إعادة التفكير في الثورات العربية
"مررت مع صديق ذات يوم بأحد أحياء الطبقة العاملة في مانشستر وتحدثت إليه عن هذه الأحياء الفقيرة التي يعيش فيها العمال، فقلت: أشهد أنني لم أرَ منظراً مقززاً مثل هذا في حياتي. فرد صاحبي قائلاً: ومع ذلك فإن كثيراً من الأموال تُصنع في هذا المكان". يلّخص هذا المقطع من الكتاب الشهير لفريدريك إنغلز (حالة الطبقة العاملة في إنكلترا، 1844) واقع الثورات والانتفاضات العربية الراهنة. فالثورات يقوم بها الضعفاء والفقراء ويجني ثمارها الأغنياء والأقوياء.
ليس هدف الثورات مجرد الإطاحة بالأنظمة السلطوية وإنما بناء أنظمة بديلة تحترم كرامة الفرد وتحمي حريته. وما لم يتحقق هذا الهدف، فإن ثمة خللاً جوهرياً في فهمنا للثورات. لذا فإن ما يجري الآن في العالم العربي يمكن وصفه بثورات "الحد الأدنى" التي حققت النصف الأول من العبارة السابقة وهو إسقاط الأنظمة السلطوية، في حين لا يزال النصف الثاني محلّ اختبار عسير. لا نريد أن نبخس الشهداء والجرحى حقهم، فهم طليعة هذه الأمة وورودها التي تفتّحت في حدائق الحرية والكرامة بعد عقود من الامتهان والذل، بيد أن ما يجري الآن لا يبشّر بـ "ربيع" عربي يمكن أن يفضي إلى ديموقراطية راسخة.
أهداف الثورة
لم يكن الهدف من ثورتي تونس ومصر مجرد التخلص من أنظمة بائسة تيبّست عروقها وشاخت رؤوسها وبات إسقاطها فرض عين على كل حرّ وقادر، وإنما من أجل بناء مجتمع جديد يضمن ألا يُعاد فيه إنتاج آليات الاستبداد وثقافته مجدداً. بيد أن ما نشهده الآن في كلا البلدين يشي بأن الثورتين كانتا مجرد خدشٍ في القشرة الخارجية للمجتمع، ولم تصلا بعد إلى أعماقه. فقد أنجزت الشبيبة ثورتين بيضاوين أطاحتا رأسي النظام في كلٍ من البلدين، بيد أن هذا المد الثوري لم يصل إلى ثنايا المجتمع وعمقه، ولا تزال القوى التقليدية كالأحزاب والجماعات السياسية والدينية وطبقات الأغنياء ورجال الأعمال والمؤسسات البيروقراطية على حالها تعيش على "العفن" السلطوي الذي خلّفته أنظمة القمع والإذلال. لذا، فمن الطبيعي أن نشهد اشتباكات وخلافات بين الفرقاء والقوى السياسية والدينية في البلدين، فهؤلاء لم يتغيروا ولم يغيّروا أفكارهم وخطابهم بعد أن ظنوا أن الثورة قد أُنجزت بمجرد إسقاط النظام.
الآن إذا ذهبت إلى "الأطراف" التي أشعلت الثورة من سيدي بوزيد إلى ضواحي القاهرة والسويس وبني سويف والمحلة، ستجد الأحوال كما هي إن لم تكن قد ازدادت سوءاً بعد الثورة. في سوق سيدي بوزيد ستجد "عربة الخضار" نفسها التي كان يقف خلفها محمد البوعزيزي قبل أن يشعل النار في نفسه ويشعل معه ثورات "الربيع" العربي، وستجد بوعزيزي آخر بنفس ملامحه وهيئته الرثّة. وفي ضواحي القاهرة والسويس ستتعثر أقدامك فى "عشش" الصفيح وعشوائيات حي "الأربعين"الذي شهد وقوع أول ضحايا الثورة المصرية. وستجد نفس العائلات الفقيرة والوجوه البائسة التي أشعلت الثورة وقد ازدادت فقراً وخوفاً بعدما غاب الأمن وانتشرت "البلطجة" وطغت الجريمة وكأن شيئاً لم يتغير.
بينما لو ذهبت باتجاه "لمركز" حيث تونس العاصمة والقاهرة، ستجد نفس الوجوه والشخوص والقوى الهزيلة التي اختبأت طيلة الثورة ولم تخرج إلا بعد سقوط رأسي النظامين، تسعى الآن كي تحصد ثمار الثورة وتحل محلّ النظامين الراحلين. في القاهرة يكفيك أن تُطلق عبارتين زاعقتين في "ميدان التحرير" وتدلي بتصريحين للفضائيات "المتجولة" ليلاً، كي تصبح بين عشية وضحاها من علية القوم وتتم دعوتك للمشاركة في جلسات الحوار الوطني.
