في تونس...الحريات السياسية لا تكفي
مشاهد الاحتجاج والعنف في يناير ليست أمرا طارئا في تونس، فالبلاد شهدت على مرّ السنين أحداثا مشابهة، حتى قبل الثورة على نظام بن علي في 2011، فيناير هو شهر الاحتجاجات المطلبية منذ الأزمة بين اتحاد الشغل (المركزية النقابية) والحكومة عام 1978 تحت حكم الراحل الحبيب بورقيبة، وثورة الخبز عام 1984، مرورا بأحداث الحوض المنجمي عام 2008، والإطاحة بنظام زين العابدين بن علي عام 2011 .
وفي السنوات التي تلت الثورة، التي لم يخلُ يناير أبدا من الغضب، لكن من الواضح أنّ ليناير 2018 خصوصية، حتى لو بدت احتجاجاته كنتيجة مباشرة لقانون الموازنة.
وجد متظاهرو تونس أنفسهم، وغالبيتهم من الشباب، الذين شاركوا في الحراك الثوري ضد نظام بن علي، بعد 7 سنوات، يرفعون ذات المطالب التي رفعت في 2011، أي أنهم مجددا في صلب احتجاجات اجتماعية تُرفع فيها شعارات التشغيل والحرية والكرامة، فالوضع الاقتصادي والمعيشي مازال متأزما، ولم تفلح الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في الحد من البطالة، وكبح جماح الغلاء والتضخم والمديونية وعجز الميزان التجاري، ووقف تدهور قيمة الدينار مقابل العملات الأجنبية.
ورغم عودة الإنتاج إلى قطاع الفوسفات الحيويّ، وارتفاع مردود القطاع السياحي الذي تضرر كثيرا من الاعتداءات الإرهابية، وتنامي مردود الفلاحة لهذا العام فإن كل ذلك لم ينعكس، إيجابيًا، على الوضع الاجتماعي والمعيشي للتونسيين.
تنخرط تونس في منوال اقتصادي مكرّر وهجين منذ أوساط الثمانينات من القرن الماضي، بدأ مع "برنامج الإصلاح الهيكلي" الذي مثل ارتهانا غير متكافئ لدى المؤسسات المالية الدولية، ليتحول الاقتصاد إلى الصنف التابع والهشّ الذي يستقطب استثمارات ضعيفة، وذات قيمة مضافة محدودة وقدرة تشغيلية غير مستقرة على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمّال، ما أدّى بدوره إلى تفاوت واضح في نسق التطور الاقتصادي والاجتماعي أنتج ديونا ضخمة، وبطالة وتآكلا للطبقة الوسطى، وتعميقا للتفاوت خاصة بين الجهات. (الساحل المحظوظ والدواخل المهمّشة).
ورغم أن التداين في حد ذاته لا يمثل مشكلة إذا كان لغاية توفير فرص العمل وخلق الثروة، إلا أن تونس صارت تقترض من أجل سد عجز الموازنة، عوضا عن توظيف الديون في أنشطة اقتصادية تنموية.
منوال تنموي عتيق
تعيش تونس بشكل رئيس على المساعدات الطفيفة من أصدقائها الغربيين، ومن الديون، خاصة ما تحصل عليه عبر برامج واتفاقيات صندوق النقد الدولي والتي كان آخرها في مايو 2016 بنحو 3 مليار دولار. والدين الخارجي لتونس قفز من 22.6 مليار دولار في 2011 إلى 28.1 مليارا بنهاية 2016، أي بزيادة نحو 6 مليارات دولار خلال 5 سنوات، مع توقعات بأن تبلغ الديون أكثر من 30 مليار دولار في 2018.
ارتباك فاقم الوضع
لم يكن أداء الحكومة والمعارضة خلال الاضطرابات الأخيرة، التي تشير خارطتها إلى توزعها بين 16 محافظة، في مستوى خطورة الأحداث، وساهم أداء البرلمان وتصريحات الحكومة وتبادل الاتهامات، والتعامل الأمني العنيف بالضرب والاعتقال، في ازدياد احباط المحتجين وانزلاق بعض التظاهرات نحو التخريب.
