صعود "الحراك غير السياسي" في العالم العربي

مقاهي الكتب - مبادرات عربية لغذاء الروح والجسد -  إربيل - العراق.
مقاهي الكتب - مبادرات عربية لغذاء الروح والجسد - إربيل - العراق.

تتيح استطلاعات الرأي العام فرصة لإعادة تقييم مشاركة الشباب في السياسة في مختلف أنحاء المنطقة ولاسيما بعد مرور عقد على انتفاضات عام 2011 العربية وما أعقبها من موجات احتجاجية. تحليل فاليري بطرس.

الكاتبة ، الكاتب: Valerie Boutros

خلال العام المنصرم 2022 سلّطت الاستطلاعات التي أجراها الباروميتر العربي الضوء على الرأي العام الشبابي في بلدان الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا. وقد عبّر الشباب في المنطقة باستمرار عن هواجسهم بشأن الأداء الاقتصادي، وفرص العمل، ونوعية التعليم والحقوق السياسية والمدنية في بلدانهم.

وعلى الرغم من وجود رغبة في التغيير، ومن تطوّر التيارات الإصلاحية إثر الانتفاضات العربية في عام 2011، يبدو الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا عاجزين عن تحقيق تغيير سياسي مجدٍ.

بعد الموجة الثانية من الاحتجاجات في 2018-2019، يبدو أن شباب المنطقة الذين انخرطوا من جديد في الاحتجاجات الثورية انكفأوا الآن وتخلّوا عن الحراك السياسي. لذلك ليس مفاجئًا أن لدى الشباب في مختلف أنحاء المنطقة رغبة جامحة في الهجرة، ما يدلّ على شعور عميق بالاستسلام.

حراك غير سياسي

بعد الانتفاضات العربية في عام 2011، طرح الباحثون فكرة "الحراك غير السياسي" في إطار الحديث عن انخراط الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خارج نطاق الفضاءات السياسية التقليدية، مع التركيز على العمل المجتمعي والموجّه نحو التنمية.

 

البوسنة والهرسك - مهاجرون في طريقهم إلى أوروبا. Bosnien-Herzegowina - Migranten auf dem Weg nach Europa Foto Picture Alliance
تخلّي عن الحراك السياسي لصالح الحراك الاجتماعي الثقافي: بعد الموجة الثانية من الاحتجاجات في 2018-2019، يبدو أن شباب المنطقة الذين انخرطوا من جديد في الاحتجاجات الثورية انكفأوا الآن وتخلّوا عن الحراك السياسي. لذلك ليس مفاجئًا أن لدى الشباب في مختلف أنحاء المنطقة رغبة جامحة في الهجرة، ما يدلّ على شعور عميق بالاستسلام. بعد الانتفاضات العربية في عام 2011، طرح الباحثون فكرة "الحراك غير السياسي" في إطار الحديث عن انخراط الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خارج نطاق الفضاءات السياسية التقليدية، مع التركيز على العمل المجتمعي والموجّه نحو التنمية. واشتمل ذلك على بذل جهود منسّقة للإغاثة الإنسانية على مستوى البلديات في سوريا، وجهود تطوّعية لتجميل الأماكن في المدن اللبنانية المحرومة، وجمع النفايات واستصلاح الأراضي في الأحياء الفقيرة في بيروت، وترويج السياحة المستدامة في الجزائر، وبرامج التمدين في الأحياء الفقيرة في العاصمة الجزائرية، بحسب ما تكتب فاليري بطرس.

 

 واشتمل ذلك على بذل جهود منسّقة للإغاثة الإنسانية على مستوى البلديات في سوريا، وجهود تطوّعية لتجميل الأماكن في المدن اللبنانية المحرومة، وجمع النفايات واستصلاح الأراضي في الأحياء الفقيرة في بيروت، وترويج السياحة المستدامة في الجزائر، وبرامج التمدين في الأحياء الفقيرة في العاصمة الجزائرية.

غالبًا ما توخّى هذا النوع من الحراك مساعدة الأشخاص الذين لا يتلقّون أي دعم حكومي، مثل أولئك الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وكان الهدف تحقيق تغيير مجدٍ للمواطنين العاديين، من دون مناشدة السلطات لإجراء إصلاحات شاملة.

وقد اعتبر الشباب الذين شاركوا في هذه الجهود أن هذا النوع من الحراك الاجتماعي والثقافي "غير سياسي"، في محاولة للتمييز بوضوح بين القطاع الحكومي-السياسي وممارساتهم الخاصة.

بهذا المعنى، راود النشطاء الشباب الأمل بإسقاط شبكات المحسوبيات الاجتماعية والاقتصادية التي لا بد من المرور عبرها للتمكّن من تجاوز الآليات البيروقراطية للدولة، وذلك من أجل مشاريع مجتمعية تعاونية محلية خارج قيود "السياسة" الرسمية.