مؤتمرات.....الوجوه القديمة
شباب الثورة باتوا أشباحاً لا نعرف هويتهم وحقيقتهم، وشيوخها يعانون مراهقة سياسية. في مصر عقدت ثلاثة مؤتمرات للحوار كلها تدّعي المعرفة والجدارة بالنظر في أمور الوطن، وكلها تتحدث باسم جماهير الثورة وشبابها في حين يديرها بقايا جيل ثورتي 1919 و 1952. المؤتمر الأول حمل عنوان "الحوار الوطني" يديره عبدالعزيز حجازي رئيس وزراء مصر الأسبق قبل أربعين سنة، (مواليد 1923 أي ان عمره 88 عاماً) وكانت إدارته للحوار أشبه بدردشة عائلية. والمؤتمر الثاني حمل عنوان "الوفاق القومي" يديره يحيى الجمل نائب رئيس الوزراء الحالي ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في عهد مبارك، (مواليد 1930 أي ان عمره 81 عاماً) والذي يدير الحوار وفق منطق استفرادي واستعلائي لا مكان فيه للحوار أصلاً. الأول (حجازي) ادّعى أنه شارك في الثورة من خلال نافذة بيته التي تطل على "كوبري" قصر النيل وميدان التحرير، والثاني (الجمل) يصف نفسه بحامي حمى الثورة المصرية وأنه "جبل" لا يتزعزع، في إشارة إلى الأصوات التي تنادي بإقالته. أما المؤتمر الثالث فقد حمل عنوان "مؤتمر مصر الأول" وأداره المهندس ممدوح حمزة (مواليد 1947، أي عمره 64 عاماً) وقد أدار الحوار على طريقة"التسلية في أوقات الفراغ".
المتحاورون يمثلون نفس الوجوه القديمة، والهابطون من فوق منصات «ميدان التحرير»، بعضهم أخرجته الثورة من غياهب النسيان وبعضهم لم نسمع عنه إلا عبر الفضائيات. التغيير فقط هو في الأسماء والوجوه وليس في طريقة اختيار المشاركين أو التوصيات والسياسات.
أما في تونس فلا يزال فؤاد المبزع (78 عاماً) رئيساً للجمهورية بالأمر الواقع، في حين يتولى رئاسة الوزارة الباجي قائد السبسي (85 عاماً)، وكلاهما من بقايا العهد الكولونيالي. وحتى الآن لم يحدث في تونس أي تغيير حقيقي يمكنه أن يترجم أهداف الثورة إلى واقع. بل المؤسف أنه لم يتحقق الحد الأدنى لمطالب الثورة وهو محاكمة رموز العهد البائد وفي مقدمهم زين العابدين بن علي وأفراد أسرته على جرائمهم طيلة العقود الماضية. في حين يزداد الاستقطاب والاحتقان بين الإسلاميين والعلمانيين حول هوية البلد ومستقبل نظامه السياسي وكأن شيئاً لم يتغير.
"خريطة طريق سياسية"
في مصر أيضاً لا تزال القوى السياسية عاجزة عن الاتفاق والإجماع الوطني حول وضع «خريطة طريق» للتحول الديموقراطي، في حين يبدو "المجلس العسكري" مجرد حارس للسلطة يخشى أن تذهب بعيداً عنه أو يستأثر بها غيره. الجميع يفكر بعقلية ما قبل ثورة 25 يناير وهي عقلية "الحد الأدنى". لا توجد أفكار ثورية ولا قيم ثورية ولا عقلية ثورية. توجد فقط وجوه قديمة وأفكار مُستهلَكة وعقليات بالية. "الإخوان المسلمون" لم يتغيّروا قيد أنملة ويستعدون لقطف ثمار الثورة ويهيمن على تصريحاتهم وسلوكهم منطق الاستقواء والاستعلاء في شكل مفزع. والأحزاب "الكرتونية" تدّعي الآن "بطولة" زائفة من أجل الحصول على نصيبها في السلطة، في حين تبدو النخبة السياسية والفكرية مشغولة بتأمين مصالحها الفردية.
أما في تونس فلا تزال القوى والوجوه التقليدية تصارع من أجل حجز مقعدها في الجمعية التأسيسية التي كان أعلن عن إجرائها في 24 تموز (يوليو) المقبل ثم اعلن عن تأجيلها الى 16 تشرين الاول (اكتوبر). وحتى الآن لم يحدث أي حوار جاد بين القوى السياسية من أجل الاتفاق على ملامح الشكل الجديد للدستور. في حين فشلت الثورة التونسية في إنهاء عقود من الشك المتبادل الذي وصل حد "الهوس" من الإسلاميين، على رغم تأكيداتهم المتكررة باحترام مدنية الدولة.
لم تلمس ثورتا مصر وتونس عروق المجتمع ولم تنسابا في شرايينه كي تتحولا من ثورة سياسية هدفها الإطاحة برأس النظام وحاشيته، إلى ثورة اجتماعية تطيح بما تركه هذا النظام من ثقافة وبنية اجتماعية ومنظومة قيمية حوّلت المجتمعات إلى جثة هامدة وقوة عاطلة عن التفكير والحركة. لذا فلا مناص من أن تكتمل الثورتان بحيث يقرع جرسهما كل باب ويحرّك زخمهما كل نفس وتحلّ قيمهما الجديدة (الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية) محلّ المنظومة القيمية الفاسدة التي أنتجتها عقود طويلة من القهر والاستبداد.
خليل العناني
حقوق النشر: صحيفة الحياة اللندنية 2011