الشعبوية تلتهم أبناءها الباكستانيين؟
جاء اعتقال رئيس الوزراء الباكستاني السابق عمران خان في التاسع من أيَّار/مايو 2023 مُفاجئًا، ولكنه لم يكن غير متوقع. عندما وصل عمران خان لجلسة استماع في المحكمة العليا في إسلام أباد، حاصره مئات من أعضاء وحدة شبه عسكرية وأخرجوه من مبنى المحكمة.
وذُكر رسميًا أنَّ عمران خان قد تم اعتقاله بناءً على مذكرة توقيف في قضية فساد، ولكن على الأرجح أنَّ السبب غير الرسمي هو انتقاداته الشديدة لقيادة الجيش، التي يتَّهمها عمران خان بمحاولة اغتياله.
وأثار اعتقال عمران خان مظاهرات في جميع أنحاء باكستان، قام بها أنصاره الذين خاضوا معارك شوارع مع الشرطة. غير أنَّ غضبهم انصبَّ أيضا على الجيش الذي ردَّدوا شعارات صاخبة ضدَّه. وقد هاجم الحشد الغاضب مراكز الشرطة والمباني الحكومية والمنشآت العسكرية.
وتعرَّض في لاهور المقر التاريخي للقائد العام (والمسمى أيضًا باسم "جناح هاوس" على اسم الأب المؤسِّس لباكستان محمد علي جناح) للنهب والحريق. وحاولت في مدينة روالبندي مجموعة من الغوغاء اقتحام المقر الرئيسي للقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة. ومات في هذه الاشتباكات عدة أشخاص وكذلك جُرح واعتُقل المئات.
وبعد الإفراج عنه بعد أيَّام قليلة بناءً على أمر من المحكمة الدستورية العليا، كرَّر عمران خان من جديد اتهاماته لقائد الجيش الجنرال عاصم منير مدَّعيًا أنَّ لديه حقدًا شخصيًا على حزب حركة الإنصاف الباكستانية. وقد كان هذا منعطفًا حرجًا في العلاقات بين عمران خان وداعميه السابقين - أي قادة الجيش.
وجاءت بسرعة ردة فعل الجنرالات والحكومة، حيث تم في الأيَّام التالية إلقاء القبض على جميع قادة حركة الإنصاف الباكستانية تقريبًا، بالإضافة إلى اعتقال آلاف المتظاهرين والمتعاطفين معها.
وأعلن بالإضافة إلى ذلك قائدُ الجيش في اجتماع عسكري عن أنَّ المدنيين المشاركين في تدمير منشآت عسكرية ستتم محاكمتهم أمام محكمة عسكرية. لم يكن من الممكن تصوُّر مثل هذا التصعيد قبل بضعة سنين فقط في باكستان.
فشل مشروع عمران خان
بالكأد مرَّت أربع سنين عندما كان عمران خان يؤكِّد من دون كلل بعد فوزه في الانتخابات على أنَّه والمؤسَّسة (تعبير ملطف للجيش) يسيران على خط واحد. من المعروف أنَّ حزب عمران خان -حزب حركة الإنصاف الباكستانية- قد وصل إلى السلطة بمساعدة الجيش. كما أنَّ الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية، الجنرال فايز حميد، يعتبر هو العقل المدِّبر وراء انتصار عمران خان.
لقد سبق انتصار حزب حركة الإنصاف الباكستانية صراعٌ على السلطة بين قيادة الجيش ورئيس الوزراء الأسبق نواز شريف، أدَّى إلى اتهام نواز شريف وأعضاء حكومته واستبعادهم واعتقالهم بتهم فساد مختلفة، تمامًا مثلما يحدث حاليًا مع عمران خان وحزبه. وفي ذلك الوقت، أقسم عمران خان على أنَّه يريد مكافحة الفساد والهياكل المافيوية.
واجتذبت وعود عمران خان الشعبوية في حملته الانتخابية وكذلك جاذبيته كنجم كريكيت سابق بشكل خاص الناخبين الشباب من النخب الباكستانية إلى حزبه، حزب حركة الإنصاف الباكستانية.
ومع ذلك فإنَّ حكومة عمران خان لم تكن ديمقراطية قط. فقد تم خلال فترة ولايتة التي استمرَّت ثلاث سنين تقريبًا اضطهاد الصحفيين الناقدين والسياسيين المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان والأقليات الدينية أكثر بكثير مما حدث لهم خلال السنين السابقة. وأحبَ نجم الكريكيت عمران خان توزيع الوظائف الرئيسية في حزبه وحكومته على المقرَّبين منه، مما أثار استياء رفاقه القدامى.
