ازدياد الانتحار في تونس - احتجاج يائس أخير على سوء المعيشة

رغم أن تونس أنجح مثال بين دول الربيع العربي ورغم مناخها الديمقراطي السائد فإن الإحباط السياسي والقلق من الحالة الاقتصادية منتشر على الأخص في الفئة الشابة. فمنذ عام 2011 ازداد الانتحار في هذا البلد، وبات البعض يعتبر ذلك شكلا من أشكال الاحتجاج السياسي. حنا الهيتمي والتفاصيل لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: هنا الهيتمي

يحمل شاب في فيديو على "يوتيوب" قنينة بلاستيكية مملوءة بالبنزين عالياً ويقول: "بعد عشرين دقيقة من الآن سأحرق نفسي". إنه عبد الرزاق زرقي، الذي تفوّه بهذه الكلمات قبل إقدامه على الانتحار في ديسمبر من العام 2018.

الزرقي كان يحتج على البطالة والفقر في مدينته القصرين وسط تونس. وتابع الصحفي في كلمته الأخيرة بالقول: "إذا وجد واحد فقط عملاً من خلال ذلك، فلن يكون موتي قد ذهب هدراً". بعد ذلك بساعات قليلة، أعلن عن وفاته في المستشفى متأثراً بالحروق التي أصيب بها. وبعد ذلك، اندلعت المظاهرات في القصرين مجدداً.

قبل ثماني سنوات تقريباً من انتحار زرقي، أقدم بائع الخضار محمد البوعزيزي على الانتحار حرقاً، مشعلاً بذلك الثورة التونسية، والتي كانت شرارة احتجاجات شعبية مماثلة من مصر إلى اليمن، فيما أطلق عليه الربيع العربي. ومنذ ذلك الوقت، تزداد في شهر ديسمبر تحديداً كل عام حالات الانتحار في تونس. البعض، مثل زرقي، يتم تسليط الضوء عليهم إعلامياً، بينما يُطوى الآخرون في غياهب النسيان.

حول ذلك تقول فاطمة الشرفي، الطبيبة المختصة في علم نفس الأطفال وعضوة اللجنة الفنية لمقاومة الانتحار في وزارة الصحة التونسية: "ما نراه منذ عام 2011 ظاهرة جديدة لم نشهدها من قبل ... شخص لا يرى أملاً في المستقبل يقدم على الانتحار. ولكنه يريد إضفاء صبغة احتجاج اجتماعي على ذلك من خلال قيامه به أمام آخرين. إنها رسالة للدولة: لقد فشلت، ولكنني لا أريد أن يلقى آخرون نفس مصيري". وتعتبر الشرفي أن المجموعة الأكثر عرضة للانتحار هي من هم بين سن 25 و40 عاماً. كما تلاحظ أيضاً ارتفاع نسب الانتحار بين الأطفال والشباب.

 

موت الصحفي التونسي عبد الرزاق زرقي في نهاية ديسمبر / كانون الأول عام 2018 أدى إلى احتجاجات غاضبة.  Foto: Reuters
Empörung über die Gleichgültigkeit und das Versagen des Staates: Der Tod des tunesischen Journalisten Abderrazak Zorgui hatte Ende Dezember 2018 wütende Proteste ausgelöst. Jugendliche Reifen setzten in Kasserine Gebäude und Fahrzeuge in Flammen und blockierten Straßen. Auch nach Zorguis Beerdigung brachen in der wirtschaftlich verarmten Stadt, etwa 270 Kilometer von der Hauptstadt Tunis entfernt, erneut Unruhen aus.

 

وضع الكثيرين أسوأ مما كان قبل الثورة

تعتبر تونس مثالاً نموذجياً على التحول الديمقراطي الناجم عن الربيع العربي. فلم تنشب حرب في هذا البلد مثلما حصل في سوريا أو ليبيا أو اليمن. كما لم تقم حكومة عسكرية بانتزاع السلطة مثلما حصل في مصر. لم يعد هناك اعتقال أو تعذيب للناس بسبب آرائهم، والرئيس والبرلمان يُنتخبان بشكل ديمقراطي منذ عام 2011.

