين واليساريين والعلمانيين والليبراليين، تطرح على الجميع سؤالا جوهريا حول من هو المستفيد من حدة التنافر بين أطراف هذه التقاطبات إن لم تكن هي نفس الجهات، التي تعمل جاهدة إقصاء الجميع لتمهيد العودة من جديد للتسلط على الشعوب والتحكم في مقدرات مجتمعاتها.
علي أنوزلا
نحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2014
علي أنوزلا كاتب وصحفي من المغرب، مدير موقع "لكم. كوم" الذي منعته السلطات المغربية عام 2013، أسس ورأس تحرير عدة منابر صحفية ورقية. حاصل على جائزة "قادة من أجل الديمقراطية" 2013 من منظمة "بوميد" الأمريكية. اختارته منظمة "مراسلون بلا حدود" الفرنسية كأحد "أبطال الإعلام" في العالم عام 2014.