الإحباط السياسي والهجرة

شهدت الموجة الثانية من الاحتجاجات في عام 2019 تجدّد الوسائل التقليدية للحراك السياسي بصورة مؤقتة، ولكن أعقبها ارتداد واسع عن السياسة، وموجة هجرة من المنطقة، لا سيما في أعقاب تفشّي جائحة كوفيد-19 وما خلّفته من تداعيات اقتصادية مستمرة.

وفقًا للاستنتاجات البحثية الصادرة عن الباروميتر العربي لعام 2019، يبدو أن الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا لا يكترثون للسياسة الرسمية وغير الرسمية على السواء، ما يصبّ في إطار نزعة أوسع في المنطقة تتمثّل بالإحباط السياسي والخيبة من نتائج الربيع العربي. وتترتب عن ذلك تداعيات سلبية نظرًا إلى أن نسبة الشباب في المنطقة تشكّل 55 في المئة من مجموع السكان.

ولعل ما يثير القلق أكثر هو أن كل من النُسَخ الخامسة والسادسة والسابعة من الاستطلاعات التي أجراها الباروميتر العربي أكّدت أن لدى الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا رغبة جامحة في الهجرة بحثًا عن فرص أفضل.

ففي جميع البلدان التي شاركت في الاستطلاعات الأخيرة، أعرب الشباب في الفئة العمرية 18-29 عامًا عن رغبة في الهجرة أكبر من تلك التي أبداها نظراؤهم الأكبر سنًّا بفارق ست نقاط على الأقل.

 

نسبة من يريدون الهجرة من ذكور وإناث العالم العربي. Middle East and North Africa MENA Migration Statistics Arab Barometer 2020 Who Say that they consider migrating
وسيلة مفيدة لفهم انخراط الشباب: على الرغم من الاستنتاجات التي توصّل إليها الباروميتر العربي أخيرًا عن الهجرة وانكفاء الشباب يمكن أن يبقى مفهوم "الحراك غير السياسي" وسيلةً مفيدة لفهم انخراط الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا اليوم. ويعزو الباحثون ذلك إلى عدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية على مختلف الأصعدة، والتفاف النخب السياسية على الأجندات الإصلاحية، ووضع الثورة المضادة يدها على التيارات السياسية والاجتماعية، وهي عوامل دفعت بالشباب في السابق نحو الحراك غير التقليدي، وفق ما تكتب فاليري بطرس.

 

وقال أكثر من نصف الشباب ذوي التحصيل الجامعي إنهم يريدون مغادرة منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ما يزيد من احتمال "هجرة الأدمغة" مع ما يترتب عن ذلك من آثار سلبية على المدى الطويل.

مستقبل الحراك الشبابي

على الرغم من الاستنتاجات التي توصّل إليها الباروميتر العربي أخيرًا عن الهجرة وانكفاء الشباب، يمكن أن يبقى مفهوم "الحراك غير السياسي" وسيلةً مفيدة لفهم انخراط الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا اليوم.

ويعزو الباحثون ذلك إلى عدم المساواة الاجتماعية-الاقتصادية على مختلف الأصعدة، والتفاف النخب السياسية على الأجندات الإصلاحية، ووضع الثورة المضادة يدها على التيارات السياسية والاجتماعية، وهي عوامل دفعت بالشباب في السابق نحو الحراك غير التقليدي.

بعبارة أخرى، لا تزال العوامل السببية التي أدّت إلى صعود "الحراك غير السياسي" قائمة، حتى بعد تجدد الاحتجاجات السياسية خلال الموجة الثانية من الانتفاضات العربية. ولكن العجز عن الانخراط مع المؤسسات السياسية وتطبيق إصلاحات مباشرة لا يزال يثير تساؤلات مفتوحة عن مستقبل الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا. وفي حين أن الإصلاحات المحلية تساعد المجتمعات بطريقة فورية، لا يمكن تحقيق الحلول في المدى الطويل إلا بعد إجراء إصلاحات مباشرة للمؤسسات القائمة.

 

فاليري بطرس

حقوق النشر: مؤسسة كارنيغي 2023

 

 

ar.Qantara.de

 

فاليري بطرس حائزة على بكالوريوس في العلوم السياسية والفلسفة من جامعة كاليفورنيا، إرفين، حيث أعدّت أطروحة البكالوريوس عن الانتفاضات العربية ونالت جائزة عنها مع درجة الشرف. لديها خبرة بحثية في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، وهي تركز على الحراك الشبابي، وكانت متدرّبة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي.