عودة نزاع الشرق الأوسط إلى بؤرة ضوء المسرح العالمي
كان الساسة العرب يتظاهرون لعقود من الزمن بالدفاع عن الشعب الفلسطيني ويعملون بذلك على تعبئة مجتمعاتهم عاطفيًا بمحفِّزات قومية عربية. غير أنَّ هذه الظاهرة فقدت أهميتها بسبب الجهود من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل ضمن إطار اتفاقات إبراهيم (اتفاقيات أبراهام) ولكن أيضا بسبب التحوُّلات الإقليمية منذ بداية ثورات الربيع العربي في عام 2010.
وفجأة عادت هذه الأهمية من جديد بعد هجوم حماس الإرهابي على إسرائيل الذي أدى إلى إنهاء ذلك التجاهل الواقعي. وتشير إلى ذلك بوضوح المظاهرات المؤيِّدة للفلسطينيين في العديد من عواصم الدول المجاورة وخارج المنطقة. فهل يعني هذا تحوُّلًا في النظام الإقليمي أيضًا؟ وهل أصبحت الجهود المبذولة من أجل التطبيع بين إسرائيل والدول العربية الأخرى غير مطروحة على الطاولة؟ الإجابة هي: "لا" - وهذه هي فحوى هذا التعليق الصحفي، وذلك لعدم تغيَُّر أي شيء في البنية الأساسية للنظام الإقليمي.
لقد تركت اتفاقيات إبراهيم -المدفوعة بسياسة خارجية أمريكية متغيِّرة- بصمةً في المنطقة أثَّرت بدورها على حرب غزة الحالية وسهَّلتها أيضًا من خلال تهميش الفلسطينيين في جولات المفاوضات. ومع ذلك فإنَّ جهود التطبيع لم تكن في بعض البلدان مجرَّد "تزيين واجهات دبلوماسي".
إغراءاتُ صفقةٍ
لقد أدَّت اتفاقيات إبراهيم إلى تكثيف دائم لعلاقات إسرائيل مع الدول العربية. وشهدت على وجه الخصوص العلاقات الثنائية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة دفعة كبيرة في العديد من المجالات مع تكثيف كبير للعلاقات في قضايا التجارة والتمويل والتكنولوجيا. أمَّا في اتفاقيات أخرى -مثل الاتفاقية بين المغرب وإسرائيل- فيبرز جانب واحد بشكل خاص.
إذ تمكَّن المغرب من الحصول على اعتراف من الولايات المتحدة الأمريكية بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية والوعد بأنَّ حلّ النزاع لن يتم إلَّا من خلال مشاريع الحكم الذاتي المغربية. وبات واضحًا في وقت مبكِّر أنَّ نجاح أو فشل سياسات التطبيع سيحدِّد إنْ كانت المملكة العربية السعودية مستعدة أيضًا لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
وكان يبدو أنَّ العديد من تدابير بناء الثقة المتَّخذة خلال السنين السابقة -بما فيها فتح المجال الجوي السعودي أمام الرحلات الجوية من وإلى إسرائيل والتعاون بين أجهزة الاستخبارات- تشير إلى تعبيد طريق تطبيع العلاقات. وبدا بالإضافة إلى ذلك أنَّ في متناول القيادة السعودية التوصُّل في الجولات الأخيرة من المفاوضات إلى صفقة استراتيجية.
التطبيع لا يحظى بشعبية في السعودية
كانت العائلة السعودية المالكة تُصر على تقديم تنازلات ضمن إطار التطبيع السعودي الإسرائيلي بهدف الوصول إلى التكنولوجيا النووية من أجل الاستخدام المدني للطاقة النووية. ومع ذلك لا تحظى جهود التطبيع بشعبية كبيرة في المجتمع السعودي. وهذا الافتقار إلى الشعبية لن يتضاءل في ضوء الحرب الحالية، ولكن هذه الحقيقة ليس لها سوى أهمية ثانوية من وجهة نظر حكم الفرد المطلق.
وتشير تصريحات الدوائر الحكومية السعودية إلى السعي من أجل منع تصاعد الصراع بين إسرائيل وحماس. لا يريد السعوديون أن تُدمِّر الحرب كلَّ شيء، ولذلك لا بدّ من بذل جهود كبيرة من أجل البناء على ما تم تحقيقه، بحسب الكثير من التصريحات على منصة التواصل الاجتماعي إكس بمناسبة انعقاد مبادرة مستقبل الاستثمار FII في العاصمة السعودية الرياض في نهاية شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023.
