خطة هدنة من دون استراتيجية لخروج إسرائيل من غزة
أين هو المخرج وقبل كلِّ شيء كيف يمكن الوصول إليه؟ هذا هو السؤال الأكثر خطورة المطروح في الوقت الحالي حول الهجوم الإسرائيلي على غزة.
وذلك لأنَّ اقتراح وقف إطلاق النار الأخير المقدَّم من الرئيس الأمريكي جو بايدن حتى لو كان قد تبلور بالفعل وقبلته كلُّ من إسرائيل وحماس فإنَّه يتجاهل سؤالاً مهمًا: ماذا سيحدث عندما -كما هو مقترح على ثلاث مراحل- يتوقَّف إطلاق النار ويجري تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وينسحب الجيش الإسرائيلي فعليًا من قطاع غزة وتبدأ عملية إعادة الإعمار؟ ومَنْ الذي سيتولى بعد ذلك الإدارة ومَنْ الذي سيضمن الأمن هناك؟ هذا السؤال يبقى غير واضح في اقتراح بايدن.
ومن جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما يزال يدور الحديث حول القضاء على حماس. لقد قلَّل الرئيس الأمريكي جو بايدن من أهمية الأمر كله من أجل جعل اقتراح وقف إطلاق النار الجديد مقبولًا بالنسبة لنتنياهو، أي بمعنى أنَّ إسرائيل قد نجحت في تدمير قدرات حماس إلى حدّ أنَّ تكرار السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023 لم يعد ممكنًا.
هدف حرب إسرائيل غير واقعي
والواضح أنَّ إسرائيل إن وافقت على هذه الصفقة فتكون قد تخلَّت عن هدفها الأصلي من هذه الحرب - أي تدمير حماس. علمًا بأنَّ تحقيقه كان على أية حال غير واقعي منذ البداية. فبحسب تقرير نشرته صحيفة بوليتيكو الشهر الماضي ويعتمد على تصريحات من أوساط استخباراتية أمريكية فقد قُتل حتى ذلك الوقت فقط ثلث مقاتلي حماس الذين كانوا نشطين منذ السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2023، في حين أنَّ خمسة وستين بالمائة من الأنفاق التي تستخدمها حماس ما تزال سليمة، وبالإضافة إلى ذلك فقد جنَّدت حماس في الأشهر السبعة الماضية آلاف المقاتلين الجدد.
وفي الأصل برَّر بنيامين نتنياهو هجومه العسكري الأخير على مدينة رفح أيضًا بالقضاء على كتائب حماس "الأربع الأخيرة" المفترضة هناك. وكان من المفترض أن يكون ذلك بمثابة ورقته الأخيرة التي يلعبها في الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة.
ولكن ذلك لم يؤدِّ حتى الآن -بحسب أرقام الأمم المتحدة- إلَّا إلى دفع مليون شخص إلى النزوح مجدَّدًا من رفح. وبدلًا من القضاء نهائيًا على حماس في رفح فقد دخل الجيش الإسرائيلي من جديد في معارك معها داخل مخيم جباليا للاجئين في شمال قطاع غزة.
وكانت هذه المعارك هي الأعنف منذ بداية الحرب وفي داخل منطقة أعلن الجيش الإسرائيلي قبل أشهر أنَّها "تحت السيطرة". وفي هذه الأثناء انسحب الجيش الإسرائيلي مرة أخرى من هناك أيضًا. مسألة وقت فقط حتى تعود حماس إلى هناك. كما أنَّ جميع محاولات الجيش الإسرائيلي لتدمير حماس تشبه مَنْ يحاول إفراغ الماء من قارب مثقوب.
خطط لفترة ما بعد الحرب
والمشكلة هي ما يواجهه مرارًا وتكرارًا كثيرون من أفراد القوات العسكرية الإسرائيلية. فهم يُرسَلون إلى الحرب من قِبَل السياسيين ويحقِّقون نجاحات أولية كبيرة وبعد ذلك لا يكون لدى السياسيين أية استراتيجية خروج من أجلهم.
