معركة الربيع العربي لم تنتهِ بعد
منذ ثلاث سنوات، انتشرت نكتة تداولها المصريون في ميدان التحرير بالقاهرة، وتقول هذه النكتة: "أخبر أحدهم مبارك أن الشعب المصري يريد توديعه. فأجاب مبارك بسؤال: نعم، ولكن إلى أين سيرحل الشعب؟" لكن مبارك هو مَن رحل، والشعب هو مَن بقي تملؤه في البداية آمال ما لبثت أن تحولت إلى إحباط.
وفي الغرب أيضاً، أصبحت عبارة "الربيع العربي" على كل لسان، لكن البعض أمسى يقول إن الربيع بات شتاءً قارساً. كما باتت نظرة أوروبا إلى جيرانها في جنوب وشرق البحر المتوسط تختلط بالسخرية، وعادة ما يكون الحكم النهائي، بالنظر إلى ما يدور هناك، هو أن العرب والمسلمين لا يستطيعون القيام بذلك وأنهم ببساطة ليسوا أهلاً للديمقراطية.
تبدو الأمور وكأنها فشلت برمتها. ففي سوريا لا تزال الحرب الأهلية مستمرة دون أي أمل بحسمها، لا من طرف بشار الأسد أو من طرف الثوار. أما مصر، التي تشهد استقطاباً سياسياً حاداً، فقد وصلت إلى طريق مسدود يأمل العسكر أن يعود فيه الهدوء التام إلى البلاد على الأقل.
وفي ليبيا تتحكم مليشيات غامضة بدلاً من الحكومة بالبلاد. وحتى تونس أيضاً عاشت سنة عاصفة بعد اغتيال سياسيين معارضين ومحاولة يائسة لبناء حكومة وحدة وطنية. ولا يسود الهدوء سوى منطقة الخليج، التي ما تزال أنظمتها السلطوية تحكمها كما كان في السابق.
في خضم التحولات
من السذاجة التصور بأن التقلبات الاجتماعية والسياسية تتبع منطق فصول السنة. فالعالم العربي يعيش في خضم تحولات هامة. وهنا يوجد خطّان رئيسيات للنزاع السياسي: الأول هو الجدل بين الإسلاميين والليبراليين على دور الدين في السياسة، وهو نقاش تمكن طغاة المنطقة من كبحه لعقود طويلة بالقوة. لكن بعد الإطاحة بهؤلاء الطغاة، اندلع هذا الجدل بقوة شديدة تتناسب مع الكبت الذي عاناه طوال تلك السنوات.
على المجتمعات العربية أن تتوصل إلى حل بخصوص دور الدين في الدولة والسياسة والقانون. لكن لا يوجد توافق حول أية إجابة، بل تباين في الآراء يجب أن ينتهي بنوع من التسوية. ومن غير المعروف بعد إن كان التوصل إلى تلك التسوية سيكون عبر سفك الدماء أم من دونه.
حتى الآن، فإن التونسيين هم الأقرب للتوصل إلى حل بشأن هذا الصراع، فهم لم يقوموا بتشكيل حكومة وحدة وطنية وحسب، بل واتفقوا على صيغة دستور يعتبر تقدمياً بالنسبة للمنطقة.
وبالمقابل، يبدو أن الوضع في مصر ميئوس منه. فأولاً استخدم الإخوان المسلمون فوزهم في الانتخابات لصياغة دستور بمفردهم يقصي الطرف الآخر تماماً، ولاحقاً قام الطرف الآخر بعمل الشيء نفسه ولكن بمساعدة الدبابات.
إن التغيير في العالم العربي بعد سنوات من الدكتاتورية يتسم بشيء من انعدام الخبرة السياسية. فكل طرف يعتقد بأنه قادر على خداع الآخرين، لاسيما وأن التسويات التي يتم التوصل إليها بصورة ديمقراطية ليست جزءاً من تقاليد المنطقة.
بين قوى الثورة وقوى استعادة النظام القديم
أما خط الصراع السياسي الثاني في العالم العربي فيتمثل في الصراع بين قوى الثورات وقوى استعادة الأنظمة القديمة. فالأنظمة القديمة لا تتكون فقط من الطاغية وحده، بل من نظام متكامل متجذر في مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية.
لذلك، فإن قوى استعادة الأنظمة القديمة عادت لتنشط في كل مكان، ودول الخليج العربية تعتبر أهم رعاتها، وخاصة المملكة العربية السعودية، التي لا يهمها ظهور أية تجربة ديمقراطية في شمال إفريقيا، ويتمثل أسوأ كوابيسها في وجود حركة إسلامية تستمد شرعيتها من الانتخابات، كالإخوان المسلمين، وهو أمر كفيل بالتشكيك في مشروعية النظام السلطوي الذي يحكم السعودية.