وانتشرت بسرعة اتهامات بالفساد ضدَّ سياسيين رفيعي المستوى في حركة الإنصاف الباكستانية. ولكن عمران خان كان يقلل دائمًا من أهمية هذه الانتقادات ويعوِّل بدلاً من ذلك على داعميه في الجيش. فهو لم يكن في نهاية المطاف معنيًا بالديمقراطية بل بالحفاظ على سلطته السياسية. وعمران خان لا يزال يراهن حتى الآن على تلك الأطراف العسكرية المتعاطفة معه، ولذلك فهو يؤكِّد على أنَّه لا يريد انتقاد مؤسَّسة الجيش بل فقط انتقاد تلك الدوائر التي تريد مضرَّته.
وأدَّى بعد بضعة أشهر الخلاف العلني مع قائد الجيش قمر جاويد باجوا بشأن تعيين رئيس لجهاز الاستخبارات العسكرية إلى تصويت في البرلمان بحجب الثقة عن عمران خان وكانت نتيجته الأطاحة بحكومة عمران خان. ولكن ما لم تكن تتوقَّعه المؤسَّسة العسكرية هو على الأرجح مدى الزخم الذي اكتسبته شعبوية حزب حركة الإنصاف الباكستانية.
لقد غذى حزب حركة الإنصاف الباكستانية والجيش أيضًا هذه الشعبوية باستمرار في السنوات الأخيرة، مما أدَّى أيضًا إلى بعض الاستقطاب في داخل المؤسَّسة. لذلك يعلن اليوم الكثير من الضبَّاط السابقين وأقاربهم عن دعمهم لحزب عمران خان وينتقدون تصرُّف الجنرالات. لم تشهد باكستان من قبل انتقادات بمثل هذا الحجم لقيادة الجيش من داخل صفوفه.
وأنصار عمران خان متعصِّبون إلى درجة تتجاوز الحدود المجتمعية بحيث أنَّهم يعرفون كيف يُبرِّرون كلَّ خطأ يرتكبه معبودهم. لقد صدَّقوه حتى عندما أوهمهم بوجود مؤامرة أمريكية خلف الإطاحة به. وغيَّر في وقت لاحق هذا الادِّعاء عدة مرات وسعى مؤخرًا إلى الحصول على دعم من أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي في معركته على السلطة.
من الملفت للنظر وجود تشابه بينهم وبين مؤيِّدي دونالد ترامب الراديكاليين في الولايات المتحدة الأمريكية. لم تتمكَّن حتى الآن حكومة شهباز شريف الجديدة وقيادة الجيش من فعل الكثير لمواجهة ذلك. كما أنَّ دعاية حزب حركة الإنصاف الباكستانية منتشرة في كلِّ مكان على شبكات التواصل الاجتماعي.
هل يتم القضاء على حركة الإنصاف الباكستانية؟
واعتقال عمران خان كان يعني بالنسبة لأنصاره تجاوز خط أحمر. وفي المقابل كانت بالنسبة للمؤسَّسة الهجمات على المنشآت العسكرية في التاسع من أيَّار/مايو 2023 هي الخط الأحمر. وجاءت بما يتناسب مع ذلك قسوة الإجراءات المتَّخذة ضدَّ حزبه. ومحاولة إنهاء مشروع عمران خان نابعة أيضًا من رغبة المؤسَّسة في إنهاء الاستقطاب في داخل صفوفها. ولذلك فهي تحاول حاليًا بالترهيب والاعتقالات القضاء على زعماء حزب حركة الإنصاف الباكستانية.
لقد ترك في الأيَّام الأخيرة الحزب أعضاء بارزون فيه وأقرب المقرَّبين من عمران خان، هم شيرين مزاري وفؤاد شودري وأسد عمر. ويوجد في السجون آلاف آخرون من أعضاء حزب حركة الإنصاف الباكستانية. ولذلك بات الوضع يزداد صعوبة بالنسبة لعمران خان. والآن أصبح بعض أعضاء الحكومة يتحدَّثون بصراحة حول احتمال حظر حزب حركة الإنصاف الباكستانية.
من المفارقات أنَّ حزب نواز شريف -الذي تم عزله من منصبه في السابق بسبب انتقاده للجيش- صار يُبرِّر الآن إجراءات القوات المسلحة. وهكذا طوى النسيان شعار نواز شريف المناهض للمؤسَّسة "احترموا الانتخابات"، الذي كان موجَّهًا قبل بضعة سنين ضدَّ تدخُّل الجيش في السياسة.
تستمر الممارسات غير الديمقراطية في باكستان في إثارة أزمات سياسية، ولذلك يتساءل الكثيرون إن كان الوقت قد حان حتى تتعلم جميع مؤسَّسات الدولة من أخطاء الماضي وتؤدِّي مسؤولياتها الدستورية.
وأكرِّر هنا أيضًا أنَّ باكستان بحاجة إلى إصلاحات جذرية وإعادة تفكير جذرية في سياساتها؛ وإلَّا فإنَّها لن تكون قادرة على التقدُّم.
محمد لقمان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023
محمد لقمان باحث في الدراسات الإسلامية وخبير في شؤون جنوب آسيا، يركِّز بحثه بشكل خاص على باكستان.