لقد اضطر الجيش الأمريكي إلى تعلم هذا الدرس في العراق ومؤخرًا بشكل مؤلم في أفغانستان. وإسرائيل عانت من هذه التعاسة في الحرب ضدَّ حزب الله في لبنان عام 2006 والتي لم يتمكَّن فيها الجيش الإسرائيلي القوي من هزيمة حزب الله الشيعي الذي صار يشارك منذ ذلك الحين في السلطة في بيروت. والجيش الإسرائيلي يقف الآن في غزة أمام هذه النقطة أيضًا.
ومع ذلك تنتشر في إسرائيل أعنف الخطط لفترة ما بعد الحرب. حيث يدور الحديث مرة عن إمكانية أنَّ تتولى شركة أمنية خاصة (كلمة أخرى للمرتزقة) السيطرة على معبر رفح الحدودي مثلًا. ثم تُناقَش مسألة إنْ كان يجب أن تتولى بعثة من الاتحاد الأوروبي هذه المهمة على المعبر الحدودي، ومع ذلك يبقى من غير الواضح تمامًا مَنْ الذين يجب أن يكونوا الشركاء الفلسطينيون هنا.
ثم تنتشر أيضًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية رواية مفادها أنَّ السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية ليست هي التي يجب أن تتولى السلطة في قطاع غزة كله، بل مجموعة غير محدَّدة من الفلسطينيين الذين يجب ألَّا يكونوا على صلة بحماس. أمَّا السلطة الوطنية الفلسطينية فمِن المفترض أن تلعب في أحسن الأحوال دورًا غير رسمي، ولكنها رفضت ذلك.
مَنْ يملأ فراغ السلطة؟
ثم يدور الحديث مرة أخرى عن قوة حفظ سلام دولية أو عربية من المفترض أن تملأ فراغ السلطة في قطاع غزة بعيدًا عن حماس.
وجميع هذه السيناريوهات تواجه مشكلة كبيرة. فحتى الآن لا يريد بنيامين نتنياهو ولا منافسه في حكومة الحرب بيني غانتس ولا وزير الدفاع يوآف غالانت التخلي عن السيطرة الأمنية الإسرائيلية على قطاع غزة في فترة ما بعد الحرب.
وبحسب رأيهم يجب أن يبقى قطاع غزة معزولًا عن بقية العالم. وإسرائيل لا تريد الاستمرار في السيطرة فقط على كلِّ ما يخرج من قطاع غزة وما يدخل إليه، بل تريد السيطرة أيضًا على المجال الجوي فوق قطاع غزة والبحر الممتد أمامه. وباختصار: إسرائيل تريد الحفاظ على الوضع الراهن الذي فشل حتى قبل الحرب في ضمان أمنها، كما ظهر ذلك وبشكل مؤلم لجميع الإسرائيليين في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر الدامي 2023.
وبالإضافة إلى ذلك يوجد الآن ممر نتساريم الأمني الإسرائيلي الذي أنشأته إسرائيل في وسط قطاع غزة. وهو عبارة عن شريط يمتد بين الحدود الإسرائيلية حتى البحر الأبيض المتوسط ويفصل قطاع غزة إلى جزئين شمالي وجنوبي ويضمن للجيش الإسرائيلي الوصول بسرعة إلى المنطقة.
والجيش الإسرائيلي يريد -بحسب الظروف- الاحتفاظ بحق تنفيذ المزيد من الحملات والمداهمات العسكرية أو حتى القصف بالقنابل. وبعبارة أخرى: من المفترض أن يستمر الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة حتى بعد التوصُّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
قوات حفظ السلام غير متوقعة
ولكن في ظلِّ هذه الظروف لن يوافق أي طرف -سواء كان من الفلسطينيين غير المنتمين إلى حماس أو من السلطة الوطنية الفلسطينية أو أية قوة لحفظ السلام عربية كانت أو دولية- على لعب دور شرطي من أجل إسرائيل في قطاع غزة.
وهذا لأنَّ ما سيحدث بعد ذلك من الممكن توقُّعه بسهوله. إذ إنَّ أي طرف يتولى هذا الدور سيُنظَر إليه من قِبَل الفلسطينيين في غزة -سواء كانوا من أنصار حماس أو من معارضيها- على أنه متعاون مع الاحتلال الإسرائيلي.