هاتان الجبهتان السياسيتان (الليبراليون في مواجهة الإسلاميين وقوى الثورة في مواجهة قوى استعادة النظام القديم) تتراكبان جزئياً في مصر. فحتى الآن، لا تزال استراتيجية التسويق لصالح قوى استعادة النظام وأجهزة الأمن ناجحة نسبياً، كما أن حتى مَن يُفترض بأنهم مدافعون عن الحرية باتوا يفرضون القيود عليها. لكن حتى في مصر ثمة قنبلة موقوتة تحيق بقوى استعادة النظام القديم، فالشعب ينتظر من المؤسستين العسكرية والأمنية إيجاد حلول لمشاكله الاقتصادية وفتح آفاق لمزيد من العدالة. كما أن تيار استعادة النظام القديم سيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى مواكبة مبدأ المحاسبة الملزم الجديد.
أنظمة لا أخلاقية
لقد بُنيت الأنظمة القمعية القديمة على الخوف، وهو أمر تخلص منه الناس. وهذا ينطبق أيضاً على الأنظمة في سوريا ومصر، التي تتراجع أخلاقيتها كل يوم ولم تعد تهتم برأي المجتمع الدولي فيها. هذه الأنظمة أيضاً تغلبت على خوفها.
هذا كله يقود إلى تحول الغرب إلى متفرج على التحولات العربية، فهو لم يعد قادراً على اتخاذ القرار الصائب - فهل يدعم الإسلاميين الذين يستمدون شرعيتهم من الانتخابات أم الليبراليين ذوي القيم القريبة من قيم الغرب والذين بات لهم وزن سياسي يعتدّ به بفضل الجيش؟ وهل من الأفضل أن يقرر الغرب دعم الشرعيين الرجعيين أم الليبراليين القادمين على ظهور الدبابات؟
التداخل بين الليبراليين وقوى استعادة النظام القديم كبير لدرجة يصعب معها النظر إليهم كندّ إيجابي للإسلاميين. لذلك، يواصل الغرب المناورة من أجل إبقاء كل الأبواب مفتوحة، فاللاعبون الجدد على أية حال هم القوى الإقليمية: إيران وتركيا والسعودية.
لكن السعودية، التي تعتبر حليفاً للغرب، تسعى لتحقيق مصالحها الفردية وحوّلت، على سبيل المثال، الصراع في سوريا إلى حرب إقليمية بالوكالة. وإذا كان هناك مفتاح لحل ذلك الصراع، فإنه لن يكون موجوداً في واشنطن أو موسكو أو أوروبا، بل في طهران وأنقرة والرياض.
نهاية حقبة الاستعمار؟
ربما ينذر عجز الغرب تجاه التحولات العربية بانتهاء حقبة الاستعمار، التي كان جوهرها تقسيم المنطقة إلى دوائر نفوذ.
لذلك، فإن عام 2014 عام صعب ولكنه حاسم للتحولات العربية. وينذر بأن يكون عاماً عاصفاً وبالتأكيد دموياً أيضاً. فالتونسيون سيستمرون في العمل على وحدتهم الوطنية، خصوصاً بالنظر إلى الاستقطاب السياسي المرعب لدى الجار المصري. أما المصريون، فهم يرتعبون من المثال السوري وسيقومون بأي شيء لمنع تحول هذا الاستقطاب إلى حرب أهلية.
والسوريون مثال على نهاية سلسلة مرعبة وهم موقنون بأنهم قد أوصلوا إلى نقطة واقعة في أسفل السافلين وأن الأمور قد تبقى على ما هي عليه طويلاً. لقد أعلنت الأمم المتحدة خلال الشهر الحالي أنها لن تتمكن من الاستمرار في إحصاء عدد الضحايا في سوريا. وإذا كان الضحايا السوريون في السابق أرقاماً دون أسماء، فقد باتوا الآن حتى دون أرقام أو أسماء.
إن التحولات العربية دموية وعاصفة وغير مستقرة واللاعبون فيها لا يتمتعون بخبرة سياسية. كما أن الاحتكاك بين الليبراليين والإسلاميين وقوى الثورات وقوى استعادة الأنظمة القديمة يزداد حدة. لكن ذلك يبقى تحولاً وهو في ذلك عكس السكون. ولأن المثل العربي يقول: "في الحركة بركة"، ولهذا ليس ممكناً حتى الآن إسدال الستار بشكل نهائي على هذا الفصل من التاريخ العربي.
كريم الجوهري
ترجمة: ياسر أبو معيلق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014