لكن بعيداً عن هذا التحول الديمقراطي، فإن كثيراً من الناس هناك يشعرون بأن الاقتصاد لم يتحسن بالنسبة لهم، بل إن كثيرين منهم ساءت أوضاعهم بعد الثورة مقارنة بما قبلها، ما جعلهم يائسين بسبب ما انتظروه من وراء هذا التحول السياسي ولم يتحقق.

منذ عام 2011 ونسب الانتحار في البلاد في ازدياد، والموت حرقاً باتت أكثر طرق الانتحار شيوعاً بعد الشنق. بين عامي 2011 و2016 ازدادت حالات إحراق الذات ثلاث مرات، إذ وثق المحللون الجنائيون في تلك الفترة 148 حالة. من يقوم بإحراق نفسه، يقوم بذلك على الملأ، آملاً في أن يؤدي موته إلى تحرك ما.

انضمت الطبيبة النفسية فاطمة الشرفي عام 2015 إلى اللجنة الفنية لمقاومة الانتحار، والتي تتألف من أطباء وعلماء جنائيين وأخصائيين نفسيين وأخصاء في الطب النفسي للأطفال وعناصر الخدمات الطبية.

كان الهدف الأساسي لهذه اللجنة هو إجراء أبحاث على حالات الانتحار، إذ لم تكن هناك أرقام رسمية قبل 2015، ومن ثم رفع مستوى الوعي لدى العاملين في المجالات التي تحتك بهذه الحالات بشكل مباشر، ومن بينهم نحو 500 طبيبة وطبيب من كل أنحاء تونس، إضافة إلى صحفيات وصحفيين، لأن عدم تعامل الإعلام بشكل حذر مع تغطية حالات الانتحار يؤدي إلى ظهور أشخاص يحاولون تقليد طرق الانتحار، بحسب الشرفي.

أحد أسباب حالات الانتحار المتزايدة بالحرق هو التغطية الإعلامية التي حصل عليها محمد البوعزيزي. في هذا الصدد تقول فاطمة الشرفي: "لقد نشر الإعلام صورة البوعزيزي، الذي أشعل الثورة من خلال انتحاره، بشكل كبير. هذه الصورة أدت إلى أن يقول كثيرون: إذا انتحرت، أريد أن يشعل موتي موجة احتجاج، وأن يتحدث الناس عني". لهذا بات من المهم عدم توضيح طريقة الانتحار في الإعلام، وعدم التعامل مع ذلك بشكل إيجابي وعدم تصوير الميت على أنه بطل، كما تقول الشرفي.

لكن تقليد المنتحر لا يفسر وحده الازدياد في نسب الانتحار، فهي تعود بشكل أكبر إلى اليأس السياسي والاقتصادي الذي انتشر على نطاق واسع بعدما كانت هناك آمال كبيرة معلقة على الثورة. بعد عام 2011 ارتفعة نسبة البطالة في تونس إلى 15 في المائة، وأكثر من ضعف هذه النسبة بين الشباب. حتى بين خريجي الجامعات تبلغ نسبة البطالة حوالي 30 في المائة.

​​​​​​ويعتقد أيمن ن. أن "أم المشاكل بالنسبة للجيل الشاب في تونس منذ عام 2011 هي غياب الأمل". زميل أيمن، كريم س.، أقدم على الانتحار في خريف عام 2011، وحده في منزله ودون الإعلان عن ذلك مسبقاً.

عانى كريم، الذي كان يبلغ من العمر وقتها 27 عاماً، عدة شهور قبل انتحاره من الاكتئاب، بحسب ما يتذكر أيمن: "كانت الثورة بالنسبة لنا آنذاك حلماً بدا بعيد المنال. لكن عندما أصبح الحلم حقيقة، علقنا آمالاً كبيرة. لكن الواقع واختلافه عن آمالنا يبدو أنه لم يكن يُحتمل بالنسبة لكريم".