لقد قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مقابلة مع قناة سي بي إس التلفزيونية الأمريكية الشهر الماضي إنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تعمل منذ عدة أسابيع على وضع خطة ذات مصداقية لفترة ما بعد الحرب في غزة حتى يُشكَّل جهازٌ أمني بعيد عن حماس. وذكرت صحيفة فايننشال تايمز أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية يبدو أنَّها تجري محادثات مع بعض الدول العربية حول احتمال نشر قوة حفظ سلام عربية في غزة لتملأ الفراغ الأمني بعد انتهاء الحرب هناك.
هذا وقد اعتمدت صحيفة فايننشال تايمز على محادثات مع مسؤولين غربيين وعرب لم تذكر أسماءهم. وذكرت الصحيفة أنَّ المسؤولين في مصر والإمارات العربية المتحدة والمغرب يُفكِّرون في المشاركة في قوة حفظ سلام عربية. وأضافت أنَّ المملكة العربية السعودية قد رفضت على الفور.
ومع ذلك، لا يمكن أن تكون هذه المحادثات أكثر من مجرَّد محادثات لجس النبض، فحتى الآن لم تصدر أية دولة من هذه الدول العربية تأكيدًا رسميًا ولم تُجْرِ نقاشًا عامًا حول نشر قوة لحفظ السلام في قطاع غزة.
حل الدولتين: مخرج حقيقي
وفي الوقت الحالي يبدو أنَّ هذا الأمر كله لم يتجاوز التفكير غير الملزم وهو على الأكثر مجرَّد بالون اختبار، -وحتى لو- فمن الواضح أنَّ المحاورين العرب المجهولي الهوية في هذه المحادثات قد اشترطوا شرطًا يفيد بأنَّ أية مشاركة عربية في قوة حفظ سلام محتملة لن تكون ممكنة إلَّا إذا كانت مصحوبة بإجراءات لا رجعة فيها من أجل تحقيق حلِّ الدولتين.
وهذا يجعلنا ندور في حلقة مفرغة لأنَّ قيام الدولة الفلسطينية المحتملة في قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية هو أمر مرفوض رفضًا قاطعًا ليس من قِبَل بنيامين نتنياهو وحده بل حتى من قِبَل غالبية من السكان الإسرائيليين.
وهكذا فإنَّ جميع أفكار ما بعد الحرب تظل في النهاية مجرَّد كلام فارغ. وتبقى الحقيقة أنَّ قطاع غزة قد دُمِّر إلى حدٍّ كبير ولكن حماس لم تُدمَّر. ولذلك ينتشر ببطء إدراك بأنَّ الاحتلال الإسرائيلي والسيطرة الأمنية الإسرائيلية الكاملة على قطاع غزة من المرجَّح أن يستمرا وسيستمر بذلك عدم الاستقرار ليس فقط بالنسبة لإسرائيل والفلسطينيين بل للمنطقة كلها. وذلك لأنَّنا لن نجد في النهاية شخصًا عاقلًا يستطيع في ظلِّ الظروف الحالية أن يجد مخرجًا من هذه الورطة على الصعيدين الأمني والعسكري في غزة بعد الحرب.
والمخرج الحقيقي الوحيد قد يكمن في التوصُّل دوليًا وبمشاركة الفلسطينيين إلى إقرار حلّ دولتين قابل للحياة مع إسرائيل وتحديد المسار والإطار الزمني بدقة من أجل تحقيق ذلك.
ولضمان ذلك يجب أوَّلًا أن يُعترف دوليًا بإنشاء دولة فلسطينية. وفقط عندما يُحدَّد هذا الهدف بضمانات دولية يمكن عندئذ أيضًا التفكير في حلول مؤقَّتة وترتيبات أمنية جادة يمكن تحقيقها من أجل قطاع غزة - ولا يوسم المشاركون فيها بسمعة كونهم مجرَّد وكلاء للاحتلال الإسرائيلي وذراعه الطويلة في قطاع غزة. وذلك لأنَّ هذا -كما شهدنا خلال الأشهر الماضية- لا يُوفٍّر الأمن لا للفلسطينيين ولا للإسرائيليين.
كريم الجوهري
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024