حضر أعمال هذه المبادرة جاريد كوشنَر -وهو صهر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وأحد المبادرين في اتفاقيات إبراهيم (اتفاقيات أبراهام)- وقد تحدَّث على منصة إكس عن إيجاد حلّ حاسم لنظام إقليمي مستقر كمفتاح لإنهاء دوامة العنف الحالية - وهو تقييم مثير جدًا للجدل إذا حكمنا على الردود الحية لتصريحاته على منصة إكس مع العديد من التقييمات والآراء المقدَّمة من أصحاب المصلحة الراسخين في المنطقة.
رؤى السلطة وعوامل توتُّر سياسي داخلي
عاد صراع الشرق الأوسط مرة أخرى إلى بؤرة الصراع السياسي والاجتماعي في المنطقة. ولكنه يعكس أيضًا خط صراع أوسع إقليميًا في المنافسة على دور القيادة الإقليمية الذي اكتسب زخمًا منذ عام 2003 (التدخُّل الأمريكي في العراق) وبشكل خاص منذ ثورات الربيع العربي بعد عام 2010.
تتنافس دول مثل المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران وكذلك دول أصغر مثل الإمارات العربية المتحدة على القيادة الإقليمية - وحتى على دور الهيمنة، ولكنها لا تملك القدرات المادية وغير المادية من أجل فرض هذا المطلب. وبالذات هذه النظرة إلى الأمور تحظى بقدر قليل من الاهتمام عند تقييم الحرب الحالية في غزة.
لقد كان الهجوم على إسرائيل -من وجهة نظر الجانب الذي يسمي نفسه "محور المقاومة" وشكَّلته إيران وحزب الله وجماعات مسلحة أخرى- بمثابة محاولة لدفع الصراع من جديد إلى قمة الأجندة السياسية بهدف إحباط المزيد من التقارب بين دول الخليج العربية وإسرائيل. ويبقى القلق من توسُّع الصراع سيناريو حقيقيًا وشديد الانفجار، ولكنه يبقى من وجهة نظر الأطراف الفاعلة المعنية هدفًا غير مرغوب فيه.
وذلك أوَّلًا وقبل كلّ شيء لأنَّ الصراع -المشتعل داخل ممرات يمكن السيطرة عليها- يقدِّم المزيد من الخيارات التي يمكن استغلالها لأهداف سياسية داخلية. والنظام الإيراني يعطي درسًا في لعب السياسة الخارجية على مستويين، وهو مكرَّس ليس فقط لتحقيق مصالح السياسة الخارجية بل أيضًا لتحقيق وظيفة سياسية داخلية. فالصراع بين إسرائيل والفلسطينيين يستخدم دائمًا في إيران كأداة تعبئة من أجل إضفاء الشرعية على السياسة الداخلية.
إيران بحاجة إلى صورة عدو يمكن استخدامها بمرونة
صحيح أنَّ قوة التعبئة هذه قد وصلت إلى أقصى حدودها وأنَّ الأسئلة حول فائدة التحويلات المالية الكبيرة إلى حزب الله تتزايد نظرًا إلى الوضع الاقتصادي الكارثي في إيران نفسها -ولذلك فإنَّ زيادة التصعيد ليس في مصلحة النظام الإيراني- ولكن إيران لا تزال بحاجة إلى صورة عدو يمكن استخدامها بمرونة بغرض تأمين حكمها، لأنَّ نظامها السياسي لا يزال يهتز بعد عام من بدء الاحتجاجات الجماهيرية بعد وفاة مهسا أميني.
تعمل العديد من بؤر الصراع في المنطقة على تقييد القدرات المادية الهائلة. وهذا المنظور يُفسِّر سبب استئناف إيران مؤخرًا علاقاتها الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية بوساطة صينية. فقد كان التقارب بالنسبة لإيران وكذلك للمملكة العربية السعودية بمثابة فرصة لإيجاد طريقة لحفظ ماء الوجه من أجل الخروج من حرب اليمن التي تم خوضها كحرب بالوكالة منذ عدة سنين.