الانتحار – تابو ديني ومجتمعي

وما زاد من هموم كريم وقتها كان فوز حزب النهضة الإسلامي المعتدل في الانتخابات في صيف نفس العام. ويتابع صديقه أيمن بالقول: "كان كريم وقتها يكرر بأنه لم يعد هناك سبب للحياة عندما تنتهي الثورة بانتخاب أحزاب سياسية رجعية". عانى أيمن أيضاً لعدة شهور من الاكتئاب بعد الانتخابات، ومن ثم قرر الهجرة. حصل أيمن على عمل في إسبانيا، ومن ثم ألمانيا. واليوم يعيش ذو الـ 36 عاماً مع عائلته في مدينة آخن الألمانية.

يعرف أيمن ن. الكثير من التونسيين الذين فعلوا مثله، مضيفاً: "لو كان لدينا أمل بأن الوضع سيتحسن، لم نكن لنترك البلد ولكنا قد ناضلنا ... لكن انعدام الأمل أجبرنا على ترك وطننا، وأجبر البعض على ترك الحياة بأكملها".

 

بعد مرور خمس سنوات من انتحار محمد البوعزيزي أقدم شاب تونسي آخر يدعى رضا اليحياوي على الانتحار بعد إقصائه من قائمة المنتدبين للوظيفة العمومية.  Foto: Reuters/A. Ben Aziza
كالنار في الهشيم: في 17 ديسمبر / كانون الأول عام 2010 أشعل بائع شاب يائس يدعى محمد البوعزيزي النار في نفسه، مطلقاً بانتحاره شرارة ثورة في تونس، امتدت فيما بعد إلى عدد من الدول العربية. وبعد مرور خمس سنوات على ذلك اليوم، أقدم شاب تونسي آخر يدعى رضا اليحياوي على الانتحار بعد إقصائه من قائمة المنتدبين للوظيفة العمومية. موته أشعل احتجاجات في مدينته القصرين ومدن فقيرة أخرى – مدن ساهمت في الماضي في الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي.

 

بلغ عدد من حاولوا الانتحار أو أقدموا عليه في تونس في عام 2018 المنصرم 467 شخصاً. لكن الرقم الخفي أكبر بكثير، بحسب ما تقول نجلاء عرفة، المنسقة في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

يقوم المنتدى بجمع إحصاءات عن حالات الانتحار كل شهر، وذلك من خلال التقارير الإعلامية أو مباشرة من عائلة المنتحر. الانتحار في الإسلام محرم، وما يزال من التابوهات المجتمعية في تونس. عندما يقدم أحدهم على الانتحار، عادة ما تحاول العائلة التظاهر بأنه حادث، ويقوم الأطباء بإخفاء السبب الحقيقي للوفاة، طبقاً لعرفة.

تحاول المنسقة تغيير ذلك، إذ تقول: "يهمنا أن نوضح للناس بأن التفكير في الانتحار ليس أمراً مخزياً، وأنهم ليسوا الوحيدين الذين يشعرون بذلك". كما ترى نجلاء عرفة أن على من يفكر في ذلك الاعتراف بأن لديه مشكلة، وأن يتحدث عنها وأن يطلب المساعدة. لكن تخفيف معاناة الناس ليس واجب الأطباء النفسيين، كما تعتبر عرفة، بل واجب الدولة: "الأمر يتعلق هنا بالحقوق الأساسية: حق العيش الكريم وحق التعليم وحق العمل. كل ذلك يتم التشكيك به".

منذ قيام الثورة في تونس، تمكنت منظمات مثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من الحديث عن هذه الظروف السيئة دون الخوف من أي قمع. لكن نجلاء عرفة لا ترى في هذه الحرية الهدف الأسمى، بل وسيلة لتحقيق غاية: "نحاول بناء جسور بين الجهات الحكومية والشعب. هذا برأيي هو هدف الديمقراطية – إسماع صوت الشعب للحكومة كي تقوم بتغيير الظروف".

 

 

حنا الهيتمي

ترجمة: ياسر أبو معيلق

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de