وجدير بالتذكير أنّ حكومة السيد يوسف الشاهد ترفع شعار "الحرب على الفساد" منذ سنة تقريبا واعتقلت متورطين كبارا في شبكات التهريب، لكن حزب الشاهد نفسه يضمّ بين صفوفه قيادات دافعت عن هؤلاء المعتقلين الفاسدين، لأنها تتعامل معهم، ما ولّد حيرة كثيرة لدى المواطنين حينها، تحوّلت فيما بعدُ إلى أزمة ثقة فيما يتعلق بنوايا الحكومة في القضاء نهائيا على الفساد والتهريب أم حمايته و"تقنينه"، خاصة مع الترتيب المتدني الذي تحصل عليه تونس كل عام فيما يتعلق بمقاومة الفساد والشفافية والرقابة والحوكمة.
البرلمان أيضا عزز انعدام الثقة والقطيعة بين المحتجين والنخب السياسية في تونس، فقد صار بأدائه الهزيل وتصويته المستمر على قوانين تجعل العبء الأكبر من توفير موارد مالية للدولة يقع على عاتق الفقراء، مقابل امتيازات كثيرة للأغنياء، رمزا لتهافت السياسيين وابتعادهم عن هموم التونسيين اليومية بمجرد الوصول إلى السلطة. ناهيك على أنّ سنين طويلة من التهميش خلقت ما يشبه "المجتمع الموازي" في تونس قوامه المحرومون والعاطلون، وتعمّقت الفوارق كثيرا بين أغنياء محظوظين وفقراء مُهمشين، فتولّدت داخل المناطق المحرومة ثقافة مضادة للنظام وللنخب، وتفشت الجريمة بأصنافها، وأضحى العنف المادي والرمزي أحد مقومات هوية الأحياء الأكثر فقرا في تونس.
الالتفاف على الحلول.. إلى متى؟
يدرك معارضو تشكيل الحكومة الحالية في تونس المكون من ائتلاف حزبي النهضة والنداء وغالبية المحتجين، أنّ لوبيات فساد نافذة وقوية، موروثة من العهد السابق، ارتمت في احضان رأسي هذه المنظومة، ما يجعل غالبية القوانين والقرارات والاجراءات تصبّ في مجملها في صالح المتنفذين وكبار رجال المال والأعمال.
ولا يبدو لتونس خلاص من الانفجار الاجتماعي الا بسياسة اقتصادية مختلفة، تستلهم من الدستور الجديد، الذي فرض "التمييز الايجابي" تجاه المناطق المهمشة والفئات الاضعف، و"اللاّمركزية" في الحكم، وتلك بنود وفصول دستورية مازالت حبرا على ورق ولم يتم تنزيلها بعدُ على أرض الواقع.
كما تحتاج مقاربة الحلول الممكنة، إلى مراجعة فورية للمنوال الاقتصادي الحالي، نحو التحّكم أكثر في الواردات التي تُجلب بالعملة الصعبة، اضافة إلى مقاومة "الاقتصاد الموازي" ومسالك التهريب بجدية أكبر، خاصة وأنّ أكثر من نصف الناتج الوطني المحلي يدخل ضمن الاقتصاد الموازي، وهذا يعني أن 54 في المائة لا يدفعون الضرائب ولا الجباية ولا يُموّلون الصناديق الاجتماعية، ومن شأن التصدي للتهرّب الضريبي أن يوفر موارد قد تغني الحكومة عن المسارعة إلى خيار التداين العشوائي الذي أثبت فشله وعمّق الأزمة.
تطبيق تلك الحلول سيصطدمُ بالضرورة بنخبة سياسية حاكمة، تربطها علاقات وطيدة بلوبيات الفساد التي صرفت الكثير لكي توصل تلك النخبة للحكم لتخدم مصالحها، وهذا هو جوهر المأزق في تونس، فالثورة التي أطاحت برأس نظام استبدادي وعوضته بآخر تحرّري شكلي، حافظت تقريبا على أعمدة النظام السابق وأركانه وعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية دون تغيير يذكر.
إسماعيل دبارة
حقوق النشر: قنطرة 2018
*إسماعيل دبارة صحافي تونسي وعضو الهيئة المديرة لمركز تونس لحرية الصحافة.