وثانيًا تواجه المملكة العربية السعودية وممالك إمارات الخليج المجاورة التحدي المتمثِّل في قيادة أنظمتها السياسية إلى عصر ما بعد النفط، حيث يجري الآن استخدام العديد من مجالات التنويع - من رواية روَّاد سياسة المناخ وحتى منظمي الفعاليات الرياضية الكبرى التي تتطلب الحد الأدنى من الاستقرار الإقليمي. فالمزيد من تصعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يعني أن مشاريع التنمية الحضرية السعودية الكبرى مثل مشروع مدينة نيوم على البحر الأحمر- معرَّضة لتهديد كبير.
مصر عالقة في أزمة ديون
ودول الخليج ليست الوحيدة المهتمة في وقف التصعيد: فمصر أيضًا تواجه حاليًا ضغوطًا سياسية داخلية، حيث يتطلب التضخم المالي الجامح وأزمة الديون الكبيرة اهتمام النظام. وعلى الرغم من أنَّ مصر تقدِّم نفسها في دورها التقليدي كوسيط ومدير للممرَّات الإنسانية عبر معبر رفح الحدودي وكذلك رغم أنه يتم التسامح في مصر مع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، ولكن هذه المظاهرات تعتبر بالنسبة لنظام عبد الفتاح السيسي في المقام الأوَّل كمتنفَّس لكي لا يصبح النظام نفسه هدفًا للاحتجاجات.
ويشير إلى مدى توتُّر النظام المصري تقديم موعد الانتخابات الرئاسية إلى شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2023 والتي يترشَّح فيها السيسي لولاية أخرى. وهذه القيود والدوافع السياسية الداخلية تفرض على النظام المصري سياسة خارجية أنشط في الصراع الحالي.
لا يمكن تفسير هجوم حماس الإرهابي والحرب المستمرة منذ ذلك الحين بشكل كافٍ من خلال منظور داخلي يشير إلى عوامل مثل الاحتمالات الفاشلة لحلِّ الدولتين والصراعات السياسية الداخلية في إسرائيل وافتقار الممثلين الفلسطينيين إلى القدرة على العمل.
غير أنَّ التنافس بين الدول الساعية إلى القيادة الإقليمية هو الذي يحدِّد نتيجة الصراع على المدى الطويل من خلال محدِّادت الصراع الخاصة به. كما أنَّ إيلاء المزيد من الاهتمام بالنزاع الإقليمي على الهيمنة -وكيفية تأثيره على الحرب الحالية وتوجيهها في بعض الأحيان- يكشف أيضًا عن سيناريوهات الحلّ المحتملة. وجميع الفاعلين الإقليميين توحِّدهم مصلحتهم في تجنُّب خروج التصعيد عن السيطرة.
ولكن هذا يُحمِّل الوسطاء المركزيين في شبه الجزيرة العربية -مثل المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر- مسؤوليةً مباشرة للمساهمة في التوصُّل إلى حلّ دبلوماسي للنزاع والبحث عن سبل مناسبة للمضي قدمًا. وهذا يتطلب أيضًا مشاركة أكبر من السلطة الفلسطينية التي تحتاج في أقرب وقت إلى شرعية ديمقراطية ويمكنها من خلالها أيضًا أن تكتسب القدرة على العمل داخليًا.
وتوجد على المستوى الدولي مخططات أساسية يمكن تطبيقها لإدارة إقليمية مستقبلية في قطاع غزة. وبعثة الاتحاد الأوروبي للمساعدة على إدارة الحدود في رفح EUBAM -التي تأسَّست في عام 2005 بعد مفاوضات مطوَّلة- توفِّر في هذا الصدد خيارات لنظام حدودي بين مصر وغزة. ومن المؤكَّد أنَّ حلّ الدولتين الذي يضمن الحقّ في تقرير المصير والأمن يبقى على المدى المتوسِّط السبيل الأكثر منطقية لتحقيق السلام الدائم.
توماس ديملهوبر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
Qantara.de/ar
يعمل الدكتور توماس ديملهوبر أستاذًا للعلوم السياسية ومجتمع الشرق الأوسط في جامعة فريدريش-ألكسندر إرلنغن- نورنبيرغ الألمانية.